الإسلام هو المنوط به إنقاذ البشرية، وهو الذي أنقذها من تاريخ حالك لو لم يأخذ دوره التاريخي من قبل، كما أنه هو المنوط به الحفاظ على العروبة وجذورها كما نقذها في التاريخ الحديث.

مقدمة

حين يتقرر أن الإسلام هو ـ وحده ـ القادر على إنقاذ البشرية مما يحدق بها من أخطار ماحقة، تدلف إليها مقودة بسلاسل الحضارة المادية البراقة.

وهو وحده القادر على منحها المنهج الملائم لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقية. وهو وحده الذي ينسق بين خُطاها في الإبداع المادي وخُطاها في الاستشراف الروحي. وهو وحده الذي يملك أن يقيم لها نظاماً واقعياً للحياة يتم فيه هذا التناسق الذي لم تعرفه البشرية قط إلا في النظام الإسلامي وحده على مدى التاريخ.

حين يتقرر هذا كله تتضح معه شناعة الجريمة التي يرتكبها ـ في حق البشرية كلها ـ أولئك الذين يوجهون الضربات الوحشية لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، والذين يجندون قواهم كلها، لطمس معالم المنهج الإسلامي، ومواراته عن أعين البشرية المتطلعة إلى منقذ، المتلفتة على “مخلّص”، وتنفيرها منه بشتى الخدع والتمويهات والأكاذيب!

جريمة بشعة

إنها جريمة بشعة في حق البشرية كلها؛ البشرية المسكينة المنكوبة بهذه الحضارة المناقضة لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقة ـ كما يقرر العالِم الغربي الكبير ـ المهددة بغلبة الفلسفة المادية عليها ـ كما ينذر مستر دالاس ـ البشرية التي تدلف إلى الهاوية، مقودة بسلاسل هذه الحضارة المادية البراقة، وهي في كل لحظة تقترب من الهوة الرعيبة، ولا منقذ لها إلا هذا الدين، الذي يحاربه أعداء البشرية، في كل مكان على وجه الأرض، بشتى الخطط والمؤامرات والأساليب..!

إلا أن هذه الحرب المشبوبة على الإسلام لا تُفقدنا الثقة المطلقة في أن “المستقبل لهذا الدين”.

صمود تاريخي

لقد صمد الإسلام في حياته المديدة، لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية، التي توجَّه اليوم إلى طلائع البعث الإسلامي في كل مكان. وكافح ـ وهو مجرد من كل قوة غير قوته الذاتية ـ وانتصر، وبقى، وأبقى على شخصية الجماعات والأوطان، التي كان يحميها، وهو مجرد من السلاح..!

إن الإسلام هو الذي حمى “الوطن الإٍسلامي” في الشرق من هجمات التتار؛ كما حماه من هجمات الصليبيين على السواء..

ولو انتصر الصليبيون في الشرق كما انتصروا في الأندلس قديماً، أو كما انتصر الصهيونيون في فلسطين حديثاً، ما بقيت قومية عربية، ولا جنس عربي ولا وطن عربي.

و”الأندلس” قديماً و”فلسطين” حديثاً كلاهما شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى فيها لغة ولا قومية، بعد اقتلاع الجذر الأصيل..!

و”المماليك” الذين حموا هذه البقعة من التتار، لم يكونوا من جنس العرب إنما كانوا من جنس التتار..! ولكنهم صمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين، حمية للإسلام، لأنهم كانوا مسلمين..! صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم “ابن تيمية” الذي قاد التعبئة الروحية، وقاتل في مقدمة الصفوف!

ولقد حمى “صلاح الدين” هذه البقعة من اندثار العروبة منها والعرب واللغة العربية، وهو كردي لا عربي؛ ولكنه حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين.

وكان الإسلام في ضميره هو الذين كافح الصليبيين. كما كان الإسلام في ضمير “الظاهر بيبرس”، و”المظفر قطز”، و”الملك الناصر” هو الذي كافح التتار المتبربرين!

صمود في التاريخ القريب

والإسلام هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاماً، وهو الذي استبقى أرومة العروبة فيها، حتى بعد أن تحطمت مقوماتها الممثلة في اللغة والثقافة، حينما اعتبرت فرنسا اللغة العربية ـ في الجزائر ـ لغة أجنبية محظوراً تعليمها!

هنالك قام الإسلام ـ وحده ـ في الضمير، يكافح الغزاة، ويستعلي عليهم، ولا يحنى رأسه لهم لأنهم أعداؤه “الصليبيون”!

وبهذا ـ وحده ـ بقيت روح المقاومة في الجزائر، حتى أزكتها من جديد الحركة الإسلامية التي قام بها عبد الحميد بن باديس، فأضاءت شعلتها من جديد. وهذه الحقيقة التي حاول أن يطمسها المغفلون المضلِّلون، يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيداً لأنهم “صليبيون”..!

إنهم على يقين أن (الإسلام)، باستعلاء روحه على أعدائه، هو الذي يقف في طريقهم في الجزائر. ومن ثم يعلنونها حرباً على “المسلمين”، لا على “العرب” ولا على “الجزائريين”..!

والإسلام هو الذي هبّ في السودان في ثورة “المهدي الكبير” على الاحتلال البريطاني للقسم الشمالي من الوادي “مصر” ثم القسم الجنوبي “السودان” ومراجعة إعلانات “المهدي” الكبير ، ورسائل “عثمان دقنة” لـ “كتشنر” و”كرومر” و”توفيق”، تشهد بحيوية هذا الباعث الأصيل.

والإسلام هو الذي كافح في “برقة” و”طرابلس” ضد الغزو الطلياني، وفي أربطة السنوسية وزواياها نمت بذرة المقاومة. ومنها انبثق جهاد “عمر المختار” الباسل النبيل.

وأول انتفاضة في “مراكش”، كانت منبثقة من الروح الإسلامي. وكان (الظهير البربري) الذي سنه الفرنسيون سنة (1931م) وأرادوا به رد قبائل البربر هناك إلى الوثنية، وفصْلهم عن الشريعة الإسلامية؛ هو الشرارة التي ألهبت كفاح “مراكش” ضد الفرنسيين.

خصائص الصمود في الإسلام

لقد كافح الإٍسلام – وهو أعزل – لأن عنصر القوة كامن في طبيعته، كامن في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية، كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد؛ وفي رفض التلقي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين..

كامن كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان المتسلطين؛ فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته؛ ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمّر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين.

ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب المنكرة، لأنه يقف لهم في الطريق، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية، كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون..!

ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة، كما يطلقون عليه حملات التشويه والخداع والتضليل..!

ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيماً أخرى، وتصورات أخرى، لا تمتّ بسبب إلى هذا المناضل العنيد؛ لتستريح الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!

المستقبل الموعود

إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلاب الوطن الإسلامي.. هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الأصيل.

ولكن الذي لا شك فيه ـ على الرغم من ذلك كله ـ هو أن “المستقبل لهذا الدين”.

فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين؛ ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه ـ أراد أعداؤه أم لم يريدوا ـ وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى ـ كما لا يملك منهج آخر ـ أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه. ولا حاجة بنا إلى المضي في توكيد هذه الحقيقة على هذا النحو.

موقف ذو دلالة الى يوم القيامة

نكتفي في هذا الموضع بعرض عبرة عن الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العبر في هذا المقام:

بينما كان “سراقة بن مالك” يطارد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه “أبا بكر” رضي الله عنه ـ وهما مهاجران خفية عن أعين قريش..

وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هَمَّ أن يتابع الرسول وصاحبه، طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد، وصاحبه، أو يخبر عنهما..

وبينما هو يهمّ بالرجوع ـ وقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفيهما من وراءه ..

في هذه اللحظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سراقة؛ كيف بك وسوارى كسرى؟» ـ يعده سوارى كسرى شاهنشاه الفرس! “ملك الملوك!” ـ والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة؛ حول هذا العرض العجيب؛ من ذلك المطارَد الوحيد.. إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجر ـ سرّا ًـ معه..!

ولكن كالرسول، صلى الله عليه وسلم، كان عارفاً بالحق الذي معه، معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية في الأرض كلها يومذاك..

وكان واثقاً من أن هذا الحق لا بد أن ينتصر على هذا الباطل، وأنه لا يمكن أن يوجد “الحق” في صورته هذه، وأن يوجد “الباطل” في صورته هذه، ثم لا يكون ما يكون..!

كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها، بحيث لا يصلها رِيّ ولا سماد.. كانت قد خبثت بحيث يتحتم أن تجتث.

وكانت البذرة الطيبة في يده هي المعبأة للغرس والنماء. وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين.

الثقة في الإسلام اليوم

نحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته، وكل سماته. مع الجاهلية كلها من حولنا؛ فلا يجوز ـ من ثَم ـ أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة. العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا. على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا!

إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج، ليست بأقل من حاجتها يومذاك. وإن وزن هذا المنهج اليوم ـ بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج ـ لا يقل عنه يومذاك.

ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك في أن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع.

ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك، بسبب ما نراه من حولنا، من الضربات الوحشية التي تُكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية.

خاتمة .. الارتفاع الى المستوى اللائق

إن الذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، وليس هو قوة الضربات التي تكال للإسلام؛ إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ومدى الصمود للضربات..!

إننا لسنا وحدنا .. إن رصيد الفطرة معنا؛ فطرة الكون وفطرة الإنسان. وهو رصيد هائل ضخم؛ أضخم من كل ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة. ومتى تعارضت الفطرة مع الحضارة، فلا بد أن يكتب النصر للفطرة، قصر الصراع أم طال.

أمر واحد يجب أن يكون في حسابنا:

إن أمامنا كفاحاً مريراً شاقاً طويلاً؛ لاستنقاذ الفطرة من الرُّكام، ثم لتغليب الفطرة على هذا الرُّكام، كفاحاً مريراً يجب أن نستعد له استعداداً طويلاً.

يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين؛ نرتفع إلى مستواه في حقيقة إيماننا بالله، وفي حقيقة معرفتنا بالله؛ فإننا لن نؤمن به حق الإيمان حتى نعرفه حق المعرفة.

ونرتفع إلى مستواه في عبادتنا لله؛ فإننا لن نعرف الله حق المعرفة إلا إذا عبدناه حق العبادة.

ونرتفع إلى مستواه في وعينا بما حولنا، ومعرفتنا لأساليب عصرنا؛ ورحم الله رجلاً عرف زمانه واستقامت طريقته.

ونرتفع إلى مستواه في إحاطتنا لثقافة عصرنا وحضارته؛ وممارسة هذه الثقافة، وهذه الحضارة ممارسة اختبار واختيار؛ فإننا لا نملك الحكم على ما ينبغي أن نأخذ منها، وما ينبغي أن ندع؛ إلا إذا سيطرنا عليها بالمعرفة والخبرة.

فمن المعرفة والخبرة نستمد سلطان الاختيار.

ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية، وحاجاتها الحقيقية المتجددة؛ فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة، ونستبقي ما نستبقي عن خبرةٍ بالحياة ذاتها تعادل خبرتنا بهذه الحضارة كذلك..!

وهذا كفاح مرير .. وكفاح طويل؛ ولكنه كفاح بصير، وكفاح أصيل.

والله معنا .. ﴿…وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف:21]

وصدق الله العظيم

……………………………….

المصدر:

  • سيد قطب، مختارات من “المستقبل لهذا الدين”.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة