أبطل الله إحراق النار وإتلافها لإبراهيم، وأوصل ريح يوسف لأبيه من أقطار بعيدة، وعاش أهل الكهف نياما بلا طعام ولا شراب.. تلك لمحة من خوارق للتدبر واليقين.

مقدمة

يطلب الناس خوارق ليروا صدق الرسل؛ منهم من طلبها مخلصا للإتباع والتصديق وفتوافرت على قلبه الدلائل وتزاحمت حتى أيقن بالغيب أكثر مما يوقن بالشهادة.

ومنهم من طلبها عنادا وتعنتا؛ فإما لم يجابوا لا طلبهم وإما أجيبوا وعاندوا فأُهلكوا؛ جزاء وفاقا.

وفي كل حال فنحن آخر الأمم ومما أكرمنا الله به أن تاريخ الأنبياء ومدافعتهم ومعجزاتهم بقيت لنا من خلال ما بلّغه الصادق المصدوق صل الله عليه وسلم.

ومن الحكمة أن نرى ما أرانا الله ونلتفت اليه تدبرا وتعظيما وطلبا للإيمان والعلم وسكينة اليقين.

من الخوارق والآيات مع الأنبياء

قصة ناقة ثمود .. آية مبصرة

قال الله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا﴾ [الإسراء: 59]. وقال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأعراف:73].

روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: لما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجر قال: «لا تسألوا الآيات وقد سألها قوم صالح، فكانت ترِد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، فكانت تشرب ماءهم يومًا ويشربون لبنها يومًا، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله عز وجل مَن تحت أديم السماء منهم إلا رجلًا واحدًا كان في حرم الله عز وجل» قيل: من هو يا رسول الله قال: «هو أبو رغال؛ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصابهم». (1«المسند» (3/ 296)، والحاكم (2/ 320)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي)

ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية الأعراف عند قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً﴾ فيقول:

“والسياق هنا ـ لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب ـ لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة، بل يعلن وجودها عقب الدعوة، وكذلك لا يذكر تفصيلًا عن الناقة أكثر من أنها بيِّنة من ربهم، وأنها ناقة الله وفيها آية منه، ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية، أو أنها أُخرجت لهم إخراجًا غير عادي؛ مما يجعلها بيِّنة من ربهم، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى، ويجعلها آية على صدق نبوته، ولا نزيد على هذا شيئًا مما لا يرِد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن. وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر”. (2«في ظلال القرآن» (3/ 1313))

جعل النار المحرقة بردًا وسلامًا على إبراهيم

قال الله تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء:68-70].

ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية العظيمة ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾  فيقول:

“فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم.. كيف؟

ولماذا نسأل عن هذه وحدها، و “كُونِي” هذه هي الكلمة التي تكون بها أكوان، وتنشأ بها عوالم، وتُخلق بها نواميس؛ إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: “كن”، فيكون.

فلا نسأل: كيف لم تحرق النار إبراهيم، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية..؟ فالذي قال للنار: كوني حارقة هو الذي قال لها: كوني بردًا وسلامًا. وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول؛ مألوفًا للبشر أو غير مألوف.

إن الذين يقيسون أعمال الله سبحانه إلى أعمال البشر هم الذين يسألون: كيف كان هذا..؟ وكيف أمكن أن يكون..؟

فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين، واختلاف الأداتين، فإنهم لا يسألون أصلًا، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلًا علميًّا أو غير علمي؛ فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلًا، ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر، وكل منهج في تصور مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المُطلقة هو منهج فاسد من أساسه؛ لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود.

إن علينا فقط أن نؤمن بأن هذا قد كان، لأن صانعه يملك أن يكون. أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام..؟ وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار..؟ فذلك ما سكت عنه النص القرآني لأنه لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود. وليس لنا سوى النص القرآني من دليل». (3«في ظلال القرآن» (4/ 2387-2388))

نومة أهل الكهف

قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف:9-12].

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“أي لا تظن أن قصة أصحاب الكهف وما جرى لهم غريبة على آيات الله، وبديعة في حكمته، وأنه لا نظير لها، ولا مجانس لها، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير، من جنس آياته في أصحاب الكهف، وأعظم منها، فلم يزل الله يُري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يتبين به الحق من الباطل والهدى من الضلال.

وليس المراد بهذا النفي عن أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب، بل هي من آيات الله العجيبة، وإنما المراد أن جنسها كثير جدًّا؛ فالوقوف معها وحدها في مقام العجب والاستغراب نقص في العلم والعقل، بل وظيفة المؤمن التفكُّر بجميع آيات الله التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها؛ فإنها مفتاح الإيمان، وطريق العلم والإتقان.

وإضافتهم إلى الكهف، الذي هو الغار في الجبل، والرقيم: أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم، لملازمتهم له دهرًا طويلًا. ثم ذكر قصتهم مجملة، وفصلها بعد ذلك». (4«تفسير السعدي» (3/ 143))

ويؤيد هذا المعنى أيضًا الشيخ الشنقيطي في «تفسيره» حيث يقول:

“وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن قصة أصحاب الكهف، وإن استعظمها الناس وعجِبوا منها، فليست شيئًا عجَبًا بالنسبة إلى قدرتنا وعظيم صنعنا؛ فإن خَلْقَنا السموات والأرض، وجَعْلَنا ما على الأرض زينة لها، وجَعْلَنا إياها بعد ذلك صعيدًا جرزًا أعظم وأعجب مما فعلنا بأصحاب الكهف، من كوننا أَنَمْنَاهُم هذا الزمن الطويل، ثم بعثناهم». (5«أضواء البيان» (4/ 20))

الرزق الذي آتاه الله عز وجل مريم عليها السلام بغير حساب

قال الله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37].

روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ قال: «وجد عندها ثمار الجنة؛ فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف». (6«تفسير الطبري» (3/ 246))

أن يجد يعقوب يجد ريح يوسف من مسافة بعيدة جدًّا ويعود إليه بصره

قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف:94-96].

روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، فقال: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ قال: فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام». (7«تفسير الطبري» (12/ 58))

مسخ الذين اعتدوا في السبت من اليهود قردة خاسئين

قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة:65].

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مسخهم الله قردة بمعصيتهم، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم تنسل». وقال الحسن: «انقطع ذلك النسل».

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير». (8انظر: «فتح البيان»، صديق حسن خان (1/ 157))

ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على قصة أصحاب السبت فيقول:

“إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لمَّا احتالوا على إباحة ما حرَّمه الله تعالى من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد؛ قال بعض الأئمة: ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه؛ إذ الفقيه هو من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه.

ومعلوم أنهم لم يستحلُّوا ذلك تكذيبًا لموسى عليه السلام، وكفرًا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء وباطنه باطن الاعتداء.

ولهذا والله أعلم مُسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحد والحقيقة، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مسخهم الله تعالى قردة؛ يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقًا”. (9«إغاثة اللهفان» (1/ 343))

خاتمة

تلك كانت نظرة طائر على بعض ما وقع مما أخبر الله به، زيادة في الإيمان ولفْتا للقلب لمقتضى اليقين وسببه. ومن الحكمة أن نختم بإشارة مهمة؛ وهي أن مَن تدبر أمره وأمر الخلق والكون من حوله؛ أدرك أن المعجزة موجودة والآيات وافرة في كل ما خرج من يد القدرة، والى هذا أشار بعض العُباد؛ فلم يكونوا يبحثون عن الخارقة التي خالفت ما خرج من يد القدرة الربانية واعتدناه؛ بل كانوا يتفكرون فيما يرون كل ساعة؛ والى هذا المَنحى أشار القرآن كثيرا الى النظر والتدبر والتفكر وفضله، ولم تُلبَّ طلبات كل طالب للخوارق لأمور:

منها ما يعقبها من عقوبة إذا لم يؤمنوا، ولما في توفر دلالات القدرة ودلالاتها على الخالق تعالى وأسمائه وصفاته ما يسكب الإيمان في قلب طالب الحق ومريد الهدى ومؤْثره على ما سواه.

……………………….

الهوامش:

  1. «المسند» (3/ 296)، والحاكم (2/ 320)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
  2. «في ظلال القرآن» (3/ 1313).
  3. «في ظلال القرآن» (4/ 2387-2388).
  4. «تفسير السعدي» (3/ 143).
  5. «أضواء البيان» (4/ 20).
  6. «تفسير الطبري» (3/ 246).
  7. «تفسير الطبري» (12/ 58).
  8. انظر: «فتح البيان»، صديق حسن خان (1/ 157).
  9. «إغاثة اللهفان» (1/ 343).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة