إذا بالغت في التواضع صار مهانة، وإذا فرطت كان الكبر. إذا فقدت التأني كان الندم للطيش والعجلة، وإذا بالغت ضاعت منك الفرص. ثمة ضوابط لهذه الأخلاق.

مقدمة

مدح الله تعالى أخلاقا ورغّب عباده في التحلي ولاتصاف بها. والبعض ينحرف عنها ويرتكب أخطاء تحت اسم هذه الأخلاق. ومن أكثر العلوم أهمية أن تعلم ما تطّرد به الأوامر والأخلاق وتعلم المراد بها ومحلها الائق وحدوده؛ فذلك من معرفة حدود ما أنزل الله سبحانه.

أولا: التواضع

التواضع خُلق رفيع يحبه الله عز وجل ويحب المتصفين به.

قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان:63].

ونهى سبحانه عن ضده، ومقت أهله ـ وهم أهل التكبر والمرح والبطر ـ قال سبحانه في وصية لقمان لابنه: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان:18].

مواقف الناس في التواضع

والتواضع المحمود كغيره من الأخلاق وسط بين طرفين مذمومين:

طرف الإفراط والمهانة

وهو أن يُفْرط في التواضع حتى يوقعه ذلك في المهانة والخِسّة وابتذال النفس وإذلالها وهوانها.

وأما وصف الله عز وجل “عباد الرحمن” أنهم يمشون على الأرض “هونًا”؛ فـ “الهَون” هنا كما قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: «والهَون» بالفتح في اللغة: الرِّفق واللِّين، «والهُون» بالضم: الهوان. فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم: صفة أهل الكفران والنيران». (1«مدارج السالكين» (3/ 108)، ط. دار طيبة)

طرف التفريط والكبر

وهو التقصير في التحلي بهذا الخلق، والوقوع في ضده وهو “الكِبر”.

والتكبر إما على الخلق وإما على الحق بترك الانقياد له.

الوسط والعدل

وهو التواضع الذي وصفه الإمام ابن القيم ، رحمه الله تعالى، بقوله:

“وهو التواضع الذي يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفة النفس وتفاصيلها وعيوب عملها، وآفاتها؛ فيتولد من بين ذلك كله خُلق “التواضع”؛ وهو انكسار القلب لله وخفض جناح الذلة والرحمة بعباده؛ فلا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خُلُق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقرّبه». (2انظر: «الروح» لابن القيم (ص 495))

ومما وصف به الله عز وجل أهل هذا الخُلق العدْل قوله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 54].

وما أحسن ما قاله الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، عن معنى «الأذلة» في الآية؛ قال رحمه الله تعالى:

“لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عدَّاه بأداة «على» تضمينًا لمعاني هذه الأفعال؛ فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول». (3«مدارج السالكين» (3/ 108)، ط. دار طيبة)

ثانيًا: التأني والتؤدة

التؤدة والأناة خلقان محمودان محبوبان لله عز وجل كما قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد قيس: «إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة». (4رواه مسلم في الإيمان (18))

وقوله صلى الله عليه وسلم: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة». (5أبو داود (4810)، وصححه الألباني في «السلسلة» (1794))

ولكن يكتنف هذين الخُلقين المحمودين خُلقان مذمومان: أحدهما ينزع إلى الإفراط والآخر إلى التفريط.

مواقف الناس في التأني والتؤدة

فطرف الإفراط والتضييع

هو الذي يغلب على صاحبه الغلوّ في التأني حتى تضيع عليه فُرص من الخير ينالها، أو فرص من الشر يدفعها، ثم لم يبادر إلى ذلك إغراقًا منه في التأني والتؤدة.

وطرف التفريط والعجلة

هو الذي يفرِّط في الأخذ بالتؤدة والتأني ويقع بسبب ذلك في العجلة والطيش وطلب الشيء قبل أوانه.

الوسط العدل المبادرة بلا طيش

وهو من يأخذ بهذا الخلق الكريم بحيث لا يدفعه ذلك إلى الكسل، وتفويت الفرص والمبادرة إليها في وقتها، كما لا يفرِّط فيه فيقع في العجلة والطيش.

يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى:

“والفرق بين المبادرة والعجلة: أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها، ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضجها وإدراكها.

والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها، فـ “المبادرة” وسط بين خُلقين مذمومين أحدهما: التفريط والإضاعة، والثاني: الاستعجال قبل الوقت. ولهذا كانت العجلة من الشيطان؛ فإنها خفة وطيش وحدّة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور وتمنعه من الخير، وهي قرين الندامة؛ فقلَّ من استعجل إلا ندم. كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة”. (6انظر: كتاب «الروح» لابن القيم (546-547))

ويقول في موطن آخر:

“فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة “البداءات” استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش، وعاقبته الندامة، وعاقبة الأول حمْد أمرِه.

ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها، وهي “الفوت”؛ فإنه لا يخاف من التثبيت إلَّا الفوت؛ فإذا اقترن به العزم والحزم تمَّ أمره. ولهذا جاء في الدعاء الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد». (7رواه أحمد (4/ 125)، ورواه النسائي (1304)، وضعفه الألباني في «ضعيف النسائي» (70))

وهاتان الكلمتان هما جِماع الفلاح، وما أُتي العبد إلَّا من تضييعهما أو تضييع أحدهما؛ فما أتي أحد إلَّا من باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والتماوت وتضييع الفرصة بعد مواتاتها. فإذا حصل الثبات أولًا والعزيمة ثانيًا أفلح كل الفلاح، والله وليُّ التوفيق”. (8«مفتاح دار السعادة» (1/ 146))

خاتمة

بهذه الضوابط تطرد الأخلاق الحميد وتتجنب المزالق، ولا ترتكب خُلقا مذموما بحجة منسوبة لما أمر الله به؛ فالالتزام بما أمر الله تعالى يخرج أحسن الصفات وأنبل الأخلاق وأعدل النفوس اتزانا وقوة.

……………………..

الهوامش:

  1. «مدارج السالكين» (3/ 108)، ط. دار طيبة.
  2. انظر: «الروح» لابن القيم (ص 495).
  3. «مدارج السالكين» (3/ 108)، ط. دار طيبة.
  4. رواه مسلم في الإيمان (18).
  5. أبو داود (4810)، وصححه الألباني في «السلسلة» (1794).
  6. انظر: كتاب «الروح» لابن القيم (546-547).
  7. رواه أحمد (4/ 125)، ورواه النسائي (1304)، وضعفه الألباني في «ضعيف النسائي» (70).
  8. «مفتاح دار السعادة» (1/ 146).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة