314- مفهوم 19: الوسطية في العبادة

العبادة في الإسلام وسط بين أهل الجفاء والتفريط فيها، وأهل الغلو والرهبنة:

فالمفرطون في العبادة غرَّتهم الحياة الدنيا وتمسكوا بها ولهثوا وراءها، فكانت مقاييسهم كلها مادية دنيوية؛ وأوضح من يمثل هؤلاء: اليهود الذين قال الله فيهم: (وَلَتَجِدَنَّهُمۡ أَحۡرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٖ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمۡ لَوۡ يُعَمَّرُ أَلۡفَ سَنَةٖ) [البقرة:96]؛ فهم حريصون على (حَيَوٰةٖ) هكذا بالتنكير الذي يفيد حب الحياة أيًّا كانت؛ ولو كانت بهيمية ملؤها الغرائز والشهوات؛ ولهذا استحقوا أن يوصفوا بكونهم (ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ) لرفضهم الامتثال للأوامر الشرعية وتحايلهم عليها من أجل مصلحتهم الدنيوية.

والغالون في العبادة دفعهم غلوهم إلى تحريم ما أحل الله وابتداع الرهبانية؛ كحال رهبان النصارى وعُبَّادهم الذين حرَّموا على أنفسهم النكاح والطيبات من الرزق، ورأوا ذلك رجسًا من عمل الشيطان، فردُّوا نعمة الله عليهم ولم يهتدوا إلى الحق في باب العبادة فاستحقوا وصف: (ٱلضَّآلِّينَ).

فالأولون أهل تفريط وفجور، والآخرون أهل إفراط وغلو وابتداع، وكلٌّ قد حذَّر منهم السلف.

ويتحصَّل مفهوم وسطية العبادة في الإسلام بالنظر إلى نصوص الوحيين في هذا الشأن وجمع بعضها إلى بعض لا العمل ببعضها وترك بعضها الآخر؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (المجاهد من جاهد نفسه) [رواه الترمذي (1687)]، هو نفسه الذي قال للثلاثة الذين سألوا عن عبادته وكأنهم تقالوها فقال أحدهم: أمَّا أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فقال صلى الله عليه وسلم: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) [رواه البخاري (5063)]، فحثَّ في النص الأول على الاجتهاد في العبادة، ونهى في الثاني عن الغلو فيها والرهبنة.

فنهجه صلى الله عليه وسلم قائم على الوسطية والتوازن بين الحقوق والواجبات، وحين قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنه: «إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حقٍّ حقَّه» قال صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان) [رواه البخاري (6139)]. كما أنه صلى الله عليه وسلم أجاز من النذر ما كان مشروعًا وأبطل المبتدع المرفوض؛ فلما رأى رجلًا قائمًا سأل عنه فقالوا: «نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم» فقال: (مره فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه) [رواه البخاري (6704)]، وهذا من وسطية العبادة.

المصدر: كتاب خلاصة مفاهيم أهل السنة – إعداد نخبة من طلبة العلم – 1445

انظر أيضا

مفاهيم حول العبادة ومعناها

موضوعات كتاب: خلاصة مفاهيم أهل السنة

التعليقات غير متاحة