حاجة المسلم الى الثبات مطلب في الدنيا وفي البرزخ ويوم لقاء الله. وثمة من ينكص وينتكس. وللثبات وسائل يجب التزامها؛ فالفتنة خسارةٌ بعد فوز.

مقدمة

إن الثبات على دين الله مطلب أساسي لكل مسلم صادق يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد.

أهمية الموضوع تكمن في أمور منها:

الفتن والمغريات

وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً «القابض على دينه كالقابض على الجمر».

ولا شك عند كل ذي لُبٍّ أن حاجة المسلم اليوم للثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر.

كثرة النكوص والانتكاسات

– كثرة حوادث الردة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات بين المسلمين؛ مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى برٍ آمِن.

– ارتباط الموضوع بالقلب؛ الذي يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأنه: «لَقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً» (1رواه الإمام أحمد والحاكم عن المقداد مرفوعاً، صحيح الجامع (5023))

ويضرب ـ عليه الصلاة والسلام ـ للقلب مثلاً آخر فيقول: «إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلقت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن». (2رواه الطبراني عن أبي موسى مرفوعاً، صحيح الجامع (2361))

فسبق قول الشاعر:

ما سمي الإنسان إلا لنسيانه … ولا القلب إلا أنه يتقلب

فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها.

من وسائل الثبات

ومن رحمة الله، عز وجل، بنا أن بيّن لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته وسائل كثيرة للثبات، نستعرض بعضاً منها:

أولاً: الإقبال على القرآن

القرآن العظيم وسيلة التثبيت الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.

نص الله على أن وظيفة هذا الكتاب والغاية التي من أجلها أنزله منجّماً مفصلاً هي التثبيت، فقال -تعالى – في معرض الرد على شُبه الكفار: ﴿وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ [الفرقان: 32، 33].

كيف يكون القرآن مصدراً للتثبيت؟!

  • لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.
  • لأن تلك الآيات تنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن الذي تعصف به رياح الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله.
  • لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يقوّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.
  • إنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.

وانظر الى أثر قول الله، عز وجل: ﴿مَا ودَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى﴾ [الضحى:3] على نفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما قال المشركون: ودع … محمد (3تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 446))

وأثر قول الله، عز وجل: ﴿لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: 103] لما ادعى كفار قريش أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، إنما يعلمه بشر وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومى بمكة؟!

وأثر قول الله، عز وجل: ﴿أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة: 49] في نفوس المؤمنين لما قال المنافق ﴿ائْذَن لِّي ولا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: 49]

أليس تثبيتاً على تثبيت، وربطاً على القلوب المؤمنة، ورداً على الشبهات وإسكاتاً لأهل الباطل..؟

بلى وربى.

ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً؛ منه ينطلقون، وإليه يفيئون، وبين مَن جعلوا كلام البشر جُلّ همهم وشغلهم الشاغل.

 ثانياً: التزام شرع الله والعمل الصالح

قال الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27].

قال قتادة: أما ﴿في الحياة الدنيا﴾ فيثبّتهم بالخير والعمل الصالح، ﴿وفي الآخرة﴾ في القبر.

وكذا روي عن غير واحد من السلف. (4المصدر السابق (2/ 535))

وقال سبحانه: ﴿ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ [النساء: 166]، أي على الحق.

وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهمّ الخطب؟ ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم الله إليه صراطاً مستقيماً ويثبتهم بما ثبتوا به أنفسهم في الدنيا.

ثالثاً: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل

والدليل على ذلك قوله، تعالى: ﴿وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120].

فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للتسلية والتفكُّه، وانما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأفئدة المؤمنين معه.

فلو تأملت ـ يا أخي! ـ قول الله، عز رجل: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ * وأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾ [الانبياء: 68-70]، قال ابن عباس: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: «حسبي الله ونعم الوكيل». (5الفتح (8/ 229))

ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب يدخل نفسك وأنت تتأمل هذه القصة..؟

لو تدبرت قول الله، عز وجل، في قصة موسى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 61، 62]؛ ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الظالمين، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة..؟

لو استعرضت قصة سحرة فرعون؛ ذلك المثل العجيب للثُلّة التي تثبت على الحق بعدما تبين، ألا ترى أن معنى عظيماً من معانى الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأَبْقَى﴾ [طه: 71]

ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون: ﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: 72].

وهكذا قصة المؤمن في سورة يس، ومؤمن آل فرعون، وأصحاب الأخدود، وغيرها؛ يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة.

 رابعاً: الدعاء

من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم:

﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: 8]، ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ [البقرة: 250].

ولما كانت «قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» (6رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعاً) كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يُكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك». (7رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً، صحيح الجامع (7864))

خامساً: ذكر الله

وهو من أعظم أسباب التثبيت.

وتأمل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله، عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأنفال: 45] فجعله الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد.

(وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها) (8ما بين القوسين مقتبس من كلام ابن القيم – رحمه الله – في “الداء والدواء”) بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً.

وبماذا استعان يوسف، عليه السلام، في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها، ألم يدخل في حصن “معاذ الله”؛ فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه..؟

سادساً: الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً

والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة؛ طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، ذي العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل.

وإذا أردت أن تعرف قيمة هذا في الثبات فتأمل، وسائلْ نفسَك؛ لماذا ضل كثير من السابقين واللاحقين وتحيّروا ولم تثبت أقدامهم على الصراط المستقيم ولا ماتوا عليه..؟ أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم؟ فترى أحدهم يتنقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة، إلى عالم الكلام والاعتزال، إلى التحريف، إلى التصوف والتفويض والإرجاء..

وهكذا أهل البدع يتحيرون ويضطربون وانظر كيف حُرم أهل الكلام الثبات عند الممات؛ فقال السلف: “أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام”.

لكن فكر وتدبر هل رجع أحد من أهل السنة والجماعة عن طريق سُخطة بعد إذ وُفِقهُ وسلكه؟ فقد يتركه لأهواء وشهوات أو لشبهة عرضت لعقله الضعيف، لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصح منه أو تبين له بطلانه.

ومصداق هذا مساءلة هرقل لأبي سفيان عن أتباع محمد، صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لأبي سفيان:

فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا. ثم قال هرقل: «وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب». (9رواه البخاري، الفتح (1/ 31))

سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع أو هداهم الله فتركوا الباطل وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى، ولكن هل سمعنا العكس..؟!

فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين.

خاتمة

تلك بعض الوسائل التي يجب أن يلتزمها المسلم للفوز بالثبات على الطريق؛ فإن هذا الطريق نفيس، لأنه طريق رب العالمين، وسلوكه فوز، ولا يتم هذا الفوز إلا بالثبات عليه حتى الممات والقبول من رب العالمين.

……………………………………..

هوامش:

  1. رواه الإمام أحمد والحاكم عن المقداد مرفوعاً، صحيح الجامع (5023).
  2. رواه الطبراني عن أبي موسى مرفوعاً، صحيح الجامع (2361).
  3. تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 446).
  4. المصدر السابق (2/ 535).
  5. الفتح (8/ 229).
  6. رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعاً.
  7. رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً، صحيح الجامع (7864).
  8. ما بين القوسين مقتبس من كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في “الداء والدواء”.
  9. رواه البخاري، الفتح (1/ 31).

المصدر:

  • راجع: محمد صالح المنجد، مجلة البيان صفر – 1409هـ (السنة: 3).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة