إن الله عز وجل هو الذي خلق الخلق كلهم، ومن ذلك العقل، وهو سبحانه أعلم بما خلق، وهو سبحانه أعلم بحدود هذا العقل وقدراته، وهو العليم بالعقلاء حقا؛ وذلك حسب میزانه سبحانه: الکامل، المتوازن، المنضبط، الصادر عن علمه سبحانه وحكمته وعدله ورحمته.

من صور الميزان الإلهي للعقل والعقلاء والتنوير

أولا: العقلاء في ميزان الله عز وجل هم الذين اهتدوا بهدي الله عز وجل

وفكروا بعقولهم في خلق الله تعالى وما فيه من البراهين والآيات الدالة على وحدانية الله عز وجل، فهداهم الله بذلك إلى عبادته وحده لا شريك له، وآمنوا برسله وكتبه واليوم الآخر، واستعدوا لذلك بالعمل الصالح، ومهدوا لأنفسهم في الدار الآخرة بما يبعدهم عن النار ويقربهم إلى الجنة.

وفي كتاب الله عز وجل العديد من الآيات الواردة في صفات العقلاء وأولي الألباب؛ ومن ذلك:

– قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) [آل عمران: 190 – 193].

– وقوله تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ* وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 19 – 22].

– وقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الروم: 24].

– وقوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9].

– وقوله سبحانه عن هلاك قوم لوط: (وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [العنكبوت : 35].

– وقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : 37].

– وقوله سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة : 164].

ثانيا: العقلاء حقا هم المؤمنون المهتدون إلى ربهم

والآيات التي تفيد بأن العقلاء حقا هم المؤمنون المهتدون إلى ربهم – بما منحهم الله من العقول المفكرة في آيات الله الكونية والشرعية – كثيرة جدا في كتاب الله عز وجل .

ويعرف بمفهوم المخالفة من هذه الآيات ميزان الله عز وجل للسفهاء وضعاف العقول أو فاقديها؛ حيث وصف الله عز وجل من لم يهتد بهداه – سواء كان عن جهل أو إعراض أو إباء واستكبار – بأنه فاقد العقل سفيه أحمق؛ لأنه لا أسفه ولا أحمق ممن رأى ما ينفعه فأعرض عنه، ورأى ما يضره فأخذ به، ورضي لنفسه بعذاب جهنم في الآخرة.

ومن الآيات الكثيرة التي وصف الله عز وجل بها الكفار العصاة بالسفه وضعف العقل أو عدمه ما يلي:

– قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].

– وقوله سبحانه: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].

– وقوله سبحانه عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10].

– وقوله عز وجل: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ)[البقرة: 130].

– وقوله سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ) [البقرة : 13].

– وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170].

– وقوله سبحانه: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) [المائدة: 58] .

 – وقوله سبحانه: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال: 22].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: «فلا يسمى عاقلا إلا من عرف الخير فطلبه، والشر فترکه؛ ولهذا قال أصحاب النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10]، وقال عن المنافقين: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) [الحشر: 14]. ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ما له عقل»1(1) مجموع الفتاوی 7/24 ..

وقال سفيان بن عيينه – رحمه الله تعالى -: «ليس العاقل الذي يعرف الخير والشر، إنما العاقل الذي إذا رأى الخير اتبعه، وإذا رأى الشر اجتنبه»2(2) حلية الأولياء 8/339..

وقال وكيع – رحمه الله تعالى -: «إنما العاقل من عقل عن الله أمره، ليس من عقل أمر دنياه»3(3) الحلية 8/370 ..

ويقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – وهو يذكر عقوبات الذنوب: «ومن عقوباتها أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل؛ فلا تجد عاقلين : أحدهما مطيع لله والآخر عاص، إلا عقل المطيع منهما أوفر وأكمل، وفكره أصح، ورأيه أسد، والصواب قرینه .ولهذا تجد خطاب القرآن إنما هو لأولى العقول والألباب؛ كقوله: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197]، (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة: 100]، وقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7]، ونظائر ذلك كثيرة.

وكيف يكون عاقلا وافر العقل من يعصي من هو في قبضته وفي داره ، وهو يعلم أنه يراه ويشاهده، فيعصيه وهو بعينه وغير متوار عنه، ويستعين بنعمه على مساخطه، ويستدعي كل وقت غضبه عليه، ولعنته له، وإبعاده من قربه ، وطرده عن بابه، وإعراضه عنه، وخذلانه، والتخلية بينه وبين نفسه وعدوه، وسقوطه من عينه، وحرمانه روح رضاه وحبه، وقرة العين بقربه، والفوز بجواره، والنظر إلى وجهه في زمرة أوليائه، إلى أضعاف أضعاف ذلك من کرامته أهل الطاعة، وأضعاف أضعاف ذلك من عقوبة أهل المعصية .فأي عقل لمن آثر لذة ساعة أو يوم أو دهر . ثم تنقضي كأنها حلم لم یکن – على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم؟ بل هو سعادة الدنيا والآخرة . ولولا العقل الذي تقوم به عليه الحجة لكان بمنزلة المجانين، بل قد تكون المجانين أحسن حالا منه وأسلم عاقبة»4(4) الجواب الكافي ص 113، 114..

وقال أيضا في نفس السياق: «وقال بعض السلف: ما عصى الله أحد حتى يغيب عقله، وهذا ظاهر؛ فإنه لو حضره عقله لحجزه عن المعصية وهو في قبضة الرب تعالى، أو تحت قهره، وهو مطلع عليه، وفي داره وعلى بساطه، وملائكته شهود عليه ناظرون إليه! وواعظ القرآن ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله، والاستخفاف به ذو عقل سليم؟!»5(5) الجواب الكافي ص86..

الكافر لا يكون عاقلا أبدا

وانطلاقا من هذا الميزان الإلهي للعقلاء، فإنه لا يصلح أن يوصف الكافر والمحاد لله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأنه عاقل؛ إذ كيف يوصف من هذه حاله بالعقل وقد رضي لنفسه بما يضره في الدنيا من الشقاء وعيشة البهائم، وبما يضره في الآخرة من عذاب الله وسخطه. إن هذا لا يمكن أن يكون عاقلا أبدا . نعم يمكن أن يقال إنه ذكي لقن لكنه ليس بعاقل ولا ذكي.

ولذا كم كان شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – ينعي على الزنادقة أو علماء الكلام انحرافهم عن الحق مع ما أوتوا من الفطنة والذكاء، فتراه يقول: «إذا نظرت إليهم بعین القدر والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم، رحمتهم ورفقت عليهم؛ أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) [الأحقاف:26]»6(6) الحموية 5/119..

وعلى هذا، فإن من الخطأ ما يطلقه اليوم بعض کتاب المسلمين عن بعض مفكري الغرب والمستشرقين بأن منهم منصفین وعقلاء. وكان ينبغي أن يقال: إن منهم أذكياء ونابغين، أما أن يوصفوا بالعقل وهم يعرفون الإسلام كما يعرفون أبناءهم ثم لا يؤمنون به ؛ فإنهم بذلك يحكمون على أنفسهم بالسفه وعدم العقل حين تركوا ما يعلمون فيه خيرهم، وبقوا على ما يعلمون فيه ضرره عليهم في الدنيا والآخرة، ومثل هذا لا يمكن أن يكون عاقلا .

ثالثا: وأما میزان الله للنور والتنوير فقد بينه سبحانه في كتابه الكريم أتم بیان

يقول الأستاذ بندر العريدي: «لا شك أن كل من انتسب لدین الإسلام وآمن بمرجعية الوحي يعلم أن النور الحقيقي هو ما كان هبة من الله سبحانه – خالق النور – للأتقياء من عباده (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور: 35] ؛ فهو سبحانه الذي أنقذهم من مسالك الباطل المظلمة إلى درب الحق المنير (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : 257]، وشرح قلوبهم للهداية مستنيرين بنور الله (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) [الزمر: 22]، وتفضل بإنزال كتابه الذي به نور دينهم ودنياهم (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15، 16] فيهديهم إلى طريق النجاة والسلامة، ومناهج الاستقامة، وينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبین المسالك، فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة .

كما قال ابن كثير-رحمه الله – لذا كانت حياة الواحد منهم نور على نور؛ يقول أبي بن كعب في قوله تعالى: (نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ) [النور: 35] فهو يتقلب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة»، وشتان بين من رزقه الله نورا حقيقيا يمشي به في الناس، وبين من كان غارقا في لجج الظلام يتخبط في حياته بغير هدى من الله ؛ كما قال تعالى: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام: 122]؛ يقول ابن كثير: «هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا – أي في الضلالة هالكا حائرا – فأحياه الله ؛ أي أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتباع رسله،(وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) أي: يهتدي به كيف يسلك وكيف يتصرف به … (كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ) أي: الجهالات، والأهواء والضلالات المتفرقة ، (لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) أي: لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه، وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل»7(7) أخرجه أحمد2/176، ورواه الترمذي (2566)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2130). وإذا كان النور الذي يهبه الله لعبده من أعظم مننه عليه، فإن من أعظم العقوبات على العبد أن يحرم نور الله ؛ (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور: 40]. فمن لم يرزقه الله إيمانا، وهدى من الضلالة، ومعرفة بكتابه، فما له من نور؛ أجل هو محروم من النور مهما كان حاملا لأعلى الشهادات الأرضية، وقارئا لمئات الكتب والمدونات؛ فهو يعيش في (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)[النور: 40]، قال أبي بن كعب: «فهو يتقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار».

وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح . فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن ؛ سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه»8(8) مسند أحمد3/7 ، وجود إسناده ابن كثير في تفسيره 3/292 ..

التنوير الحقيقي

لذا كان الأحق بوصف (التنوير) هو من كان معظما لقيم الشرع، وعارفا بمرادات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وراجعا حين التحاكم إلى نور الله: (الكتاب والسنة)،  وساعيا لكل تنوير يفتح للعقل – في حدود طاقته وإمكاناته – آفاق رحبة ومساحات واسعة لا تحيد عن هدايات الوحي المعصوم، ومنطلقا في مشروع البناء الحضاري من رؤية شرعية، من مرجعية الوحي الإلهي الذي يضبط المسيرة، ويحميها من الضلال والانفلات والفهوم المنكوسة، ويبين المنطلق ويحدد الهدف، ويضع الإشارات الهادية على الطريق ليحمي الإنسان من الزلل والسقوط، وحاملا لواء التنوير الذي يرفع المعنويات ويشجع الإبداع، ويشحذ الهمم للمنافسة في مضمار الحضارة وفق رؤية إسلامية للكون والحياة والإنسان. هذا هو التنوير الحقيقي الذي سيمنح الحضارة حاجتها المفقودة ، وينفخ فيها بالروح الغائبة لاسترداد إنسانية الإنسان، والاهتمام به جسدا وروحا، وتحقيق سعادته ؛ لأنه هو معیار الحضارة الحقيقي»9(9) انظر : مقال (التنوير بين الحقيقة والتزييف) بندر العريدي، نقلا عن موقع الإسلام اليوم...

 الهوامش

(1) مجموع الفتاوی 7/24 .

(2) حلية الأولياء 8/339.

(3) الحلية 8/370 .

(4) الجواب الكافي ص 113، 114.

(5) الجواب الكافي ص86.

(6) الحموية 5/119.

(7) أخرجه أحمد2/176، ورواه الترمذي (2566)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2130)

(8) مسند أحمد3/7 ، وجود إسناده ابن كثير في تفسيره 3/292 .

(9) انظر : مقال (التنوير بين الحقيقة والتزييف) بندر العريدي، نقلا عن موقع الإسلام اليوم.

اقرأ أيضا

ميزان العقل والعقلاء في الجاهلية

مجال العقل البشري وحاجة البشر إلى الرسالة

خصائص الميزان الإلهي

 

التعليقات غير متاحة