إن القول في جهاد المنافقين وفقه التعامل معهم تحكمه وتضبطه ضوابط الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعمال فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد وفقه المآلات، ولذلك يتفاوت جهاد المنافقين بين جهادهم بالقلب أو اللسان أو اليد، حسب الأحوال وغلبة المصالح أو المفاسد، وحسب مراحل القوة والاستضعاف.

كما يحكمه نوع النفاق وكثرته أو قلته، حيث إن المتهمين بالنفاق ليسوا على درجة واحدة، (بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ضعیف ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق)1(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 523، رواه البيهقي في الدلائل 5/340 (2009)..

وهذا ما سيتبين من خلال التعرف على الهدي النبوي في التعامل مع المنافقين وخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

الكفر نوعان: کفر ظاهر وكفر نفاق

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن قيل: فالله قد أمر بجهاد الكفار والمنافقين في آيتين من القرآن، فإذا كان المنافق تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر فكيف يمكن مجاهدته؟

قيل: ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق لا بد أن يظهر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. وقد قال الله تعالى في حق المنافقين: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد: 30]. فإذا أظهر المنافق من ترك الواجبات وفعل المحرمات ما يستحق عليه العقوبة عوقب على الظاهر، ولا يعاقب على ما يعلم من باطنه بلا حجة ظاهرة.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من المنافقين من عرفه الله بهم، وكانوا يحلفون له وهم كاذبون، وكان يقبل علانيتهم ویکل سرائرهم إلى الله.

وأساس النفاق الذي يبنى عليه: الكذب، والمنافق لا بد وأن تختلف سريرته وعلانيته وظاهره وباطنه، ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب کها يصف المؤمنين بالصدق..

وبالجملة فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان: کفر ظاهر وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين)2(2) مجموع الفتاوی 7/620-621..

وجوب قتل المنافق إذا ظهر نفاقه ومنع استتابته

وعن وجوب قتل المنافق إذا ظهر نفاقه ومنع استتابته، يقول ابن تيمية رحمه الله: (ویدل على جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة قوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) [التوبة: 49 – 52].

قال أهل التفسير: أو بأيدينا بالقتل: إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم، وهو كما قالوا، لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق. بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم، ولو كان المنافق يجب قبول ما يظهر من التوبة بعد ما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكن أن يتربص بهم أن يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده أو بأيدينا، لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة، وقال قتادة وغيره: قوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ) [التوبة: 101]، إلى قوله: (سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْن)، قالوا: في الدنيا القتل وفي البرزخ عذاب القبر.

ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [ التوبة: 62]، وقوله سبحانه وتعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ۖ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 95 – 96]، وكذلك قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) [التوبة: 74]……..ثم يقول رحمه الله:

دلت هذه الآيات كلها على أن المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالأيمان الكاذبة، وينكرون أنهم كفروا، ويحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر، وذلك دليل على أنهم يقتلون إذا ثبت ذلك عليهم بالبينة، لوجوه:

أحدها: أنهم لو كانوا إذا أظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا إلى الحلف والإنكار، ولكانوا يقولون: قلنا وقد تبينا. فعلم أنهم كانوا يخافون إذا ظهر ذلك عليهم أنهم يعاقبون من غير استتابة.

الثاني: أنه قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) [المنافقون: 2]، واليمين إنما تكون جنة إذا لم تأت ببينة عادلة تكذبها. فإذا كذبتها بينة عادلة انخرقت الجنة، فجاز قتلهم، ولا يمكنه أن يجتن بعد ذلك إلا بجنة من جنس الأولى، وتلك جنة مخروقة.

الثالث: أن الآيات دليل على أن المنافقين إنما عصم دماءهم الكذب والإنكار، ومعلوم أن ذلك إنما يعصم إذا لم تقم بينة بخلافه، ولذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) [التوبة: 73 – 74]، وقوله تعالى في موضع آخر: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) [التحريم: 9]، قال الحسن وقتادة رحمهما الله بإقامة الحدود. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). وعن ابن عباس وابن جريج رضي الله عنهما: (باللسان وتغليظ الكلام وترك الرفق).

قتل المنافق لا يكون إلا بقول أو فعل ظاهر

ووجه الدليل أن الله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين، كما أمره بجهاد الكافرين، وأن جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة، فإنه ما لم يظهر منه شيء البتة لم يكن لنا سبيل عليه، فإذا ظهر منه كلمة الكفر فجهاده القتل، وذلك يقتضي أن لا يسقط عنه بتجديد الإسلام له ظاهرا، لأنا لو أسقطنا عنهم القتل بما أظهروه من الإسلام لكانوا بمنزلة الكفار، وكان جهادهم من حيث هم كفار فقط لا من حيث هم منافقون، والآية تقتضي جهادهم، لأنهم صنف غير الكفار لا سيما قوله تعالى: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) [التوبة: 73]، ويقتضي جهادهم من حيث هم المنافقون، لأن تعليق الحكم باسم مشتق مناسب يدل على أن موضع الاشتقاق هو العلة، فيجب أن يجاهد لأجل النفاق کما يجاهد الكافر لأجل الكفر. ومعلوم أن الكافر إذا أظهر التوبة من الكفر كان ترکا له في الظاهر ولا يعلم ما يخالفه.

المنافق لا ينفعه إظهار الإسلام بعد ظهور الكفر منه

أما المنافق فإذا أظهر الإسلام لم يكن تركا للنفاق، لأن ظهور هذه الحال منه لا ينافي النفاق، ولأن المنافق إذا كان جهاده بإقامة الحد علیه کجهاد الذي في قلبه مرض، وهو الزاني إذا زنا لم يسقط عنه حده إذا أظهر التوبة بعد أخذه لإقامة الحد عليه کما قد عرف.

ولأنه لو قبلت علانيتهم دائما مع ثبوت ضدها لم يكن إلى الجهاد على النفاق سبیل، فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده، ويدل على ذلك قوله تعالى: (لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 60 – 62].

دلت هذه الآية على أن المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم، وأنهم لا يجاورونه بعد الإغراء بهم إلا قليلا، وأن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا وأصيبوا: أسروا وقتلوا، وإنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق، لأنه ما دام مکتوما لا يمكن قتلهم.

وكذلك قال الحسن: (أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه وأسروه).

وقال قتادة: (ذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموا)، ولو كان إظهار التوبة بعد إظهار النفاق مقبولا لم يكن أخذ المنافق ولا قتله لتمكنه من إظهار التوبة لا سيما إذا كان كلما شاء أظهر النفاق ثم أظهر التوبة وهي مقبولة منه.

المنافق لا يستتاب ولا تقبل توبته إذا أظهر النفاق

يؤيد ذلك أن الله تبارك وتعالى جعل جزاءهم أن يقتلوا، ولم يجعل جزاءهم أن يقاتلوا، ولم يستثن حال التوبة، کما استثناه من قتل المحاربين وقتل المشركين، فإنه قال: (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 5].

وقال في المحاربين: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 33 – 34].

فعلم أنهم يقتلون من غير استتابة، وأنه لا يقبل منهم ما يظهرونه من التوبة.

ويوضح ذلك أنه جعل انتهاءهم النافع قبل الإغراء بهم وقبل الأخذ والتقتيل، وهناك جعل التوبة بعد ذكر الحصر والأخذ والقتل، فعلم أن الانتهاء بعد الإغراء بهم لا ينفعهم، كما لا تنفع المحارب التوبة بعد القدرة عليه، وإن نفعت المشرك من مرتد وأصلي التوبة بعد القدرة عليه، وقد أخبر سبحانه وتعالى أن سنته فيمن لم يتب عن النفاق حتى قدر عليه أن يؤخذ ويقتل، وأن هذه السنة لا تبديل لها، والانتهاء في الآية إما أن يعني به الانتهاء عن النفاق بالتوبة الصحيحة، أو الانتهاء عن إظهاره عند شیاطینه وعند بعض المؤمنين، والمعنى الثاني أظهر، فإن من المنافقين من لم ينته عن إسرار النفاق حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهوا عن إظهاره حتى كان في آخر الأمر لا يكاد أحد يجترئ على إظهار شيء من النفاق.

نعم الانتهاء يعم القسمين فمن انتهى عن إظهاره فقط أو عن أسراره وإعلانه خرج من وعيد هذه الآية ومن أظهر لحقه وعیدها..

أحاديث تدل على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع

قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

– ويدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين عن علي رضي الله عنه في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»3(3) البخاري (3007) مسلم (2494)..

فدل على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر استحلال ضرب عنق المنافق، ولكن أجاب بأن هذا ليس بمنافق، ولكنه من أهل بدر المغفور لهم، فإذا أظهر النفاق الذي لا ريب أنه نفاق فهو مباح الدم.

حادثة الإفك

– وعن عائشة رضي الله عنها: في حديث الإفك قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان ليدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه: إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا، ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته، الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله، ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد يعني ابن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق، تجادل عن المنافقين. فثار الحيان الأوس والخزرج، حتی هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم، حتى سكتوا وسكت)4(4) البخاري (2661)، مسلم (2770)..

قصة عبدالله بن أبي بن سلول

– وذكر أهل التفسير وأصحاب السير أن هذه القصة كانت في غزوة بني المصطلق: (اختصم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، حتى غضب عبدالله بن أبي، وعنده رهط من قومه، فيهم زید بن أرقم غلام حديث السن. وقال عبد الله بن أبي: أفعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. يعني بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لئن أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم، ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد في عز من الرحمن، ومودة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا. فقال عبدالله : اسكت، فإنما كنت ألعب. فمشی زيد بن أرقم بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد فراغه من الغزوة وعنده عمر بن الخطاب، فقال: «دعني أضرب عنقه یا رسول الله، فقال: إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب 5(5) تفسير الطبري 23/ 406.»، فقال عمر: فإن كرهت یا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن معاذ أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكیف یا عمر؟ إذا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؛ لا، ولكن آذن بالرحيل»6(6) تفسير الطبري 23/ 406..

وذلك في ساعة لم یکن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه، فقال: (أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال عبدالله: والذي أنزل عليك الكتاب بالحق ما قلت من هذا شيئا، وإن زیدا لكاذب، فقال من حضر من الأنصار: یا رسول الله شيخنا وكبيرنا، لا تصدق علیه کلام غلام من غلمان الأنصار، عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال. فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذبوه، وقالوا: وبلغ عبدالله ابن عبدالله بن أبي – وكان من فضلاء الصحابة – ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبدالله ابن أبي لما بلغك عنه، فإن کنت فاعلا فمرني، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني، وإني أخشی أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «بل نرفق به، ونحسن صحبته، ما بقي معنا» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه، ولكن بر أباك وأحسن صحبته» وذكروا القصة قالوا: وفي ذلك نزلت سورة المنافقين7(7) تفسير ابن كثير (تفسير سورة المنافقون) ورواه ابن هشام في السيرة النبوية 2/ 290..

ففي هذه القصة بيان أن قتل المنافق جائز من غير استتابة، وإن أظهر إنكار ذلك القول وتبرأ منه وأظهر الإسلام، وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم من قتله ما ذكره من تحدث الناس أنه يقتل أصحابه، لأن النفاق لم يثبت عليه بالبينة، وقد حلف أنه ما قال وإنما علم بالوحي وخبر زيد بن أرقم وأيضا لما خافه من ظهور فتنة بقتله وغضب أقوام يخاف افتتانهم بقتله.

ففي هذه الأحاديث دلالة على أن قتل المنافق كان جائز إذ لولا ذلك لأنکر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدم معصوم بالإسلام، ولم يعلل ذلك بكراهية غضب عشائر المنافقين لهم، وأن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وأن يقول القائل: لما أظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، لأن الدم إذا كان معصوما كان هذا الوصف عديم التأثير في عصمة دم المعصوم، ولا يجوز تعليل الحكم بوصف لا أثر له، ونزل تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم، وكما أنه دليل على القتل من غير استتابة على ما لا يخفی.

فإن قيل: فلم لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بنفاق بعضهم وقبل علانيتهم؟

قلنا: إنما ذاك لوجهين:

عدم ثبوت نفاقهم بأمر  ظاهر يعلمه العام والخاص

أحدهما: أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة، بل كانوا يظهرون الإسلام، ونفاقهم یعرف تارة بالكلمة يسمعها الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون بالله أنهم ما قالوا أو لا يحلفون، وتارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة والجهاد واستثقالهم وظهور الكراهة منهم لكثير من أحكام الله وعامتهم يعرفون في لحن القول، ….ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ويحلفون أنهم مسلمون وقد اتخذوا أيمانهم جنة، وإذا كانت هذه حالهم فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم الحدود بعلمه ولا بخبر الواحد ولا بمجرد الوحي ولا بالدلائل والشواهد، حتى يثبت الموجب للحد ببينة أو إقرار….. فكان ترك قتلهم – مع كونهم كفارا – لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية.

اعتبار المصالح والمفاسد

الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم، وقد بين ذلك حين قال: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»، وقال: «إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب»، فإنه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لأوشك أن يظن الظان أنه إنها قتلهم لأغراض وأحقاد، وإنما قصده الاستعانة بهم على الملك، كما قال: «أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم»، وأن يخاف من يرید الدخول في الإسلام أن يقتل مع إظهاره الإسلام کما قتل غيره.

فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية، التي يعلمه بها الخاص والعام، أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد آخرین عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربو فساده على فساد ترك قتل منافق. وهذان المعنيان حكمها باق إلى يومنا هذا، إلا في شيء واحد، وهو أنه لا ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر، مثل أغراض الملوك، فهذا منتف اليوم.

عدم إقامة الحد على المنافق خشية نفرة أكثر العرب عن الإسلام

والذي يبين حقيقة الجواب الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة مستضعفا هو وأصحابه عاجزين عن الجهاد، أمرهم الله بكف أيديهم، والصبر على أذى المشركين، فلما هاجروا إلى المدينة، وصار له دار عزة ومنعة، أمرهم بالجهاد، وبالكف عمن سالمهم، وكف يده عنهم، لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق، لنفر عن الإسلام أكثر العرب، إذا رأوا أن بعض من دخل فيه يقتل، وفي مثل هذه الحال نزل قوله تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الأحزاب: 48]. وهذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق، فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى الكافرين والمنافقين له، فلا يكافئهم عليه، لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة، ولم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة، ودخلت العرب في دين الله قاطبة، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في غزو الروم، وأنزل الله تبارك وتعالى سورة براءة، وكمل شرائع الدين من الجهاد والحج والأمر بالمعروف، فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3]، قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر، ولما نزلت براءة أمره الله بنبذ العهود التي كانت للمشركين، وقال فيها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 73].

وهذه ناسخة لقوله تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ) [ الأحزاب: 48]، وذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد، ولم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأن محمدا يقتل أصحابه، فأمره الله بجهادهم والإغلاظ عليهم)8(8) الصارم المسلول: المسألة الثالثة (الوجوه الدالة على جواز قتل المنافقين إذا ثبتت البينة) 3/656-684 باختصار..

نخلص من هذا النقل النفيس عن شيخ الإسلام الله في أحكام جهاد المنافقين إلى النتائج الآتية:

أولا: أن المنافق إذا أظهر نفاقه وجب قتله من غير استتابة، إلا أن يكون في قتله مفسدة كبرى تربو على مفسدة بقائه. ويتولى الحكم عليهم وإقامة الحدود ولاة الأمر من علماء وأمراء، ولا يترك الأمر يحكم فيه وينفذه عامة الناس، ففي ذلك مفاسد عظيمة لا تخفی.

ثانيا: إن ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين في زمانه صلى الله عليه وسلم كان لسببين كبيرين هما:

  1. أنهم كانوا ينكرون ما ينقل عنهم من الكفر والزندقة، ويتخذون أيمانهم الكاذبة جنة، يتقون بها عقوبة القتل، أي أنهم لا يظهرون نفاقهم، ولم يثبت كفرهم بالبينة القاطعة، أي أنه لم يظهر كفرهم بحجة شرعية.

2. لما يتخوفه صلى الله عليه وسلم مما يتولد عن قتلهم من الفساد والفتنة كقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه فينفرون من الإسلام. أو أن تأخذ أقوامهم الحمية فيغضبون لهم وتحصل المقتلة والفتنة بين المسلمين وهذان السبان حكمهما باق إلى يومنا هذا، وفي عدم مراعاتها في التعامل مع المنافقين وجهادهم ينشأ عنه فتنة وفساد كبير.

ثالثا: يختلف التعامل مع المنافقين، وما ينبغي أن يتخذ في حقهم حسب مراحل القوة والاستضعاف التي يمر بها المسلمون فبينما یکون الصفح عنهم وترك أذاهم في حالة ظهورهم وضعف المسلمين، فإن الغلظة وإقامة الحدود عليهم تكون في حالة قوة المسلمين، وضعف المنافقين، ويظهر هذا في سورة الأحزب، حيث قال الله عز وجل في هذه السورة: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ) [الأحزاب: 48]، بينما قال في آخرها:

(لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلً) [الأحزاب: 60 – 61].

وهنا يمكن القول: إذا كان واقع المسلمين اليوم في أكثر الأحوال لا يسمح بجهاد المنافقين بإقامة الحدود أو الإغلاظ عليهم لكف شرهم، فلا أقل من تعويض ذلك بجهادهم باللسان، وما يقوم مقامه من كل وسيلة ترد ما يستطاع من كيدهم للدين، وإلا فإن ذلك النفاق سيظل يتوحش ويطغى حتى يهدد بهدم معالم الإيمان والدين في كل بلاد المسلمين، والجهاد المطلوب يشترط فيه أن يكون وفق الضوابط الشرعية والموازنة بين المصالح والمفاسد.

الهوامش

(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 523، رواه البيهقي في الدلائل 5/340 (2009).

(2) مجموع الفتاوی 7/620-621.

(3) البخاري (3007) مسلم (2494).

(4) البخاري (2661)، مسلم (2770).

(5) تفسير الطبري 23/ 406.

(6) تفسير الطبري 23/ 406.

(7) تفسير ابن كثير (تفسير سورة المنافقون) ورواه ابن هشام في السيرة النبوية 2/ 290.

(8) الصارم المسلول: المسألة الثالثة (الوجوه الدالة على جواز قتل المنافقين إذا ثبتت البينة) 3/656-684 باختصار.

اقرأ أيضا

الموقف الشرعي من المنافقين والواجب نحوهم

فما لكم في المنافقين فئتين..؟

 

التعليقات غير متاحة