الحقيقة التي لا مراء فيها أنّ هذا الدور الذي نعيشه، وما يليه من الأدوار التاريخيّة القادمة، كلّها في حساب البعثة المحمديّة، ودعوته العامّة الخالدة، وجهوده المشكورة المثمرة، لأنّه رفع- أولا- هذا السيف المصلت على رقاب الإنسانيّة الذي كاد يقضي عليها، ثمّ أغناها بمنح غالية ومعطيات خالدة، وهدايا طريفة جديدة، بعث فيها الحيويّة والنشاط، والهمّة والطموح، والعزة والكرامة، والهدف الصحيح، والغاية النبيلة، واستهلّ بفضل هذه المنح والمعطيات- عهد جديد من السموّ الإنسانيّ، والثقافة والمدنيّة، والربانيّة والإخلاص، وإنشاء الإنسان وتكوينه الخلقيّ والاجتماعيّ.

منح البعثة المحمديّة الستة، وأثرها في تاريخ الإنسان

ونذكر الآن- على سبيل المثال لا الحصر- ستة من معطياته الهامّة، ومنحه الأساسيّة الغالية التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النوع البشريّ، وإصلاحه وإرشاده، ونهضته وازدهاره والتي خلقت عالما مشرقا جديدا لا يشبه العالم الشاحب القديم في شيء.

وقد ذكرنا في المقال السابق [ المنح المحمديّة وأثرها في تاريخ الإنسانية (1) ] ثلاثة منها ونكمل باقي هذه المنح في هذا المقال.

4- محاربة اليأس والتشاؤم، وبعث الأمل والرجاء، والثقة والاعتزاز في نفس الإنسان

المأثرة الرابعة أنّ أكثر أفراد النوع الإنسانيّ كانوا مصابين باليأس من رحمة الله، وبسوء الظنّ بالفطرة الإنسانية السليمة، وكان في إيجاد هذا الجوّ الخاصّ، والحالة العقلية الخاصة دور كبير لبعض الديانات الشرقيّة القديمة، والمسيحية المحرّفة في أوربة، وفي الشرق العربي.

فقد دانت الديانات القديمة في الهند بعقيدة التناسخ، وفلسفته التي لا مجال عندها في إرادة الإنسان وتصرّفه مطلقا، وأنّ كلّ إنسان مضطرّ لا محالة لنيل عقوبة ما، لما قدّمت يداه في حياته الأولى، وذلك بالظهور في شكل سبع مفترس، أو دابّة سائمة، أو حيوان خسيس، أو إنسان شقيّ معذّب.

بينما نادت المسيحيّة بأنّ الإنسان عاص ومذنب بالولادة والفطرة، والمسيح صار كفّارة وفداء له عن هذه الذنوب، فأنشأت هذه العقيدة- بطبيعة الحال- في نفوس الملايين في العالم المتمدّن المعمور الذين اعتنقوا المسيحيّة سوء ظنّ بنفوسهم، ويأسا عن مستقبلهم، وعن الرحمة الإلهية.

هنالك أعلن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكلّ قوّة وصراحة، أنّ فطرة الإنسان هي كاللوح الصافي، الذي لم يكتب عليه بعد، ويمكن أن ينقش فيه أروع نقش، ويحرر فيه أجمل تحرير، وأنّ الإنسان يستهلّ حياته بنفسه، ويستحقّ الثواب والعقاب، والجنة والنار بعمله، وهو غير مسؤول عن عمل غيره.

فقد ذكر القرآن في مواضع كثيرة، أنّ الإنسان مسؤول عن عمله فحسب، وأنّه مثاب ومشكور على سعيه: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) [النجم: 38- 41] .

هذا الإعلان أعاد إلى الإنسان ثقته المفقودة بفطرته ومواهبه الطبيعيّة، وانطلق إلى الأمام بعزم قويّ، وحماس زائد، وعاطفة جياشة ليصنع مصيره ومصير الإنسانيّة، ويجرّب حظّه وقدرته في تلك الإمكانيات الهائلة، والفرص الغالية.

إنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم قرر أنّ المعاصي والذنوب، والأخطاء والزلّات فترة عابرة زائلة في حياة الإنسان، يقع فيها الإنسان بجهله وغروره، وقصر نظره حينا، وبإغواء الشيطان، وإغراء النفس بعض الأحيان، وأنّ الصلاح والصلاحية، والاعتراف بالذنب، والندامة أصل من أصول فطرته، وجوهر إنسانيته، وأنّ الابتهال إلى الله، والتضرّع إليه، والعزم الأكيد على عدم العودة إلى الذنب دليل على شرف الإنسان، وأصالة معدنه، وهو ميراث آدم عليه السلام.

التوبة هي الطريق إلى أقصى درجات القرب والولاية

إنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم فتح أمام المذنبين الخطّائين- الغارقين في حمأة المعصية والرذيلة إلى آذانهم- بابا واسعا للتوبة، ودعا إليها الناس دعوة عامّة، وشرح فضل التوبة شرحا وافيا، وأفاض فيه إفاضة نستطيع بها القول بأنّه أحيا هذا الركن الخاصّ العظيم من الدين، ولذلك سمّي «بنبيّ التوبة» من بين أسمائه الجميلة الآخرى، لأنّه ما دعا إلى التوبة كوسيلة اضطرارية يتدارك بها الإنسان ما فاته فحسب، بل إنّه رفع من شأنها حتّى صارت من أفضل العبادات، والقربات عند الله، وصارت طريقا سهلا للوصول- في أقرب وقت- إلى أقصى درجات القرب والولاية، يغبط عليها النّسّاك والزهاد، والأبرياء والأطهار من عباد الله.

القرآن يرغب في التوبة ويبين فضائلها

إنّ القرآن شرح فضل التوبة وسعتها، ونقاء الإنسان من أكبر ذنب وأعظم معصية يتصورها الإنسان، وذلك بأسلوب جميل يستهوي القلوب، ودعا العصاة والمذنبين، وصرعى النفس والشيطان إلى اللجوء إلى الله سبحانه، والفرار إليه، والتفيّؤ بظلال رحمته، والترامي في أحضان رأفته وعطفه، وصوّر بحار رحمته الزاخرة، الواسعة الأرجاء، المحيطة بالأنفس والآفاق، تصويرا رائعا جميلا، شائقا مثيرا، يبدو منه أنّ الله سبحانه وتعالى ليس حليما رحيما، وجوادا كريما فحسب، بل إنّه- إذا صحّ هذا التعبير- يحبّ التوابين، ويشتاق إليهم، ويشكر سعيهم البليغ، ويقدّره كلّ التقدير، اقرأ الآيات التالية، وتذوّق أسلوب هذا اللطف والعطف، وجوّ الودّ الذي يغشى هذه الآيات: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53] .

وأكثر من ذلك وأروع ما نجد في الآية التالية، حيث ذكر الله سبحانه جماعات مختلفة من عباده الصالحين، فاستهلّ هذه القائمة المشرقة النورانيّة بالتائبين، إنّها آية من سورة «التوبة» [112] : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

توبة الثلاثة الذي تخلّفوا عن غزوة تبوك

هذا التكريم وتبرئة العبد التائب من ذنبه، وإظهار الثقة به تجلّى واضحا حين أعلن القرآن قبول توبة ثلاثة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر صحيح مقبول، وبقوا في المدينة، فبدأ القرآن بذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، الذين لم يتخلفوا عن هذه الغزوة، ثمّ ثنّى بهؤلاء الثلاثة الذي تخلّفوا، حتّى لا يشعر هؤلاء المخلّفون بإفرادهم بالتوبة ويكونوا بمعزل عن الشعور بالهوان، وما يسمّى في علم النفس «بمركب النقص» ، ويتّضح للمؤمنين إلى يوم القيامة أن مكانتهم الطبيعيّة في الصف الأول من الصادقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلا داعي للاستحياء، ولا مكان للعار.

هل هناك مثال أروع وأجمل، وأدقّ وأعمق، وأحلى وأزهى لقبول التوبة، وتكريم التائب، ومسح غاشية الكأبة عنه بلطف وودّ، وحبّ وحنوّ في تاريخ الأديان، والأخلاق، والتربية والإصلاح، من هذا المثال؟!

اقرأ معي الآيات التالية:

(لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 117- 118] .

ثمّ أعلن أيضا كمبدأ عامّ أنّ رحمة الله تسع كلّ شيء، وتسبق غضبه وجلاله، يقول القرآن: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف: 156] .

وجاء في حديث قدسيّ: «إنّ رحمتي سبقت غضبي»1(1) [أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب «وكان عرشه على الماء..» برقم (7422)] . إنّه جعل اليأس مرادفا للكفر والجهل والضلال، وبين ذلك على لسان يعقوب عليه السلام: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف: 87] ، وذكر في موضع آخر قول إبراهيم- عليه السلام- فقال: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر: 56] .

5- الجمع بين الدين والدنيا، وتوحيد الصفوف المتنافرة، والمعسكرات التجارية

لقد وزّعت الديانات القديمة- خاصّة المسيحية- الحياة الإنسانية في قسمين: قسم للدين، وقسم للدنيا، ووزّعت هذا الكوكب الأرضيّ في معسكرين: معسكر رجال الدين، ومعسكر رجال الدنيا، وما كان هذان المعسكران منفصلين فحسب، بل حال بينهما خليج كبير، ووقف بينهما حاجز سميك، وظلّا متشاكسين متحاربين.

وكان كلّ واحد يعتقد أنّ هناك خصومة وعداء بين الدين والدنيا، فإذا أراد إنسان أن يتصل بأحدهما، لزم عليه أن يقطع صلته بالآخر، بل أن يعلن الحرب عليه، فلا يمكنه- على حدّ قولهم- أن يركب سفينتين في وقت واحد، وأنّه لا سبيل إلى الكفاح الاقتصاديّ ورخائه من غير غفلة عن الدار الآخرة، وإعراض عن فاطر السموات والأرض، ولا بقاء لحكم أو سلطة من غير إهمال التعاليم الدينيّة والخلقيّة، والتجرّد عن خشية الله، ولا إمكان للتديّن من غير رهبانيّة، وقطع الصلة عن الدنيا وما فيها.

الانفصال النكد بين الدين والدنيا

المعلوم المقرّر أنّ الإنسان محبّ لليسر، مجبول عليه، وكلّ فكرة دينيّة لا تسمح بالاستمتاع المباح، والنهضة، والعزّة، والحصول على القوة والحكم، لا تصلح للنوع البشريّ في الغالب، إنّه صراع مع الفطرة السليمة، وكبت للغرائز الطبيعيّة البريئة في الإنسان، وكانت نتيجة هذا الصراع أنّ العدد الأكبر من أصحاب الفطنة والذكاء، والكفاءات العلميّة، آثر الدّنيا على الدين، ورضي بها- كحاجة اجتماعيّة، وواقع حيّ- واطمأنّ إليها، وعكف على تحسين هذه الحياة، والحصول على ملذّاتها، ولم يبق له أمل في الرقيّ الدينيّ، والتقدّم الروحيّ.

وأكثر الذين هجروا الدين بصورة عامّة، هجروه على أساس التناقض الذي حسبوه حقيقة بديهية مسلّمة، وثار البلاط الذي كان يتزعّم الحكم الدنيويّ على الكنيسة التي كانت تمثّل الدين، وتجرّد عن سائر قيوده، فصارت الحكومات- بطبيعة المنطق- كفيل هائج مائج، تخلّص من سلاسله وقيوده، أو كجمل هائم، حبله على غاربه، هذا الانفصال النكد بين الدين والدنيا، وذلك العداء المشؤوم بين «رجال الدين ورجال الدنيا» فتح الباب على مصراعيه للإلحاد واللادينية، وكانت فريسته الغرب أولا، والأمم التي دانت له في الفكر والعلم والثقافة، أو عاشت تحت رايته ثانيا.

آثر دعاة المسيحيّة المتطرّفون والمفرطون

وزاد الطّين بلّة دعاة المسيحيّة المتطرّفون والمفرطون، الذين كانوا يعتبرون الفطرة البشريّة أكبر عائق في التزكية الروحية والاتصال بالسماء، والذين لم يدّخروا وسعا في إذلالها وتعذيبها بأنواع من الأحكام القاسية والتعاليم الجائرة2(2) انظر «تاريخ أخلاق أوربة» ، ج 2، لمؤلّفه ليكي. وقدّموا صورة وحشيّة كالحة مفزعة للدين، تقشعرّ منها جلود الذين آمنوا، وآل الأمر في نهاية الشوط إلى تقلّص ظلّ الدين، وبلغت عبادة النفس والهوى- في أوسع معناها- إلى ذروتها، وأصبحت الدّنيا تتأرجح بين طرفي نقيض، ثمّ سقطت أخيرا بضعف الوازع الدينيّ، أو فقدان الحاسّة الدينية في هوّة عميقة من اللادينية، والفوضى الخلقيّة العامة3(3) اقرأ للتفصيل كتاب «الصراع بين الدين والعلم) Conflict Between Religion) Science ( «لدرابر) Draper (أو «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» الباب الرابع «العصر الأوربي» ..

إنّما الأعمال بالنّيات…الجمع بين الدين والدنيا

وأعظم هديّة للبعثة المحمديّة، ومنّتها العظيمة نداؤها الذي دوّت به الآفاق أنّ أساس الأعمال والأخلاق، هو الهدف الذي ينشده المرء، والذي عبّر عنه الشارع بلفظ مفرد بسيط، ولكنّه واسع عميق «النية» ، فقال: «إنّما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكلّ امرىء ما نوى»4(4) متفق عليه ..

وإنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان ابتغاء مرضاة الله، وبدافع الإخلاص، وامتثال أمره وطاعته، هو وسيلة إلى التقرّب إلى الله، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، ودرجات الإيمان، وهو دين خالص لا تشوبه شائبة، ولو كان هذا العمل جهادا وقتالا وحكما وإدارة، وتمتعا بطيّبات الأرض، وتحقيقا لمطالب النفس، وسعيا لطلب الرزق والوظيفة، واستمتاعا بالتسلية البريئة المباحة، والحياة العائلية والزوجية.

وكلّ عبادة وخدمة دينية- بالعكس من ذلك- تعتبر دنيا إذا تجرّدت من طلب رضا الله سبحانه، والخضوع لأوامره ونواهيه، وغشيتها غاشية من الغافلة، ونسيان الآخرة، ولو كانت صلوات مكتوبة، ولو كانت هجرة وجهادا وذكرا وتسبيحا وقتالا في سبيل الله، ولا يثاب عليه العامل، والعالم، والمجاهد، والداعي، بل قد تعود تلك الأعمال والخدمات عليه وبالا، وتكون بينه وبين الله حجابا5(5) كتب الحديث زاخرة بالآثار الدالة على ذلك. انظر أبواب الإخلاص، والنية، والإيمان، والاحتساب..

توحيد الصفوف المتنافرة

إنّ المأثرة الخامسة من مأثر سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنّه ملأ هذه الفجوة الواسعة بين الدين والدّنيا، وجعل هذين المتنافرين المتباعدين، اللذين عاشا في خصام دائم، وعداء سافر، وحقد مستمرّ، يتعانقان في إلف وودّ، ويتعايشان في سلام ووئام.

إنّه صلى الله عليه وسلم رسول الوحدة، وبشير ونذير في الوقت ذاته، إنّه أخذ النوع البشريّ من المعسكرين المتحاربين إلى جبهة موحّدة من الإيمان والاحتساب، والعطف على البشريّة، وابتغاء رضوان الله، وعلّمنا هذا الدعاء الجامع، المعجز الواسع: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة: 201] .

إنّه أعلن بالآية القرآنية: (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام: 162] أنّ حياة المؤمن ليست مجموع وحدات متفرّقة مضادّة، بل هي وحدة تسيطر عليها روح العبادة والاحتساب، ويقودها الإيمان بالله والإسلام لأوامره، وهي تشمل شعب الحياة كلّها، وميادين الكفاح كلّها، وأصناف العمل كلّها، إذا تحقّق الإخلاص، وصحّت النيّة، وأريد بها وجه الله، وكانت على المنهج الصحيح الذي جاء به الأنبياء.

فدلّ ذلك على أنّه رسول الوحدة والوئام والانسجام بالكمال والتمام، وأنّه البشير والنذير في نفس الوقت، إنّه قضى على نظرية الانفصال بين الدين والدنيا، فجعل الحياة كلّها عبادة، وجعل الأرض كلّها مسجدا، وأخذ بيد الإنسان من معسكرات متحاربة متصارعة، إلى جبهة واحدة واسعة من العمل الصالح، وخدمة الإنسانية النافعة، وابتغاء مرضاة الله، فترى هناك ملوكا في أطمار الفقراء، وزهّادا في زيّ الملوك والأمراء، جبال حلم وينابيع علم، عبّاد ليل وأحلاس خيل، من غير تناقض أو صعوبة، واختلال أو تعسّف.

6- تعيين الأهداف والغايات وميادين العمل والكفاح

المأثرة السادسة، أو الانقلاب السادس الذي أحدثه محمّد صلى الله عليه وسلم في الحياة البشرية، أنّه هدى الإنسان إلى محلّ لائق كريم يصرف فيه قواه، ورفعه إلى أجواء فسيحة عالية يحلّق فيها.

كان الإنسان قبل البعثة المحمديّة جاهلا لهدفه الحقيقيّ، لا يدري إلى أين يتّجه، وإلى أين المصير؟ وما هو المجال الأفضل والحقيقيّ لمواهبه وطاقاته وجهوده؟

نماذج للأهداف والغايات قبل البعثة المحمدية

إنّه وضع لنفسه مقاصد وهمية صناعية، وحصر نفسه في دوائر ضيقة محدودة، كانت تستنفد قواه وطاقاته وذكاءه، وكان المثل الأعلى عنده للرجل الناجح واللامع من يكون أكثر جمعا ومالا، وأوسع نفوذا وقوة، متحكّما في أكبر مجموعة من البشر، وأوسع بقعة من بقاع المعمورة.

كان هناك ملايين لم يزد طموحهم على التمتّع بألوان زاهية، وأصوات مطربة، وأطعمة لذيذة، وأكثر من تقليد البلبل في صوته، أو الطاووس في لونه، بل أكثر من مسايرة الماشية والغنم، والأنعام والدوابّ.

كان هناك آلاف عاشوا دائما بين بلاط الملوك، وحاشيتهم، وبذلوا نبوغهم وذكاءهم في التزلّف إلى الأمراء، والتملّق أمام الأغنياء، أو الخضوع للجبابرة والأقوياء، أو التسلّي بالأدب الفارغ الذي لا قيمة له في الدّنيا والآخرة.

فجاء محمّد صلى الله عليه وسلم وجعل غايته الأخيرة الحقيقية، وهدفه الأعلى المنشود نصب عينيه، وأرسخ في قلب الإنسان: أنّ المجال الحقيقيّ لجهده واجتهاده، ومواهبه وأشواقه، وطموحه وسموّه، وطيرانه وتحليقه، هو معرفة فاطر السموات والأرض، واطلاعه على صفاته، وقدرته وحكمته، وسعة ملكوت السموات والأرض وعظمتها وخلودها، والحصول على الإيمان واليقين، والفوز برضوان الله وحده، والرضا به وبقدره، والبحث عن وحدة تؤلف بين الأجزاء المتناثرة أحيانا، والمتناقضة أحيانا أخرى، وتنمية قواه الباطنة، ومداركه الروحية للوصول إلى درجات القرب واليقين، والحثّ على خدمة الإنسانية، والإيثار والتضحية، والوصول بذلك إلى مكان لا تصل إليه الملائكة المقربون، وتلك هي السعادة الحقيقية للإنسان، ونهاية كماله، ومعراج قلبه وروحه.

الهوامش

(1) [أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب «وكان عرشه على الماء..» برقم (7422)] .

(2) انظر «تاريخ أخلاق أوربة» ، ج 2، لمؤلّفه ليكي.

(3) اقرأ للتفصيل كتاب «الصراع بين الدين والعلم) Conflict Between Religion) Science ( «لدرابر) Draper (أو «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» الباب الرابع «العصر الأوربي» .

(4) متفق عليه .

(5) كتب الحديث زاخرة بالآثار الدالة على ذلك. انظر أبواب الإخلاص، والنية، والإيمان، والاحتساب.

المصدر

كتاب: “السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي” ص630-640.

اقرأ أيضا

الإسلام وأمن البشرية.. (1) رسالة وطريق

الإسلام وأمن البشرية .. (2) جدية وتضحيات

الإسلام ومشكلات الحضارة

الإسلام وتحرير الإنسان

التعليقات غير متاحة