العولمة ليست هي مصطلحا يدل على حالة حديثة؛ فحداثة المصطلح لا تعني أن المعنى حديث، بل كانت العولمة هي حالة كانت تفرضها كل حضارة غالبة. إما إيجابية في حالة الإسلام وهداه، وإما سلبية في حالة الاستعمار المستخرِب والمستنزِف.

النموذج الإنساني

إن الصراع الذي يميز التاريخ الإنساني وما يزال هو الصراع بين ضروب “العولمة؟، أو بين “الصور النموذجية للإنسان” في الحضارات المختلفة.

والمتأمل في الحقب أو الفترات المهمة في التاريخ الإنساني يلحظ أنها كانت عالمية، وتعود إلى من بيدهم الأدوات التي تمكنهم من فرض خواصهم على الآخرين.

وبهذا المعنى؛ فالعولمة فعل تاريخي متواصل، وهو حصيلة المعركة الجارية بين “العالميات” أو “النماذج الحضارية” المختلفة التي يؤمن أصحابها بأن لهم رسالة تحدد المثال الإنساني الأعلى.

وفي هذا الإطار فإن “العولمة” صفة لفعل الإنسان الصانع للتاريخ.

عالمية الدعوة الإسلامية

إن الإسلام منذ أيامه الأولى كان واضح المعالم بأنه “دين عالمي”؛ غايته تقديم رسالة الحضارة الإسلامية بوصفها ضربا(1) روحيا خُلقيا وماديا لا يتنافى فيه الدنيوي والأخروي تنافيا انقساميا يجعل الإنسان ممزقا بين عالمين؛ أحدهما تحكمه القوانين الطبيعية الصماء، والثاني تحكمه القوانين الخلقية العزلاء.

ولقد كان واضحا كل الوضوح في لغة القرآن المكي عالمية الدعوة الإسلامية وإنسانية هذا الدين الذي يخاطب الإنسان، جنس الإنسان، بغض الطرف عن وطنه وقومه كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107)، وقوله، جل ثناؤه: ﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (التكوير:27) ، وقوله، جل ذكره ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا﴾ (سبأ:28).

وهذا الخطاب موجه للناس كافة في شتى بقاعهم ومختلف أزمانهم، وبكل أجناسهم وقومياتهم وألوانهم.

وخلال الحوار الذي دار في بيت أبي طالب بين كبار قريش وبين النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» (2) أي: كلمة “لا إله إلا الله”.

وفي مطلع السنة السابعة للهجرة باشر النبي صلى الله عليه وسلم عمله في المجال العالمي حينما أرسل رسله من “الحديبية” يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء عصره يدعوهم إلى الإسلام، وعلى رأسهم “قيصر” ملك الروم و”كسرى” ملك الفرس. (3)

ثم بدأ بعد ذلك الاحتكاك بالروم البيزنطيين في غزوة “مؤتة” و”تبوك” على مشارف بلاد الشام؛ إذ كانت هذه المنطقة ضمن الإطار الحيوي الاستراتيجي للأمة الإسلامية.

ولم يلتحق الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالرفيق الأعلى حتى كان العرب جميعا قد دانوا بالإسلام، ووضعت الدعوة الإسلامية خطوات ثابتة ومدروسة في طريق “التبليغ العالمي”.

وقد أُلقيت هذه المهمة الثقيلة على كاهل “الخلفاء الراشدين” الذين ابتدؤوا الفتوحات الإسلامية لإنقاذ الشعوب من الاستبداد السياسي والاستغلال المالي والتفكك الاجتماعي والفساد الأخلاقي.

خصائص العولمة الإسلامية

لقد انطلقت العولمة الإسلامية من منطلقات فكرية وعملية قوية، مما جعلها تلقى القبول لدى الأهالي في البلدان المفتوحة وتتجلى خصائصها في أنها:

  • تحمل ميزانا دقيقا للحقوق والواجبات حسب الشريعة الإسلامية.
  • تحرص على بناء مجتمع العدل والقوة.
  • تنطلق من مبدأ المساواة بين البشر دون اعتبار للثروة والجاه أو اللون أو العرق. “وذلك من حيث إقامة العدل وحفظ الحقوق والأعراض والدماء والأموال؛ مع رفعة الاسلام وعلوه وعلو شأن أهله”
  • تتخذ الشورى أساسا للنظام السياسي.
  • تُربي الناس على الإبداع والإتقان من خلال دعوتها إلى العمران.
  • تجعل العلم فريضة على الجميع لتفجير الطاقات الإنسانية لمواصلة التقدم والرقي.

الملكية العقارية بين الفرس “الساسانيين” و”الخلفاء الراشدين”

لنقتصر على نموذج واحد في المجال الاقتصادي لرصد العلاقة بين أشكال استثمار الأرض الزراعية في العهد “الساساني” والتحول النوعي في العهد “الإسلامي”.

لقد كان الفلاحون في سواد العراق أيام الدولة “الساسانية” يرتبطون بالأرض، وجلّهم في حالة رقّ واستعباد، خاصة في ضِياع “الدهاقين” و”النبلاء”.

وتروي المصادر أن هؤلاء دأبوا على جباية الأموال واغتصابها من أصحابها لتدعيم مدخراتهم وإثراء كنوزهم، حتى يروى أن “كسرى خسرو” الثاني اعتلى كرسي الملك وفي خزينته (68.2) مليون مثقال ذهبي لترتفع بعد ثلاثة عشر عاما من الحكم إلى (800) مليون مثقال ذهبي مما دفع الفلاحين إلى هجر الأرض نتيجة الإرهاق الضريبي واللجوء إلى الأديرة طمعا في الترهب وفرارا من الظلم. (4)

ولكن بعد الفتح الإسلامي اعتُبروا أحرارا، واقتصرت السياسة الإسلامية في عهد “الراشدين” على إبقاء الأراضي في أيديهم بدافع تشكيل القوى المنتجة من جهة، وتحديد مساحات تلك الأراضي بهدف ضبطها فنيا واقتصاديا، مما سهّل أعمال جباية الخراج، وأنصف أصحاب الأرض العاملين فيها من جهة أخرى. (5)

تأثير الحضارة الإسلامية في أوروبا المسيحية

في ضوء الدور الحضاري المتجدد والمتطور للمسلمين خلال العصر الأموي والعصر العباسي، أمكن للحضارة العربية الإسلامية أن تقدم مثالا من “الكونية” ونموذجا من “العولمة” يتسم بالتأثير على أوروبا المسيحية عبر معابر الحضارة في “الأندلس” و”صقلية” و”دمشق” و”فاس”، وغيرها من الحواضر الإسلامية، تأثيرا إيجابيا؛ إذ لم يحتكر المسلمون المنهج التجريبي الذي اكتشفوه، بل تركوا المجال مفتوحا أمام البعثات الطلابية التي كانت تأتي من أوروبا إلى الحواضر الإسلامية لتستفيد من الاكتشافات الإسلامية في مختلف فروع العلوم:

في الكيمياء، والطب، والهندسة، والطبيعة، والرياضيات، والزراعة، وعلم الاجتماع، والحسبة.. إلخ، كما ساهمت أيضا حركة الترجمة عن العربية ـ التي كانت لغة العصر ـ إلى اللغات الأوروبية وخاصة اللاتينية في نقل مناهج المبحث الإسلامي والكثير من نتائجها العلمية. (6)

التسامح في التعامل مع غير المسلم

لقد مثّل الإسلام فتحا في تقاليد “العولمة” من حيث التعامل مع غير المسلم، إذ كان المخالف “المعارِض” في أوروبا يُقتل أو يُطرد؛ بينما جاء الإسلام ليقبل الآخر المختلف معه في العقيدة أو الدين، ورتب له أوضاعا قانونية وحقوقية تحفظ له وجوده، وتحفظ له ممارسة عقيدته .. “مع الحفاظ على هوية البلاد الاسلامية، ومع الحفاظ على عقيدة الولاء والبراء، وإقامة الشريعة الربانية القائمة، والقيم الاسلامية السائدة، والقوة الحاسمة، وحفظ ثغور المسلمين، وعدم اتخاذ البطانة المحرَّمة مما يُخشى منه على المسلمين وهويتهم ومصالحهم”

ويكفي أن نعرف أن غير المسلمين الذين عاشوا في المجتمعات الإسلامية قد ازدهرت حياتهم ولم يعانوا أية مشكلة؛ وعلى سبيل المثال فإن العثمانيين اتجهوا نحو التسامح مع الأقليات الدينية والعرقية، وتناقل المسيحيون عبارة قالها “لوكاس ناتوراس” الزعيم الديني البيزنطي في القسطنطينية حيث قال:

“إنه خير لنا أن نرى العمامة في مدينتنا القسطنطينية من أن نرى فيها تاج البابوية”. (7)

كما كانت الدولة العثمانية ملاذا للهاربين من الاضطهاد الديني في أسبانيا وفي أوروبا؛ يقول المؤرخ البريطاني “توينبي” في هذا الشأن:

“إنها لأول مرة في التاريخ استطاعت أن تتوحد الكنيسة الأرثوذكسية في ظل هذه الدولة التي كانت استراتيجيتها: “وحِّد واحكم”؛ بينما كانت الاستراتيجية الاستعمارية تتبنى مبدأ “فرِّق تسُد”. (8)

الاستعمار ووسائل التغريب

عندما بدأ التخلف يطرق أبواب العالم الإسلامي لجملة من الظروف لا مجال لذكرها هنا، وأخذت موازين القوى تميل لمصلحة الأوروبيين مع إرهاصات النهضة، وبدأت أوروبا تسعى إلى تطويق العالم الإسلامي وإضعافه بكل الوسائل، فلم ينته القرن التاسع عشر الميلادي إلا وقد عظم شأن الاستعمار الغربي واستفحل، وسقطت أكثر البلدان الإسلامية تحت سيطرته أو نفوذه مستغلا ضعف السلطنة العثمانية.

لكن الذي ينبغي ذكره هنا هو أن الاستعمار الغربي يدخل في نطاق “العولمة السلبية”؛ لأن مهمته كانت تقتصر على استغلال الموارد الطبيعية، وتوفير المواد الخام لصناعاته، والأيدي العاملة التكميلية وتأمين سوق مفتوحة لبضائعه.

على أنه كان ينتظر الوقت الذي يستطيع فيه أن يستغني عن القوة العسكرية والتدخل المباشر ليعتمد في حراسة مصالحه على ما يسميه: “الصداقة”.

وكان منح الاستقلال لـ “المحميات” أو “المستعمرات” بعد المواجهات الدامية وسيلة تخدم هدفا مزدوجا هو:

“إيجاد التواصل وإنشاء علاقة مستقرة ظاهرها الود والتفاهم وأساسها حراسة مصالح المستعمر،  وتطوير السبل الكفيلة بدعم برامج التغريب (Westernigation) التي تطمح إلى طبع البلدان المختصة بطابع الحضارة الغربية”. (9)

وقد شمل التغريب كل الميادين، فتغلغل في السلوك الفردي، والفنون والآداب، والمناهج والبرامج الدراسية والإعلام، والاقتصاد، والقوانين… إلخ.

مراحل العولمة الغربية

على أن العولمة الغربية تتكون من المراحل الآتية:

أ – عولمة التصفية الجسدية

ويدخل ذلك في نطاق ما تفعله القبيلة البدائية الغالبة بالقبيلة المغلوبة. وهو ما فعله همج الغزاة الأوروبيين في أمريكا من تصفية جسدية لأصحاب الأرض المحتلة “الهنود الحمر”.

ب – عولمة الاستعباد الرقيقي

وقد كانت تتمثل في ضرورة البحث عن حل لما يترتب على تلك التصفية باستيراد العبيد من القارة الإفريقية لمن يعتقدون في أنفسهم تمثيل النوع الأرقى “الرجل الأبيض”.

ج – عولمة الاستعمار الاقتصادي

وكانت تتمثل في ضرورة التوسع دون تصفية واستعباد، لإيجاد مصادر للمواد الخام، والأيدي العاملة التكميلية، وأسواق مفتوحة للبضائع.

 د – عولمة الاستتباع الحضاري

وتتمثل في جعل المستعمرين توابع يفضّلون بأنفسهم مستعمِرا على مستعمر آخر دون حسبان للمصالح؛ بل يسعون لنوع من الاندماج الحضاري في قيم الغالب المفضَّل، وهو ما يمكن أن نسميه “اقتسام العالم إلى مناطق نفوذ ثقافي”.

هـ – والمرحلة الأخيرة هي عولمة التصفية الروحية

عندما يصبح التابعون يجدون في سيدهم المثال الأعلى؛ بحيث يصبح همهم الوحيد أن يكونوا مثله، مع الاعتقاد بأنهم لن يصبحوا كذلك إلا بنفي كل ما يميزهم عنه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “الانتحار الروحي”؛ فيسخرون من لغتهم وأدبهم وتاريخهم وقيمهم؛ وهو ما يعني إبادتهم الحضارية، وهذا الذي أصبح غالبا على جلّ “النخب العربية”، وخاصة التابع منها للمافيات الحاكمة الفاسدة المفسدة. (10)

العولمة التاريخية

ليست العولمة أمرا طارئا على الحياة في القرن العشرين وما تلاه الى الآن، بل هي حالة بشرية تبرز في حال غلبة حضارة ما على بقية الحضارات فتبرز سيدةً للعالم وقائدةً للبشرية؛ فتحدد المصطلح وما يحمل من قيم وتصور، بل وتحدد هي القيم وتعطيها بمقتضى الأهواء..!

ومن حسن طالع البشرية أن تكون الغلبة لحضارة ربانية تحمل رسالة الله الى العالمين، ومن سوء طالعها أن تكون المحتكِرة للمصطلحات والقيم حضاراتٌ تقول أن اصلها الحيوان ! ونوازعها نوازعه وأخلاقها أخلاقه..! تحمل الانحلال والإلحاد والتنكر للخير والعدل واعتماد النفاق والوحشية وجهين للتعامل المنحرف مع البشرية.. والله العاصم.

……………………………………………………..

الهوامش:

  1. الضرب: النوع.
  2. ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم،ج2، ص27.
  3. صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الجهاد والسير، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، ج12،ص112.
  4. نقلا عن :عبد المجيد قدي: قراءة في واقع تخلف العالم الإسلامي، ص82.
  5. انظر: أبو يوسف : كتاب الخراج،ص3638.
  6. انظر: غوستاف لوبون، حضارة العرب، وزيغرد هونكة، شمس العرب تسطع على الغرب.
  7. محمد حرب:العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص71.
  8. محمد كمال منصور: توظيف ورقة الأقليات في العالم الإسلامي (حالة تيمور الشرقية)، ص71.
  9. محمد محمد حسين، الإسلام والحضرة الغربية، 41، 42، 45، 46.
  10. أبو يعرب المرزوقي: العولمة والكونية، ص19.

لقراءة البحث كاملا، على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة