إن حركة النفاق ليست قصة ماضية، ولكنها حقيقة باقية، تعددت مسمياتها، واختلفت وسائلها، واتحدت في أهدافها وسماتها.

النفاق باق إلى يوم القيامة

الحديث عن صفات المنافقين في كل زمان ومکان یکشف لنا طرفا من إعجاز القرآن الكريم، حيث فضح السابقين منهم برغم خفائهم وتسترهم بنفاقهم، وبقیت آیات القرآن بين أيدينا هادية لمعرفة المنافقين في كل زمان ومكان، وذلك بتكرر هذه الصفات في منافقي كل زمان ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات: 53].

إن حركة النفاق ليست قصة ماضية، ولكنها حقيقة باقية، تعددت مسمياتها، واختلفت وسائلها، واتحدت في أهدافها وسماتها، وكما قال حذيفة رضي الله عنه: (والمنافقون الذين فيكم أشر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقيل: وكيف ذلك؟! قال: إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء يعلنون)1(1) البخاري (7113)..

وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الزندقة فينا اليوم)2(2) البخاري (7114).. ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: (والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة)3(3) مجموع الفتاوی 7/212..

المنافقون قديما وحديثا

إن المتأمل في صفات المنافقين الواردة في كتاب الله عز وجل ليجدها بكثرة وأشد خبثا في منافقي زماننا، ولا يجد المرء عناء في التمثيل من الواقع على هذه الصفات. بل إن منافقي زماننا قد فاقوا سلفهم من المنافقين الأولين، فجاء نفاق أهل زماننا أغلظ نفاقا من سابقيهم، وذلك من وجوه عدة أهمها:

الجهر بالاستهزاء والسخرية

الوجه الأول: المنافقون الأولون قال الله عز وجل عنهم: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ [التوبة: 60]، وقال الله عز وجل عنهم: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14].

ومنافقو زماننا يجاهرون المؤمنين ويصارحونهم بالاستهزاء والسخرية، ويتهمون العلماء والدعاة بالسفه والانغلاق، ويظهرون المودة والولاء والتبعية لأعداء الإسلام، دون رادع من إيمان أو خوف أو ورع.

التبجح والمكابرة

الوجه الثاني: المنافقون الأولون إذا وضح لهم خطؤهم وبين لهم حكم عملهم أو قولهم في الدين وأهله، وانكشف أمرهم وحکم فعلهم وقولهم، جاؤوا معتذرين، مظهرین الندم، ملتمسين العفو، کما حدث في غزوة تبوك وغيرها.

ومنافقو زماننا حادوا الله ورسوله بأقوالهم وأفعالهم، ولمزهم للدين وأهله، وإفسادهم في الأرض وعدم الإصلاح، وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف، بدعواتهم بالاختلاط والسفور، وإدخال السينما للمجتمع والدعوة لحضوره.. والدعوة للاختلاط والدعوة لإقامة الحفلات الغنائية ، وإذا نوصحوا مشافهة أو كتابة تكبروا وتغطرسوا، وكتبوا النقد والردود، وأوغلوا في الكبرياء، وربما تعاموا عن النصح، فلم يقبلوه اعتزازا بالإثم.

مؤسسات الضرار ومعاقل النفاق

الوجه الثالث: المنافقون الأولون أرادوا تکوین مقر لإدارة مکرهم وكيدهم للأمة، فدمر هذا المقر في أسرع وقت بعد أن افتضح أمرهم، وبذلك انطفأ عن الأمة كثير من شرورهم، لأنه لو تم لهم ذلك المقر والله أعلم لكان بؤرة ومرصدا لكل من يحاد الله ورسوله.

أما منافقو زماننا فمقراتهم عديدة وجمعياتهم ومؤسساتهم الاستخباراتية كثيرة، تزداد يوما بعد يوم، شیدت إرصادا لمن حارب الله ورسوله، ولزعزعة الدين، ومسخ الأمة، ليصبح هذا الكيد والمكر في جسد الأمة يطبع وينشر بالآلاف بل بالملايين، والعجب إن هذا النفث السام يتقاضون عليه المليارات، والأنکی والأمر أن هذا الكيد والمكر يصل إلى البيوت والمؤسسات، ويعم المدن والمحافظات والقرى والمراكز والهجر.

تعددت الأسماء والحقيقة واحدة

الوجه الرابع: المنافقون الأولون يعرفون بهذه التسمية فقط، ومن وقع عليه هذا الوصف (منافق)، أو حام حوله، حذره الناس وتحرزوا من شره.

أما منافقو زماننا فقد انطلوا على الناس، وخرجوا بغير اسمهم الشرعي، وذلك زورا وبهتانا فهم ربما كانوا أدباء – محررين – کتابا – دعاة تحرير – دعاة للتراث الشعبي- ليبراليين – علانيين – دعاة عولمة – دعاة للحداثة والتجديد للحوار وتقمصهم أحيانا ثياب الدين، زيادة في التلبيس والغش والادعاء والزور، ثم خلعوا هذا الثوب ومزقوه بعد انقضاء مآربهم.

ردهم للشرع وطعنهم في أحكامه

الوجه الخامس: المنافقون الأولون لم يتخصصوا في الهجوم على الشريعة وأصولها بشكل محكم ومنظم، فلم يعهد إنهم نظموا حملة للطعن في تعاليم الإسلام، مثل وجوب الحجاب، أو جواز تعدد الزوجات، أو تحريم الاختلاط.

أما منافقو زماننا فنجد من إعراضهم عن التحاكم إلى شرع الله وصد الناس عن الحكم بما أنزل الله بتدبيرهم ومجاهرتهم بالحملات المحمومة الآثمة، ويتقاسمون أدوارها على عفاف المرأة وكرامتها وعلى تعدد الزوجات، فلهم التنظيم المتواصل على إباحة الاختلاط وشيوع الرذيلة وتعطيل الشريعة، واعتراضهم على وجود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي من عقائد الإسلام، وواجب من واجباته، ونقدهم الشديد لهم ولمز المؤسسات الشرعية والخيرية، وهذا المكر والهجوم يستخدم فيه التضليل بالأثير والقلم والصورة وكل وسيلة متاحة لهم. وعجبا لبعض بلاد المسلمين الذين لم يعرضوا هؤلاء حتى للمساءلة، بينما لو تعرضوا لدستور الدولة أو حكامها بالنقد لحوسبوا وعوقبوا.

صدارتهم للمشهد دون حياء ولا استخفاء

الوجه السادس: المنافقون الأولون يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ويحاولون جاهدين ألا يعرفهم أحد، لأنه لو ظهر أمرهم لأدبهم المجتمع المسلم بالهجر والزجر والفضح والمقاطعة.. ولحصل الحذر من التعامل معهم، ولردت مقالاتهم.

أما منافقو زماننا فيعلنون مكرهم وأفكارهم وأقوالهم شاهرة ظاهرة، دون حياء من الله أو حياء من الناس، ولا يستخفون من أحد، بل يتصدرون منابر الكلمة، وتبرز صورهم في القنوات الإعلامية، يشاهدهم ملايين الناس بالصوت والصورة، وقد شرحوا بالنفاق صدرا دون حياء أو استخفاء4(4) انظر: (درکات حضارية للمنافقين والمنافقات) عبدالله الجوير، موقع ملتقى أهل التفسير..

الردة إذ يسمونها بغير اسمها

الوجه السابع: المنافقون الأولون تطبق عليهم الأحكام العامة فيما يقولون ويعملون: صغروا أم كبروا كغيرهم من الناس.

أما منافقو زماننا فينطق أحدهم بالكفر، ويتشدق بالردة، ويوغل في هدم الدين بكل جرأة وسخرية، بلا رقيب ولا رادع، تحت مظلة (حرية الرأي)، وربما قيل زورا: (هذا القول لا يعبر إلا عن رأي صاحبه).. أو قيل زورا وبهتانا: (إن هذا يسمى بالرأي المعاكس)، وقد شرحوا بالكفر صدرا.

تصدرهم للفتوى والتأويل

الوجه الثامن: المنافقون الأولون لا يتعرضون للفتيا أو القول في تفسير الشريعة أو القضايا التي تمس الأمة، لأن هذا ليس من شأنهم فللعلم والإفتاء رجالهما المعروفون، ومرد الأمر إلى أهل الحل والعقد.

أما منافقو زماننا فيفتون ويفسرون ويكتبون، ويغيرون دلائل الآيات والنصوص، ويبدعون، ويكفرون، ويفسقون وفق أهوائهم وأذواقهم ومشاربهم، ويطرحون للنقاش كثيرا من الأصول والثوابت، التي تعلم من الدين بالضرورة بحجة التحليل واستطلاع الآراء، وبحجة حرصهم على المجتمع وطبقاته وشرائحه ورئته التي يتنفس بها.. ولكن في النفس غرض وفي القلب مرض. حتى قال أحدهم: (إن الولاء والبراء بدعة) برغم كثرة النصوص المحكمة الدالة على أنه أوثق عرى الإيمان، وأصل من أصول الدين.

الانتشار والسيطرة

الوجه التاسع: المنافقون الأولون منبوذون عن تولي الولايات والمسؤوليات إدراكا لخطرهم، وأنهم لو تولوا أمرا من أمور الأمة في سياستها أو تعليمها أو علاقتها وأسرارها.. لحصل بذلك فساد عريض، وأصبحت الأمة لقمة سائغة لعدوها في أي ساعة من نهار .

أما منافقو زماننا فقد تسللوا إلى ثغور الأمة، فأوجعوها طعنا في إعلامها واقتصادها وغير ذلك، وصاروا أصحاب قرار مشؤوم على الأمة، وكل تولى هدم الإسلام من قبله.

العمالة والخيانة والموالاة لأعداء الأمة

الوجه العاشر: من نقل أمرا من أمور المسلمين أو أحوالهم الخاصة أو العامة إلى الأعداء وصف بالنفاق والخيانة بالاتفاق، والمنافقون الأولون لم يعهد أو ينقل أنهم كاتبوا فارس والروم أو الحبشة أو غيرهم بالتحريش أو التأليب على قومهم، إلا بصورة خفية، وعلى حذر من اكتشافهم.

أما منافقو زماننا فقد تفننوا في استعداء الأمم غير المسلمة على المسلمين، وزودوهم بما يحتاجون إليه، وتسابقوا إلى ذلك بالتواصل والزيارات والعلاقات والرسائل المتبادلة، وصوروا لهم المجتمع بصورة سيئة، وقاموا بدلالة أولئك على جوانب الضعف فيه، وأرشدوهم إلى الثغرات التي يمكن أن يتسللوا منها إلى الأمة، وها هي تطالعنا صحف الدول غير المسلمة بتقارير ورسومات وتصريحات، يجزم القارئ والمطالع لها أنها خطت وصيغت بأيد محلية ماكرة.

لذا لا يستغرب هذا العداء والكره للمسلمين وتجييش الجيوش ضدهم من قبل بعض الدول، وهذا في حقيقة أمره نفاق وتجسس وموالاة ومظاهرة وعمالة وخيانة ومداهنة.

تعظيمهم لموتاهم وإحياء تراثهم

الوجه الحادي عشر: المنافقون الأولون إذا مات أحدهم ربما تنحى عدد من أهل العلم والفضل عن الصلاة عليه، وصار هذا تعزيرا وعبرة لمن سلك مثل سلوكه، وانقطع ضرره بموته وهلاکه.

أما منافقو زماننا فإذا مات أحدهم أظهر أصحابه الحزن والأسى على موته، وتتابعت كتاباتهم لتأبينه والعويل عليه في كل ناد، وأظهروا تاريخه، ولمعوا حياته، فجعلوها بطولية، حتى لربما افتتن بعض القراء من أبناء المسلمين بذلك الهالك، فأسرعوا لاقتناء كتبه وألفت فيه المؤلفات، واقتبس محبوه شيئا من أقواله وأفكاره في كل مناسبة، وأصبح مكره يزعج الأمة، وسمه وشره يخرج من بين أطباق قبره.

الهوامش

(1) البخاري (7113).

(2) البخاري (7114).

(3) مجموع الفتاوی 7/212.

(4) انظر: (درکات حضارية للمنافقين والمنافقات) عبدالله الجوير، موقع ملتقى أهل التفسير.

اقرأ أيضا

المنافقون .. خطرهم وأبرز صفاتهم

عندما يتعرى المنافقون

لماذا الحديث عن المنافقين وتعريتهم؟!

 

التعليقات غير متاحة