من علم ورأى عموم أن الله تعالى خالق كل شيء، وأن الخلق لا يُعجزونه ولا يخرجون عن قدَره؛ تحرر قلبه من ضغوظ الفتنة المعاصرة بالعلم وتوجه بكافة نفسه لله رب العالمين.

مقدمة

يتيه البعض أو يزيغ البصر أحيانا عن عظمة الله وقدرته. كما يُجب البعض بالكشوف العلمية لبعض من قوانين الله تعالى التي أودعها في هذا العالم. كما يعظم بعض الخلق في عيون الناس بسبب ما يقال عن تصنيع بعض الأمراض مثل فيروس “كورونا”.

ولهذا أردنا في هذا المقال بيان عموم خلق الله وعدم خروج شيء عن قبضته؛ وبالتالي يظهر للمؤمن أنه أصح من التوجه اليه ولا أحق من التعلق به سبحانه.

الله تعالى يخلق بأسباب وبغير أسباب

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

“ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها، فإن الله سبحانه قادر أن يخلق ما يخلقه بيديه وقادر أن يخلق ما يخلقه بغير يديه. وقد وردت الأثارة من العلم بأنه خلق بعض الأشياء بيديه وخلق بعض الأشياء بغير يديه..”. ثم نقل رحمه الله أثر الدارمي «خلق الله أربعة أشياء بيده : العرش، والقلم، وآدم، وجنة عدن، ثم قال لسائر الخلق: كن فكان». انتهى (1بيان تلبيس الجهمية1/ 513)

تنوع طرق خلقه تعالى

إن الله يُجري أقداره ويخلق ما يشاء من المخلوقات والأحداث والأقدار..

1) فقد يخلق الله تعالى مخلوقات بيده الكريمة، كما خلق آدم بيده، وخلق العرش والقلم بيده، وكما غرس جنة عدن بيده الكريمة سبحانه.

2) ويخلق تعالى ما يشاء بقوله (كُنْ فَيَكُونُ).

3) وقد يخلق تعالى ما يشاء بتوسيط ملائكته الذين هم أقوى خلقه وأطوعهم له، وهم لا يعصونه فيما أراد (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) ولا يعجزون عن القيام بما أمرهم به (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6).

وكما جاء عن الله ورسوله وعن الصحابة والتابعين أن لله ملائكة موكلة بالرياح، وأخرى بالبحار، وأخرى بالجبال، وأخرى بالمطر النازل من السماء ـ ميكائيل ومن معه من الملائكة ـ بل بكل قطرة معها ملَك.

وفي كل هذا هناك ما يُجريه الله من الأسباب من حرارة وبرودة وقوانين فيزيائية، وهذا لا ينافي ما أمر به ملائكته بما يجريه من الأسباب. فبهذه الأسباب التي خلقها وأجراها يأمر ملائكته أن تفعل ما أمرها به.

وأوضح مثال أن الله تعالى هو خالق الإنسان وهو في بطن أمه، (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) (الزمر: 6) وجاء في الأحاديث أن الله تعالى يوكل ملَكا بكل نطفة؛ فعند النطفة يستأذن ربه ويقول: أي رب، نطفة. ثم حين تأتي لحال العلقة يستأذن ربه فيقول: أي رب علقة، وهكذا في المضغة وما بعدها. ولو أمره الله أن يلقيها ألقاها، ويخلق الله من الأسباب ما يكون سببا لإلقاء الملَك لها أو لاستكمال نضوجها. فلا منافاة بينهما. ولا يصرفْ نظرك الى الأسباب عما أخبر به من جنده، ولا يصرفك ما أخبر به من جنده عما أجراه من الأسباب الظاهرة. وعلى هذا المثال والمنوال تعرف الأسباب وتوقن بما أخبر به. والله هو الخالق لكل شيء.

4) وقد يكون ما يقدّره تعالى ويخلقه بحركات قسرية كأوراق الشجر التي تتحرك بالرياح وأمواج البحر كذلك. ولا يغيب جند الله وملائكته عن هذا؛ فهم أكثر خلق الله عددا.

5) ويخلق الله تعالى ما يشاء بتوسيط بني آدم عموما؛ فالله تعالى امتن علينا بالفُلْك ـ وهي السُفن ـ وجعلها قرينة للأنعام (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) (الزخرف: 12) والسفن يبنيها بنو آدم ويصنعونها. ولكن الله تعالى هو من خلق الآدمي، وجعل له القوى والقدرات والطاقات ما يعمل ويبني، وجعل له السمع والأبصار للعلوم والاستيعاب، وهو تعالى من ألهمه العلوم وكشفها له، وهو تعالى من خلق القوانين التي أجرى عليها هذا العالَم ثم كشفها للعبد وعلمها له، ثم أعانه فأزال له الموانع وأكمل له الأسباب وأنتج له المسبَّب المصنوع. فبمجموع هذا فالله تعالى وسّط بني آدم في هذا العمل، وهذه الأمور كلها مخلوقة لله.

وعلى هذا فكل مصنوعات بني آدم بمصانعهم وإنتاجهم ـ مهما استضخموه ـ هي مخلوقة لله تعالى.

ولو استحضرت في هذا الحديث في السنن أن القصعة أو الإناء يستغفر للعبد إذا سلَت ما بقي فيها من الطعام حتى لا يُرمَى ويُهدَر، (2رواه الترمذي وابن ماجه) كما ورد في الحديث أن لها عمرها وقدَرها؛ فأصبح ما يكون من القصاع والآنية لها ذكرها وتسبيحها بما يعني أنها مخلوقة لله تعالى ولو توسَّط في صنعها ما شاء الله من خلقه الذين وهبهم وجودهم وسمعهم وأبصارهم (قُوى إدراكهم) وأيديهم وأرجلهم (قُوى أعمالهم) وألهمهم وعلمهم ما خلقه من القوانين، وأعانهم فأنتجت أعمالهم مسببَاتها.

ومثال آخر على هذا أن الله هو خالق الدروع التي علمها لداوود عليه السلام؛ فقال (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (النحل: 81) والله تعالى هو من علمها لداوود وأقدره عليها وألان له الحديد ليصنعها وعلَّمه إتقان صنعتها (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) (سبأ: 11) لا تجعل عُراها واسعة ولا ضيقة لئلا يكون هناك خلل ولئلا تنكسر على لابِسها.

فامتن الله بخلقها، وهو قد خلقها بتوسيط بعض خلقه، وهو نبيه داوود عليه السلام.

6) وقد يخلق تعالى ما يشاء من الأقدار بتوسيط مدافعة الخلق بعضهم لبعض وما يأذن به من نفوذ مكر بعض المجرمين؛ وهذا يُغضبه تعالى ويُسخطه على فاعله، لكن لم يخرج عن قدَره، وكان بعلمه ومشيئته القدَرية لما يرتبه تعالى عقوبة لمخالفات عباده. وهذا تراه في تدافع المجتمعات وطبقاتها وفئاتها واضحة؛ كما قال تعالى (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (الأنعام: 65).

وهنا يأتي وباء “الكورونا” فسواءا كان بسبب سماوي محض بلا تدخل بشري؛ أو بتدخل بشري بتسليط بغاة خلقه الجبارين على من خضع لهم ونسي منهج الله. فالله هو الخلاق العليم، ولا ينقص هذا من جرائم العباد شيئا، والله مجازيهم كلا بعمله، وذاك بتقصيره، والله هو من يُتوجه اليه، كما تدافع الأسباب بأسباب مقابلة، كما سترى في خاتمة المقال.

7) وقد يخلق تعالى أحداثا وأقدارا بتوسيط عباده المؤمنين؛ كما قال تعالى (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ) (التوبة:24) فأوصل تعالى عذابه لأعدائه بيد أوليائه. وهذا بأمره وإذنه الشرعي ، وبعلمه وإذنه القدَري ومعونته. مع خصوصية أن لهذا العمل المقدّر حب الله ورضاه للعمل ولأصحابه.

وكذلك كما قال سبحانه (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء: 75) فحض الله المؤمنين أن يجاهدوا في سبيله وفي سبيل استنقاذ المستضعفين؛ فإن فعلوا أجرى الله تعالى بهم قدَره وأوصل للمستضعفين إجابة دعائهم بتوسيط عباده المؤمنين ـ وهذا لا يمنع أنه إن قصَّر المؤمنون فلله تعالى أقدارٌ أخرى ينجي بها عباده المسضعفين ويعاقب من قصّر في شأنهم.

وكذلك قوله (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (التوبة: 52)؛ ففي الحالين هما قدر الله وإصابته لأعدائه؛ منافقين وكفارا؛ إما بأسباب غيبية محضة، وإما بتوسيط عباده المؤمنين؛ فيأجرهم ويعينهم ويُجري بهم قدَره.

8) وقد يُجري الله تعالى ما قدّره على يد أعدائه من الكفار. ولا تتعجب من هذا. فما يقوم به كافر ولا فاسق ولا محاد لله تعالى؛ إلا بعلم الله وإذنه القدَري. ولهذا يقول تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) ويقول (وَلَوْ شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ) وغيرها من الآيات.

فإن سألت هل هل ما يفعلونه محبوب لله..؟

فالجواب: قطعا لا.

فإن سألت فلماذا أذِن بهذا..؟

فالجواب: لِما قدَّره تعالى عليه من غايات حميدة تترتب على وجوده.

وأوضح مثال لهذا ما أخبر ربنا تعالى عباده المؤمنين أنه قدَّر لهم من البلاء ليميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، وأنه يبتلي عباده المؤمنين ليمحص ما في صدورهم ويبتلي ما في قلوبهم.

وهذا البلاء إنما جرى من خلال جرائم أعدائه، التي يستحقون عليها عذابه وانتقامه وغضبه وسخطه، عدلا منه تعالى. ولكنه أذن فيها قدَرا وخَلقا لما يترتب عليها من تمييز الصادق من الكاذب وتمحيص الصفوف وجزاء المؤمنين بأجور لم تبلغها أعمالهم، من خلال صبرهم على أقداره وعلى أذى أعدائه، صبرا يبتغون به وجهه تعالى.

ويتبين بها عبوديات لم تكن لتظهر إلا بما قدّره بحكمته وأذن فيه أن يكون على يد أعدائه؛ فيظهر من أوليائه اللجأ اليه، وإيثار مرضاته، واليقين بوعده بالجنة والنار، والثقة في وعده، وانتظار فرَجه وتنفيثه، ودعائه والضراعة اليه، وصدق محبته، ورؤية حكمته، وبذل النفس والدم  وبذل الأموال قربانا اليه، والتواصي على الطريق اليه.. الى آخر العبوديات والأحوال التي لم تكن لتظهر إلا بما قدّره تعالى ولو بتوسيط أعدائه فإنه وإن غضب على أعدائه وسخط عليهم فهذا لا ينافي أنه لا يكون إلا بعلمه وإذنه (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 102).

دور المدافعة

فإن ضممت الى هذا قيام المؤمن بما أمره الله به فهو أيضا إنما يندفع بقدَر الله كمواجهة قدر الله في الطاعون بعدم الخروج من البلدة للمقيم فيها، وعدم الدخول اليها ممن هو خارج عنها. وكأسباب التداوي ورفض الظلم والسعي في الخير وتحصيل العلم والرزق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

ومواجهتُه لما قدّره تعالى بتوسيط أسباب أخرى كالمرض، أو على يد أعدائه؛ هي مواجهة مأمور بها، وهي من قدر الله، ولها معونة خاصة. وتمتاز بأن معها محبة الله ورضاه، بخلاف ما يقوم به أعداؤه فلهم السخط والغضب.

وقيام المؤمن بما يقوم به من المدافعة بالأسباب لا يكون مندفعا وحده، بل متوكلا على الله فهو بالله ومعونته أقوى من غيره، وهو واثق في ربه ومحسن للظن به فيما يقدّره تعالى على يديه وبما تُنتج أسبابه من مسبَبات، وراضٍ بقِسمته، ويعلم أن للآخرة مساحتها الكبيرة في مقياسه الأمور. وهذا أمر فارق.

كما أن توكله على الله ومعونة رب العالمين له أمر فارق في عِظم الأثر وتيسير الأقدار وحسن تدبير الرب تعالى له خصوصا وللمؤمنين عموما. فتجد سعي المؤمن ـ وخير مثال على هذا سعي الأولين من الصحابة ثم من تبعهم بإحسان من مجاهدين وعلماء ودعاة ـ له من الأثر المبارك ما ليس لغيره، بما يشير اليك أنه قدَر الله العظيم أجراه على يد أوليائه كرامة لهم وتعظيما لأجورهم.

خاتمة

ولِّ وجهك شطر الخلاق العليم، وعلِّق قلبك بمن بيده الأمر كله، ولا يعجزه شيء ولا يخرج شيء عن قبضته وعلمه وإذنه تعالى أحد.

و إذا أيقن العبد أن الله وحده هو أعلم بمصلحته منه، وأرحم منه بنفسه، وأقدر منه على جلب المصالح له، وأنصح له من نفسه؛  فما أطيب عيشَه وما أنعم قلبَه وأعظم سرورَه وفرحَه. (3انظر الفوائد لابن القيم ص 114)

……………………………….

هوامش:

  1. بيان تلبيس الجهمية1/ 513.
  2. رواه الترمذي وابن ماجه.
  3. انظر الفوائد لابن القيم ص 114.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة