لالتزام العدل مقتضيات عملية تجدها في منهج سماع الأخبار ونقلها، وفي مواجهة الأخطاء والانحرافات، بإقامة العدل وإعطاء كل موضع ما يستحقه.

مقدمة

المقصود من إثارة هذا الموضوع، هو التعرض للجوانب العملية التي يفرضها العدل على المسلم، وخاصة في واقعنا المعاصر، وما نشأ فيه من تفريط في هذه الجوانب.

فالعدل ليس شعارا يُرفع بل واقع عملي يقام، وآثار يلمسها الموافق والمخالف، بل يلمسها البر والفاجر والمؤمن والكافر؛ فهي من شهادة هذه الأمة وقيامها بالخيرية التي أخرجها الله تعالى بها.

من لوازم العدل ومقتضياته

ونقتصر فيها على ما يلي :

1- التثبت من الأمر قبل الحكم عليه

إن من العدل والإنصاف أن يتثبت المسلم من كل خبر أو ظاهرة، قبل الحكم عليها. وإن من الظلم والاعتداء الحكم على أمر بمجرد الظنون والأوهام، وقبل التثبت التام منه. ولقد بين الله سبحانه وتعالى لنا في سورة الإسراء وفي آية واحدة المنهج الصحيح، الذي ينبغي سلوكه في مثل هذه الأمور؛ يقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].

وحول ظلال هذه الآية؛ قال سيد قطب رحمه الله تعالی:

“والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة، فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾، وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام عن المناهج العقلية الجافة .

فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها؛ هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.

والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرفا من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولا عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد .

إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يُسأل عنها صاحبها وتُسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعا، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكما على شخص أو أمر أوحادثة .

ولا تقْف ما ليس لك به علمه ولا تتّبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته من قولٍ يقال ورواية تُروَى، ومن ظاهرة تفسَّر أو واقعة تعلَل. ومن حُكم شرعي، أو قضية اعتقادية .

وفي الحديث: «إياكم والظن فإنه أكذب الحديث«، وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل: زعموا«، وفي الحديث الآخر: «إن أفرى الفرى أي يري الرجل عينيه ما لم تَريا».

وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه والتثبت في استقرائه؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكما، ولا يبرم الإنسان أمرا إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها: ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ حقا وصدقا..”. (1في ظلال القرآن، (5/ 324) ط. دار المعرفة اللبنانية)

2. العدل في النقد ومعالجة الخطأ

هذا الجانب من جوانب العدل نحتاج إليه في كل حال من أحوالنا الفردية والجماعية، وذلك في حل مشاكلنا ومعالجة أخطائنا معالجة شرعية تسيطر عليها روح المحبة والإخلاص .

ويجدر بنا أن نذكر هنا المنهج العادل والطريقة المثالية لمعالجة الخطأ، وذلك حسبما رسمه لنا من أمرنا الله عز وجل بأن تكون لنا أسوة حسنة فيه صلى الله عليه وسلم، وما أكثر المواقف العادلة في سيرته صلى الله عليه وسلم؛ بل إن سيرته صلى الله عليه وسلم كلها عدل.

ونكتفي هنا بمثال واحد ألا وهو موقفه صلى الله عليه وسلم من صنيع “حاطب بن أبي بلتعة” رضي الله عنه في فتح مكة، ويحسُن أن نذكر القصة بتمامها؛ ليتضح لنا ذلك القسطاس المستقيم الذي انتهجه الرسول صلى الله عليه وسلم في معالجة هذا الخطأ، رغم شناعته وخطورته:

روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، عن علي رضي الله عنه، قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير. وكلنا فارس ـ قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب ابن أبي بلتعة إلى المشركين»، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر کتابا؛ فقلنا: ما کذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ـ وهي محتجزة بكساء ـ فأخرجته؛ فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: یا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ما صنعت؟». قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم ید يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «صدق، ولا تقولوا إلا خيرا». فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: «أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر؛ فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو فقد غفرت لكم»، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم». (2رواه البخاري في المغازي (3983)، ومسلم في فضائل الصحابة (2494))

مراحل معالجة الخطأ

من هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ، مهما كانت ضخامته :

المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ

وفي هذه الحادثة قد تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي؛ حيث أوحى الله عز وجل إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة، وأين هي المرأة .

المرحلة الثانية: مرحلة التثبت من الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ

وهذا الأمر متمثل في قوله صلى الله عليه وسلم لحاطب: «ما حملك على ما صنعت؟»، وهذه المرحلة مهمة؛ لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذرا شرعيا في ارتكاب الخطأ، وتنتهي القضية عند هذا الحد. فإذا لم تنته عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب، وأن العذر الذي أبداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مقنعا لكنه طمأن رسول الله على صدق حاطب، وأنه لا زال مسلما، نقول: إذا لم يكن العذر مقنعا من الناحية الشرعية؛ فإنه يصار إلى :

المرحلة الثالثة: الموازنة بين الحسنات والسيئات

وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الخطا أو هذه السيئة في بحر حسناته؛ وهذا هو الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم مع حاطب رضي الله عنه؛ حيث قال له لعمر عندما استأذن في قتل حاطب: «أليس من أهل بدر؟» فقال: «لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو فقد غفرت لكم» .

الخلاصة والخاتمة

إن العدل في القول والفعل، ومعالجة الأخطاء، لو سلكنا فيها ذلك المسلك النبوي السابق تفصيله لما وقع كثير من المسلمين فيما وقعوا فيه اليوم من کیل التهم، والتشهير، وتتبع العثرات، والذي لا يستفيد منه إلا الشيطان وأولياؤه، ولا يفرح الشيطان بشيء کفرحه بالفرقة والاختلاف بين المسلمين.

ولو أن أحدنا إذا سمع شائعة عن مسلم أو طائفة ما فقام بالتثبت منها، فإنه يصبح أمام أحد أمرين:

إما أن تكون الشائعة لا أصل لها، وأنها مجرد ظنون وأوهام كاذبة، فيُقضَي عليها في مهدها.

وإما أن يكون الأمر صحيحا بعد التثبت فيصار إلى المرحلة الأخر، ألا وهي البحث عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى وجود هذا الخطأ؛ إما من صاحب الشأن، إن كان ذلك ممكنا، أو سؤال من يعرفه، أو من التمعن فيما كتبه إن كان ذلك مكتوبا..إلخ.

ولعله قد تبين لنا الآن من الحديث حول هذا اللازم المهم ـ من لوازم العدل ـ الفرق بين العدل في القول والعمل، وأثر ذلك في النصيحة والإصلاح والائتلاف، وبين الاعتداء في القول والعمل، وما ينتج عنه من تشهير وفرقة واختلاف، وذلك في وقت نحن معاشرَ أهل السنة والجماعة بحاجة شديدة إلى الوحدة والائتلاف، لا إلى الفرقة والاختلاف.

………………………..

الهوامش:

  1. في ظلال القرآن ، (5/ 324) ط. دار المعرفة اللبنانية.
  2. رواه البخاري في المغازي (3983)، ومسلم في فضائل الصحابة (2494).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة