من عرف ربه تعالى وعظّمه قبِل منه أمره وانقاد له، ومن عرف ذنوبه وعيوبه انكسر لربه وللخلق فلم ير لنفسه فضلا؛ فتواصل مع عباده ونفعهم وانتفع منهم.

مقدمة

صاحب السريرة الصالحة متواضع للحق والخلق، وهو يألف ويؤلف؛ يصف الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن بقوله: «المؤمن مؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف». (1مسند أحمد: (8831)، وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط)

وقال أيضا: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو تحرم عليه النار؟! تحرم على كل قريب هين لين سهل». (2الترمذي في صفة القيامة، باب (45)، وقال هذا حديث حسن غريب)

ويبين ابن القيم رحمه الله تعالى بعض صفات الصِدّيقين؛ فيقول:

“فإذا تمكّن العبد في حاله، وصار له إقبالٌ على الله، وجمعيةٌ عليه ـ مَلَكة ومقاما راسخا ـ أنِس بالخلق وأنِسوا به، وانبسط إليهم وحملهم على ضلعهم وبطء سيرهم. فعكفت القلوب على محبته للُطفه وظرفه. فإن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ. ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب، ويدفع عن صاحبه من الشر، ويسهل له ما توعَّر على غيره..

فليس الثقلاء بخواص الأولياء، وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك. وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوة، ولطافة وظرفا. فترى الصادق فيها من أحلى الناس، وألطفهم وأظرفهم. قد زالت عنه ثقالة النفس، وکدورة الطبع، وصار روحانیا سمائيا، بعد أن كان حيوانا أرضيا فتراه أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وألطفهم قلبا وروحا، وهذه خاصية المحبة، فإنها تلطف وتظرف وتنظف، ومن ظرف هذه الطبقة أن لا يظهر أحدهم على جليسه بحال ولا مقام، ولا يواجهه إذا لقيه بالحال بل بلين الجانب وخفض الجناح وطلاقة الوجه فيفرش له بساط الأنس، ويجلسه عليه، فهو أحب إليه من الفرش الوثيرة”. (3وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2022))

أقسام التواضع

والتواضع الذي هو من علامات السريرة الصالحة قسمان:

  • التواضع للحق وقبوله والانقياد له.
  • التواضع للخلق وعدم التكبر والتعالي عليهم.

وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم هذين القسمين بذكر ما يضادهما من نوعي الكبر، وذلك في قوله: «الكبر بطر الحق، وغمط الناس». (4مدارج السالكين: (3/ 180، 181))

وصاحب السريرة الصالحة لا تراه إلا منقادا للحق مسلما له مستسلما، لا يعارضه بشبهات عقلية ولا شهوات قلبية.

كما أنه متواضع لعباد الله عز وجل، لا يرى له فضلا عليهم، ولا يحتقرهم، فضلا عن أن يتفاخر أو يتعالى عليهم. ومِن تواضعه لهم قبول معذرة من أساء إليه منهم، ولو كان في عذره خلل. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“إن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه وتعالى ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها.

فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحد فضلا، ولا يرى له عند أحد حقا، بل يری الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قِبَله، وهذا خُلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه”. (5مسلم: (91))

ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن صور التواضع للدين والحق، فيقول:

“التواضع للدين: هو الانقياد لما جاء به الرسول، والاستسلام له، والإذعان. وذلك بثلاثة أشياء:

الأول: أن لا يعارض شيئا مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم، المسماة: بالمعقول، والقياس، والذوق، والسياسة.

فالأولى: للمنحرفين من أهل الكبر من المتكلمين، الذي عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة. وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل، وعزلنا النقل. إما عزل تفويض، وإما عزل تأويل.

والثانية: للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه، قالوا: إذا تعارض القياس والرأي والنصوص قدمنا القياس على النص، ولم نلتفت إليه.

والثالثة: للمتكبرين المنحرفين من المنتسبين إلى التصوف والزهد. فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر. قدموا الذوق والحال، لم يعبأوا بالأمر.

والرابعة: للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين. إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة. قدموا السياسة، ولم  يلتفتوا إلى حكم الشريعة.

فهؤلاء الأربعة: هم أهل الكبر.

والتواضع التخلص من ذلك كله”. (6الفوائد: (157، 158) باختصار)

نماذج من تواضع السلف للحق ووصاياهم في ذلك

ما كتبه عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في كتابه المشهور في القضاء، وفيه:

“.. ولا يمنعك من قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه نفسك، وهُديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قدیم، ولا يُبطل الحقَ شيء، وإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل”. (7مدارج السالكين: (2/ 347))

وعن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه قال: “أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن علِّمني كلمات جوامع نوافع. فقال له عبد الله: لا تشركْ به شيئا، وزُل مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا، ومن جاءك بالباطل فاردده عليه وإن كان حبيبا قريبا”. (8سنن الدارقطني: (4/ 206))

وقال الذهبي: وفي (مسند الشافعي سماعا): أخبرني أبو حنیفة بن ساك، حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود». (9صفة الصفوة: (1/ 419))

قلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا؟ فضرب صدري، وصاح كثيرا، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: تأخذ به؟ نعم آخذ به، وذلك الفرض علي، وعلى كل من سمعه. إن الله اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به، وعلى يديه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك». (10رواه البخاري بلفظ قريب: (6880)، ومسلم: (1355))

وقال الحميدي: روى الشافعي يوما حديثا، فقلت: أتأخذ به؟ فقال أرأيتني خرجت من کنیسة، أو علي زِنّار، حتى إذا سمعت عن رسول الله حديثة لا أقول به؟!. (11رواه أبو داود: (4504)، وأصله في البخاري: (6880)، ومسلم: (1355))

ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا» بقوله:

“ولما كان أكثر الناس إنا يتكلم بالحق في رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل، وقد يدخله أيضا رضاه في الباطل، سأل اللهَ عز وجل أن يوفقه لكلمة الحق في الغضب والرضا، ولهذا قال بعض السلف: لا تكن ممن إذا رضي أدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق”. (12سير أعلام النبلاء: (10/ 33))

وذكر محمد بن حارث في أخبار “سحنون بن سعيد” عنه، قال: كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم ابن دینار وغيرهم يختلفون إلى “ابن هرمز”، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابها، وإذا سأله ابن دینار وذووه لا يجيبهم، فتعرض له ابن دینار يوما، فقال له: يا أبا بكر لِمَ تستحل مني ما لا يحل لك؟ فقال له: يا ابن أخي وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما، وأسألك أنا وذويي فلا تجيبنا؟! فقال: أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟ قال: نعم. قال: إني قد كبرت سني ودق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالِمان فقيهان إذا سمعا مني حقا قبلاه، وإن سمعا مني خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه.

قال ابن حارث: “هذا ـ واللهِ ـ الدين الكامل والعقل الراجح، لا كمن يأتي بالهذيان، ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن”. (13إغاثة اللهفان: (1/ 29))

نماذج من تواضع السلف للخلق

قال عروة بن الزبير رضي الله عنه: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: «يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا. فقال: لمّا أتاني الوفود سامعين مطيعين. دخلت نفسي نخوة. فأردت أن أكسرها». (14أعلام الموقعين: (2/ 198))

وركب زید بن ثابت مرَّة. فدَنا ابن عباس ليأخذ بركابه. فقال: مه یا ابن عم رسول الله ! فقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بكبرائنا. فقال: أرني يدك. فأخرجها إليه فقبلها. فقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بیت رسول الله صلى الله عليه وسلم. (15مدارج السالكين، لابن القيم: (2/ 330، 331))

وقسّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حُللا، فبعث إلى معاذ حُلة مثمنة. فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم. فبلغ ذلك عمر، فبعث إليه بعد ذلك حُلة دونها. فعاتبه معاذ، فقال عمر: لأنك بعت الأولى. فقال معاذ: وما عليك؟ ادفع لي نصيبي. وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه: رأسي بين يديك. وقد يرفق الشاب بالشيخ. (16مدارج السالكين، لابن القيم: (2/ 330، 331))

وعن رجاء بن حيوة قال: “سمرت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فاعتلّ السراج، فذهبت أقوم أصلحه فأمرني عمر بالجلوس، ثم قام فأصلحه ثم عاد فجلس، فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وجلست وأنا عمر بن عبدالعزيز، ولؤم بالرجل إن استخدم ضيفه”. (17المرجع السابق)

وعن كنانة بن جبلة السلمي قال: قال بكر بن عبد الله: “إذا رأيتَ مَن هو أكبر منك، فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك، فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا فضل أخذوا به، وإذا رأيت منهم تقصيرا فقل: هذا ذنب أحدثته”. (18الحِلية: (5/ 332))

خاتمة

من امتلأ قلبه بتعظيم رب العالمين؛ تواضعت نفسه لإخوانه وللمسلمين، وهو خُلق يجذب النفوس اليه؛ فالمتكبر منفّر، والناس عنه متباعدة. فقد قال بعض السلف إن من الناس رؤوسا أبت إلا ان تتواضع فأبى الله إلا أن يرفعها. ومن الناس رؤس أبت إلا أن تتكبر فأبى الله إلا أن يضعها. ومن وضعه الله فلا رافع له.

تلك أخلاق الإسلام الرفيعة؛ فاز امرؤ تخلق بها وأهدى الى الناس قدوة صالحة.

…………………………..

الهوامش:

  1. مسند أحمد: (8831)، وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط.
  2. الترمذي في صفة القيامة، باب (45)، وقال هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2022).
  3. مدارج السالكين: (3/ 180، 181).
  4. مسلم: (91).
  5. الفوائد: (157، 158) باختصار.
  6. مدارج السالكين: (2/ 347).
  7. سنن الدارقطني: (4/ 206)
  8. صفة الصفوة: (1/ 419).
  9. رواه البخاري بلفظ قريب: (6880)، ومسلم: (1355).
  10. رواه أبو داود: (4504)، وأصله في البخاري: (6880)، ومسلم: (1355).
  11. سير أعلام النبلاء: (10/ 33).
  12. إغاثة اللهفان: (1/ 29).
  13. أعلام الموقعين: (2/ 198).
  14. مدارج السالكين، لابن القيم: (2/ 330، 331).
  15. مدارج السالكين، لابن القيم: (2/ 330، 331).
  16. المرجع السابق.
  17. الخلية: (5/ 332).
  18. صفة الصفوة: (3/ 248).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة