لا يزال النفاق مرئيا ملموسا، فاعلا مفسدا، بل مدمرا للأمة من داخلها ومهيئا حالها للعدو ليجتاحها ويطعن فيها خناجره؛ فيجب الحذر.

وجود النفاق في كل زمان

يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة: 73، التحريم: 9].

الآية تدل على أن النفاق سيظل موجودا وسيظل محسوسا ملموسا من أشخاص ترى فيهم آیات النفاق.

والنفاق المقصود في الآية ليس قاصرا على النفاق ذي المرامي السياسة والأهداف التسلطية، بل هو النفاق بكافة أشكاله وصوره، عندما يكون موجها إلى الإضرار بالدين وأصحاب الدين، سواء كان صادرا من أهل السياسة، أو من أهل الثقافة، أو أهل الفن والقلم أو حتى بعض المنسوبين للعلم والفتوى.

أوجه الاختلاف بين جهاد الكفار وجهاد المنافقين

وقد وصف الإمام الفقيه المفسر أبو بكر بن العربي رحمه الله واجب الجهاد باللسان ضد المنافقين بأنه فريضة دائمة1(1) أحكام القرآن 2/ 966..

ويعلق الدكتور عبدالعزیز کامل على كلام ابن العربي، فيقول: (وقد تأملت في هذا الوصف فألفيته وصفا دقيقا يحكي فروقا كثيرة بين فريضتي جهاد الكفار وجهاد المنافقين من أوجه متعددة:

– منها أن جهاد الكفار يجيء ويذهب باختلاف الأزمنة والأمكنة وبحسب وجود دواعيه ومسبباته من مداهمة الكفار الصادين عن سبيل الله، أما المنافقون فجهادهم قائم ودائم في السلم والحرب؛ لأن أذاهم للدين موصول في السلم والحرب.

– ومنها أن عداء المنافقين في الغالب مستتر خفي، وعداء الكفار معلن جلي، ولا شك أن المستعلن بالعداء يعطي من يعاديهم فرصة للتحفز والاستعداد وأخذ الحذر، بخلاف من يتآمر في الخفاء، ويموه العداء.

– ومنها أن خطر المنافقين ينطلق من الداخل بين صفوف المسلمين، بينما يجيء خطر الكفار الظاهرين في أكثر الأحيان من الخارج، وخطر الخارج لا يستفحل دائا إلا بمساندة من الداخل.

– ومنها أن عداوة المنافقين شاملة لا تقتصر على جانب دون جانب، فهي تبدأ من الكلمة همزا ولمزا وسخرية وغمزا، وتنتهي إلى الخيانة العظمى بالقتال في صف الكفار وتحت راياتهم والتآمر معهم على المسلمين وكشف أسرارهم.

– ومنها أن جهاد الكفار قد يكون عينيا أو يكون كفائيا، وقد يسقط بالأعذار أو الإعذار، أما جهاد المنافقين فهو غير قابل للسقوط إذا وجدت مسوغاته، فهو واجب على كل مكلف بحسبه، ففي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواریون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»)2(2) مجلة البيان العدد (171) ص8..

الموقف من المنافقين وما هو الواجب نحوهم

ويمكن تفصيل القول في الموقف من المنافقين وما هو الواجب نحوهم في ضوء آية التوبة والتحريم في المواقف الآتية:

أولا: بغضهم وعداوتهم والبراءة منهم ومن صفاتهم وأفعالهم وعدم موالاتهم وهجرهم وهجر مجالسهم ومواقعهم الإعلامية، وهذا من الجهاد القلبي لهم.

ثانيا: فضحهم وتعريتهم وكشف خباياهم ونواياهم ومراقبتهم ورصد مواقعهم وخططهم وأفرادهم، وتحذير المؤمنين منهم وذكر صفاتهم، وهذا ما أفاضت فيه نصوص الوحي كتابا وسنة.

فهم تارة يذكرون باسم المنافقين ووصف النفاق، کہا جاء ذلك في نحو سبع وثلاثين آية، وتارة بوصف (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [محمد: 20]، وهم الرديف والمدد والمخزون الطويل الأمد لمعلومي النفاق حيث ذكر هذا الوصف في اثنتي عشرة سورة من القرآن.

والمتأمل في الحديث عن مرض القلوب في القرآن يستنتج أن هؤلاء لديهم الاستعداد لأن يكونوا معلومي النفاق بما لديهم من أمراض الشهوات والشبهات، ولذلك قرن الله عز وجل مرض القلوب بالمنافقين في أكثر من موضع.

وإذا أطلق مرض القلوب في القرآن فهو يعني النفاق الأكبر عياذا بالله تعالى، ومما يحذره المنافقون ولا سيما منافقو زماننا أن يوصفوا بالنفاق أو يسموا بالمنافقين، إذ هذا أشد عليهم من وصفهم بغير ذلك كالعلمانيين أو الليبراليين.

ثالثا: جهادهم باللسان وما يقوم مقامه من كل وسيلة ترد ما يستطاع من كيدهم وشبهاتهم، وتبين للناس خداعهم وكذبهم وتلبيساتهم، وتقيم الحجة عليهم، وتقمع زيغهم ومخططاتهم.

رابعا: تحذير الناس من المندسين منهم في صفوف المسلمين، ولا سیما في صفوف الدعاة والمجاهدين، وأن يتفقدوا الصف من داخله، ويختبروا بطانتهم، وينقوها من الطفيليات العالقة بها، وأن لا يكونوا سماعين لهم.

وأن لا يقبل منهم جهاد ولا نفقة، وأن لا يمكنوا من مناصب قيادية ولو بعد توبتهم.

خامسا: عدم الدفاع والمجادلة عن المنافقين، كما أوحى الله عز وجل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [ النساء: 107].

سادسا: عدم تسویدهم أو تقريبهم أو الثناء عليهم وتزكيتهم أو مشاورتهم، فعن بريدة بن الحصيب مرفوعا «لا تقولوا للمنافق: سید. فإنه إن يكن سيدا فقد أسخطتم ربکم عز وجل»3(3) رواه أبو داود (4979) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2923)..

سابعا: ينبغي التفريق بين المنافقين في نفاقهم، فمنهم المنافق الخالص، ومنهم في قلبه مرض ونفاق، وقليل من الإيمان، ومنهم الجاهل المخدوع، فليسوا سواء في الحكم والمعاملة.

ثامنا: ترك الصلاة خلفهم، وعدم الصلاة عليهم والاستغفار لهم، إنهم ماتوا على النفاق دون توبة، قال الله عز وجل: (وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ) [التوبة: 84].

تاسعا: العدل والإنصاف معهم، بحيث لا يرمي أحد بالنفاق إلا بدلائل وقرائن بينة، لا بالظنون واللوازم الباطلة، وأن يأخذ الناس بظواهرهم، والحكم لهم بالإسلام في الدنيا حتى تظهر لنا البينة على ردتهم وزندقتهم.

عاشرا: وعظهم وزجرهم ومناصحتهم، لعلهم يتوبون ويتذكرون، قال الله عز وجل: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) [النساء: 63]. ولا بد في توبة المنافقين مع شروط التوبة المعروفة من الإخلاص والإصلاح لما أفسدوه والاعتصام بالله عز وجل. قال الله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 146].

وحدة الكلمة أمام النفاق

الحادي عشر: على الدعاة إلى الله عز وجل ألا يختلفوا في شأن رايات النفاق، وأن يحذروا من الوقوع في حبائل المنافقين، التي ينصبونها باختيار أسماء وصفات لهم، يضللون الناس بها ويظل الإسلاميون يختلفون في معناها وحكمها. بل يجب الاتفاق وإجماع الأمر على تسميتهم بالمنافقين، مهما انتحلوا من أسماء أخرى، واعتبار النفاق بدرجاته وأسمائه صفا واحدا جامعا لكل أصحاب الرايات غير الإسلامية وهذا الاتفاق يشمل:

أ- مواجهة المنافقين بوصفهم يهدمون كليات هذا الدين ومحكماته، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، لما في قلوبهم من الزيغ. وهذا يوجب الحذر من استدراج المنافقين والانشغال بالردود على شبههم وجزئياتهم فحسب، بل يجب التركيز على نقض أصول منطلقاتهم الفاسدة، التي جاءت جزئیات فسادهم إقرارا طبيعيا لفساد أصولهم، التي تقوم على عدم التسليم لشرع الله عز وجل وعدم قبوله مهيمنا على حياة الناس.

ب- الاتفاق على وصفهم بالنفاق والمنافقين، وأن الاختلاف في الحكم عليهم لا يخرجهم عن وصف النفاق.

ج- الاتفاق على أن ظهور علامات النفاق الأكبر من بعضهم محل إنکار المحتسبين وجهاد المجاهدين حسب الأحوال.

د- الاتفاق على عدم إسباغ الشرعية على أوضاعهم المنحرفة عن الدین.

ه- الاتفاق على عدم حسن الظن بهم وعدم تزكيتهم للناس، لأن في ذلك تضليلا وتلبيتا.

و- الاتفاق على وصف بعض رايات النفاق الأكبر بالردة الصريحة إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع.

ز- تقوية الدعوة ومناشطها وتوسيع نطاق الصحوة الإسلامية، لأن ذلك من أهم المعاول التي يخشاها المنافقون والمنافقات، التي تهدم بنيانهم، وتحصن الأمة من شرهم وفتنتهم.

الثاني عشر: جهادهم باليد والإغلاظ عليهم (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم: 9]، والسعي لشل فاعليتهم، والحرص على وحدة الصف الإسلامي وتماسكه في مواجهتهم.

ولفهم المقصود بالجهاد والغلظة عليهم ليتأمل ما قيل في تفسير هذه الآية، يقول ابن كثير رحمه الله: (روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسیاف: سیف المشركين:

(فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة: 5]، وسيف لكفار أهل الكتاب: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) [التوبة: 29]، وسيف للمنافقين: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 73]، وسيف للبغاة: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّه) [الحجرات: 9]، ثم قال ابن كثير: (وهذا يقتضي أن يجاهدوا بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جریر)4(4) تفسير ابن كثير 2/408..

مراعاة الموازنات والمصالح والمفاسد في جهاد المنافقين

وجهاد المنافقين بالسيف محكوم بالضوابط الشرعية والموازنة بين المصالح والمفاسد حسب الأحوال والأزمان والقوة والاستضعاف، ومن ذلك تركه صلى الله عليه وسلم قتل من ظهر نفاقه كعبد الله بن أبي ابن سلول للمفسدة الكبيرة التي تترتب على قتلهم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»5(5) البخاري (4907)، مسلم (2584).، وفي رواية أخرى عندما هم بعض المنافقين بقتله صلى الله عليه وسلم ؟ في رجوعه من غزوة تبوك، فقال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم (أو لا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم) قال صلى الله عليه وسلم: «لا، أكره أن يتحدث العرب أن محمدا قاتل بقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم»6(6) انظر تفسير ابن كثير 2/409، ورواه البيهقي في الدلائل 2009..

إذا عرف أن معاملة المنافقين تكون بالغلظة عليهم، فلنتأمل حال بعض المسلمين اليوم في تعاملهم مع المنافقين المعروفين بحربهم للدين وبغضهم للخير وأهله وحبهم إشاعة الفاحشة، حيث اللين مع هؤلاء

المنافقين والرفق بهم، وهذا وإن جاز في بعض الأحيان فهو غير سائغ في كل حين، ولئن جاز مع بعضهم فلا يجوز مع عامة المنافقين.

ولقد ضم هؤلاء مع خطيئتهم باللين مع المنافقين خطيئة أخرى أشد منها، ألا وهي قسوتهم وغلظتهم على بعض إخوانهم من المؤمنين الغيورين والدعاة المصلحين، فيا ليت أن إخواننا هؤلاء عكسوا الأمر، امتثالا لقول الله عز وجل: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة : 54]. فالمتعين على المؤمنين أن يكونوا يدا واحدة في جهاد الكفار والمنافقين.

فکما وصف الله سبحانه وتعالى المنافقين باجتماع كلمتهم في النوازل ورميهم للمصلحين عن قوس واحدة، وذلك في قوله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة: 67]، فكذلك وصف المؤمنين بقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [التوبة: 71].

الهوامش

(1) أحكام القرآن 2/ 966.

(2) مجلة البيان العدد (171) ص8.

(3) رواه أبو داود (4979) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2923).

(4) تفسير ابن كثير 2/408.

(5) البخاري (4907)، مسلم (2584).

(6) انظر تفسير ابن كثير 2/409، ورواه البيهقي في الدلائل 2009.

اقرأ أيضا

المنافقون بين زمانين…

المنافقون .. خطرهم وأبرز صفاتهم

فتنة المنافقين وأثرها على المجتمع .. (1-2)

فتنة المنافقين وأثرها على المجتمع .. (2-2)

فما لكم في المنافقين فئتين..؟

 

التعليقات غير متاحة