العواصف التغييرية؛ تهب اليوم على غالب الساحات العالمية والإقليمية والمحلية في بقاع الأرض .. وبخاصة في بلدان العرب والمسلمين، التي لا نكاد نرى فيها بلدا إلا وهو على شفا تغييرات جذرية وتحولات مفصلية ..

سُنن تابعة لسنة التغيير

إذا كان التغيير سنة قدرية إلهية عامة؛ فإن تحتها مجموعة من السنن التابعة لها، مثل: سُنَّة التدافع الدائم بين أهل الحق وأهل الباطل، وسُنَّة تداول النصر والهزيمة بحسب قوانينهما ودواعيهما، وكذلك سُنَّة تجديد الدين على يد المصلحين، وسُنَّة إهلاك الظالمين ولو بعد حين، وكذا سُنَّة نهوض شعوب وأمم بعد موات آخرين، وسُنَّة تحقق وعد التمكين بغلبة المؤمنين، وسُنَّة الاستبدال بين صعود العاصين أو المصلحين، وسنة دمار قرى المترفين، وسنة فشل المتفرقين المتنازعين ونجاح المتعاونين المعتصمين بحبل الله المتين .. ونحو ذلك مما أشارت إليه نصوص الوحي كتابا وسنة..

وفي مقال سابق [عواصف التغيير، والحكم الإلهية في التدبير (١)] تحدثنا عن بعض هذه السنن ونكملها بمشيئة الله في هذا المقال.

سنة الله في المكر بالماكرين

المكر الكبار الذي يدير به أكابر المجرمين شؤون عالم اليوم لحسابهم ومصالحهم؛ لا يخفى على من لا تخفى عليه خافية، فمهما كان مكرهم أكبر فالله أكبر ، وهو لهم بالمرصاد و من ورائهم محيط، لأنهم يمكرون مكر المخلوق الضعيف المغرور ؛ (وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:١٠]

ولأن معنى المكر في الأصل: التدبير الخفي؛ فقد يكون لخير أو لشر، ولا يوصف الله تعالى به استقلالا، ونسبته لله في كتاب الله لا تجئ إلا على معنى يليق بعظمته وعدله وحكمته، فتدبيره – سبحانه – يأتي خفيا لإيقاع أهل المكر السيئ في أسوأ العواقب والعقوبات (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر: ٣٤]. وشتان بين مكر ومكر (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الانفال:٣٠]

ومن السنن الإلهية في الماكرين، أن الله تعالى يجعل مكرهم ذاته وبالا عليهم ، فيصير تدميرهم في تدبيرهم، وكأنهم يوجهون سهامهم نحو نحورهم ..

وقد قال الله سبحانه: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل:50-51].

وقال: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) [النحل:٢٦].

وقال: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الانعام:١٢٣]

وقد توالى مكر الماكرين بسائر المرسلين، كما قال الله عز وجل: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: ١١٢].

واجتمع مكر مشركي العرب على إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم .. (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:٣٠] .

ومع التأمل في آيات القرآن ؛ سنجد أن كل مكر سيئ بالمؤمنين يحيق عاجلا او آجلا بأعداء الدين ، ولكن مع شدة عقوبات الله للماكرين عبر التاريخ ؛ فلا نجد لهم عقوبة أسوأ من أن يمد الله لهم في غيهم، وقد يزيد الله في إمهالهم ويطيل أعمارهم، حتى يزدادوا إثما، فيخسرون الآخرة بعد الدنيا ، كما قال الله عز وجل: (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) [الرعد:33-34].

وقال سبحانه: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [إبراهيم:46-51].

فلا يليق بأهل اليقين إذن أن يظنوا – مجرد ظن – أن الله لا يتولى الصالحين، أو أنه سيصلح عمل المفسدين، بل ينبغي لهم أن يراقبوا فيما يستقبل من الزمن.. جريان هذه السنن ..

سنة الله في المتخالفين المخالفين

ليس هناك أخطر وأعظم ضررا على الدين من الاختلاف والفرقة بين المسلمين ، لأن ذلك يوهن قواهم، ويجرئ عليهم من عداهم وعاداهم ، ولذلك عظم النكير وتكرر التحذير في خطاب الوحي – كتابا وسنة – من كل خلاف يؤدي لشق الصفوف واختلاف القلوب واجتلاب الفتن ..

وسنن الله القدرية الكونية لا تحابي المفرطين في سبل الائتلاف، والموغلين في أسباب الفرقة والاختلاف، لمجرد نزاعات حزبية أو نزغات شخصية، أو عصبيات مذهبية خارجة عن منهاج السنة النبوية ، مهما كانت دعاوى أصحابها بحسن النية.

وقد لا يتصور بعضهم سوء العاقبة وأليم العقاب للمتخالفين المتفرقين في الدين ؛ إلا إذا تدبروا في ذلك ما تنزل به الكتاب المبين، وما نطق به الصادق الأمين ، صلى الله عليه وسلم .

تأمل مثلا هذا التهديد والوعيد الشديد: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: ١٥٦] .. وذاك العذاب العظيم مصحوب بمآل مهين للمتخالفين، و مقرون بتفخيم وتكريم للمتوافقين على الحق والدين.. (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) [آل عمران: ١٥٦]..

وقد نقل المفسرون هنا قول ابن عباس رضي الله عنهما: “تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة”.

وذهب الطبري إلى أن اسوداد الوجوه هنا ليس خاصا بالكفار، بل هو أيضا في المختلفين في أصول الدين من المنسوبين للمسلمين ، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لأصحابه: «أنا فَرَطُكُمْ علَى الحَوْضِ، ولَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجالٌ مِنكُم ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فأقُولُ: يا رَبِّ أصْحابِي، فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ»1(1) أخرجه البخاري (٦٥٧٦)..

ولأن كثرة الاختلاف عن هوى وتعصب يورث العداوة والبغضاء غالبا؛ فقد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حتى في قراءة القرآن، فقال للمتخالفين في بعض وجوه القراءة: «لَا تَخْتَلِفُوا، فإنَّ مَن كانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا»2(2) رواه البخاري (٣٤٧٦)..

بل بين الرسول عليه الصلاة والسلام؛ أن اختلاف المسلمين حتى في صفوف الصلاة يورث تقلب القلوب واختلاف الوجوه ، فقال: «اسْتَوُوا ولا تَختَلِفُوا ؛ فتَختلِفَ قلوبُكمْ»3(3) أخرجه مسلم (٤٣٢)..

وقد اشتد خوف الصحابة من هذا التحذير، ولم بستهينوا به ، وتبين ذلك من رواية الصحابي الجليل، النعمان بن بشير، عندما قال: «أقبَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على النَّاسِ بوجهِه فقال: أقِيموا صفوفَكم، ثلاثًا، واللهِ لَتُقِيمُنَّ صفوفَكم أو ليُخالِفَنَّ اللهُ بينَ قلوبِكم، قال: فرأَيْتُ الرَّجُلَ يُلزِقُ مَنكِبَه بمَنكِبِ صاحبِه، ورُكبَتَه برُكبَةِ صاحبِه، وكعبَه بكعبِه»4(4) أخرجه أبو داود (٦٦٣) وصححه الألباني..

وما للصحابة وهم خير جيل ألا يخافوا من هذا النذير، وهم الذين تلقوا بسماع مباشر الأمر والنهي النبوي في الحديث المتفق عليه.. «لا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَناجَشُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا..»5(5) متفق عليه...، وهم أول من سمعوا الخطاب الإلهي .. (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) .. [الأنفال:٤٦].

لقد صبروا وثبتوا وامتثلوا قول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:١٠٣].

فاجتمعوا ولم يتفرقوا، حتى سادوا وقادوا، وحكى تفاصيل ذلك أهل التاريخ والتفسير والسير، ومنهم الإمام ابن كثير، حيث قال: “قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب” ..6(6) تفسير ابن كثير سورة الأنفال الآية:46..

سنة الله في المتولين عن نصرة الدين

لنصرة الدين أقوام ، يختارهم الله في كل زمان ومكان للعمل في سبيله، فيصنعهم على عينه، ويثبتهم ويهديهم للتوفيق والسداد علما وعملا..

بلا دعوى تميز ولا تزكية نفس، فالعمل في سبيل الله تكليف لا تشريف، وهو لا يتوقف على جهد فرد مهما بذل، ولا على جهاد كيان مهما ضحى، إلا إذا كانت الأعمال كلها لله ، إقبالا على الله، وقبولا تاما لمنهج الله ..

بغير هذه الكيفية في صلاح الأعمال والإخلاص في الإقبال .. يأتي ما يعرف في السنن الإلهية بسنة (الاستبدال).. فعندما يغير قوم ما بأنفسهم فيصير أمرهم فرطا وسيرهم عوجا؛ فلابد أن تتفرق بهم السبل، حتى ينتهي أمرهم إلى فقدان الأهلية وانتهاء الصلاحية لنصر دين الله الذي قال: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:٤٠].

وترتبط سنة الاستبدال دائما بالتولي عن نصرة الدين، إما بالنفس وإما بالمال، وهما الأساسان اللذان لا تتحق النجاة ولا يقوم للمسلمين شأن في الحياة إلا بهما، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف:10-11].

ولذلك اقترن حديث القرآن عن الاستبدال مرة بالتولي عن النصرة بالنفس، ومرة بالتولي عن النصرة بالمال، فقال الله تعالى في الأولى: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا) [التوبة :٣٩] .

وقال في الثانية: (ها أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) [محمد: ٣٨].

وكما أن من يبخل فإنما يبخل عن نفسه، فإن.. (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: ٤٦].

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ . فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ»7(7) رواه الترمذي (٢١٤٢) بإسناد حسن صحيح..

سنة الله في أهل الفواحش والفساد

توقيع الرئيس الأمريكي (بايدن) في١٣ ديسمبر ٢٠٢٢، على قانون فيدرالي يسمح بزواج الرجال بالرجال والنساء بالنساء رسميا؛ ألحق أمريكا بركب المسارعين للهلاك وسوء العذاب، وقد سبقتها إلى هذا الإجرام التشريعي غالبية الدول الأوروبية، إضافة إلى استراليا وجنوب إفريقيا، وهو ما يعني أن “ثقافة” الانحلال لا تروق ولا تروج إلا في مجتمعات الانحطاط الليبرالية، باسم الحريات الشخصية..

التوقيع الرقيع للرئيس الأمريكي؛ أسبغ التكريم بدل التجريم على أراذل الخلق وعار البشر من الشواذ؛ وقد جاء وسط أجواء احتفالية، حضرها كبار رجال الكونجرس وآلاف المحتفين في حديقة البيت الأبيض، الذي أضاء بألوان أعلام الخبث والخبائث الشيطانية .. في مجاهرة فاجرة، لها ما بعدها في أمريكا وغيرها، كما حدث لأهل القرى الظالمة الذين قال الله تعالى عنهم :(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [العنكبوت:٣٥].

لا نشك أن تقنين زواج من يوصفون بـ(المثليين) أو (مجتمع الميم) سيقرب كلمة العذاب على المفسدين المعاصرين، كما حل بأسلافهم الغابرين، لأن رب العالمين قال في سورة هود عن قوم لوط: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود:82-83] فالعذاب ليس ببعيد ممن جاء بعدهم، ففعل فعلهم .

أقوام لوط الغربيون المعاصرون؛ لم يكتفوا في ظل إلحاد العلمانية بالجرأة على حكم الله في الأمر والتشريع؛ حتى تجاوزوا ذلك بالاجتراء على حكمته في الخلق والإبداع، عنادا منهم لغرائز الفطرة السليمة، بعد مسخهم لأسس العقيدة القويمة، وفوق ذلك فإنهم لم يقتصروا على تفجير بوابات الفجور في بلدانهم المنكوبة بالزنا و الفواحش والشذوذ فحسب؛ بل يريدون عولمة رذائلهم من خلال هيمنتهم على منظمات نشر الفساد في العالم عن طريق اتفاقيات (سيداو) الصادرة عن الأمم المتحدة في عام ١٩٧٩ ، والتي بدأت بالإلحاح على حق ملكية كل إنسان في التصرف في جسده كما يشاء، لتنتهي إلى تكريم الشواذ المجرمين وتقريبهم، وتجريم المعترضين عليهم وإقصائهم .

ومن العجيب أن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ماحرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب؛ يقرأون في كتبهم عاقبة أفعال قوم لوط، ويعرفون مسالكهم التي أهلكتهم، ومع ذلك لا يرعوون ولا يتورعون، فقد جاء في التوراة التي يتلونها خبر العذاب الذي حل على قوم لوط :

– (فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ) .

– (وَقَلَبَ تِلْكَ الْمُدُنَ، وَكُلَّ الدَّائِرَةِ، وَجَمِيعَ سُكَّانِ الْمُدُنِ، وَنَبَاتِ الأَرْضِ)..[سفر التكوين/٢٤-٢٥].

وصحيح أن عذاب الاستئصال التام للأمم قد رفع بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الفواحشيين المعاصرين سيظلون يعاينون في الدنيا شؤم شذوذهم، ووبال أمرهم، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «.. لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ ؛ حتى يُعْلِنُوا بها ؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا»8(8) صحيح الجامع، برقم (٧٩٧٨) ...

ولا يخفى أن العلل والأوبئة والأمراض التي ملأت أجواء العالم في السنوات الأخيرة، هي أوضح دليل، ولا تحتاج إلى تعليل..

أما الراضون بقوانين العهر العالمية ، من المحسوبين على الأمة الاسلامية؛ والموقعون على تلك الاتفاقيات الدولية، بزعم الحرص والمساواة بين الجنسين؛ فإنهم يجمعون كغيرهم بين فضائح (سيداو) المعاصرة وقبائح (سدوم) الغابرة ، ولذلك فبشراهم قول الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور:١٩].

ويبدو أن أصحاب عولمة الفساد والاستبداد سيمضون في كبرهم وعنادهم، حتى يملؤوا الأرض رجسا ونجسا ، كما ملؤوها ظلما وجورا، ولا نجاة للمسلمين من شرورهم؛ إلا بتقوى الله واجتناب فجورهم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا اسْتَحلَّتْ أُمَّتي خمسًا فعليهِم الدمارُ : إذا ظهر التلاعُنُ ، وشرِبوا الخمورَ ، ولبِسوا الحريرَ ، واتَّخذوا القِيانَ ، واكتفَى الرِّجالُ بالرِّجالِ ، والنِّساءُ بالنِّساءِ»9(9) رواه البيهقي في (شعب الإيمان) برقم (٥٤٦٩) وحسنه الألباني غي صحيح الترغيب برقم (٢٠٥٤)...

سنة الله في الفرج بعد الشدة

عندما يأمر الله عباده المؤمنين في كل زمان ومكان بأن ينتظروا نصره وثأره من الطغاة الظالمين في قوله: (وَٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ) [هود:١٢٢] فإن في ذلك تنبيه بأن: “انتظار الفرج عبادة” كما جاء في الأثر، وفيه تذكير بأن شأن المؤمنين الثبات على اليقين الذي نطق به سيد المرسلين عندما قال: «واعلم أن النصر مع الصبر، وإنَّ الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا»10(10) رواه الإمام أحمد وغيره ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٤٩٦/٥..

وسنة الله في التفريج عن المؤمنين بوقوع الانتقام – على غير توقع – بجموع الظالمين ؛ لا تنفي مراده عز وجل من أوليائه أن يتعبدوه بالتربص بأعدائه، والاستعداد للقائهم والانتصار عليهم ، كما قال سبحانه: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) [التوبة:٥٢].

والمؤمنون ربما يفتقدون أسباب المخارج من النوازل، وقد يعجزون عن وسائل الأعمال التي تبنى عليها الآمال ، مقارنة بما لدى الفجار من إمكانات المكر الكبار؛ ولذلك فسرعان ما يأتي الثأر والانتصار لهم على غير انتظار منهم ، كما قال الله سبحانه: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) [النحل: ٢٦]..

وحتى الرسل تبتلى بالأعداء إلى الحد الذي قد يبتعد فيه الأمل والرجاء ، لولا تدارك الرحمات الإلهية وفق هذه السنة الربانية ؛ كما قال الله عز وجل: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:١١٠] وهي سنة جرت على الأولين من المؤمنين، كما هي جارية على من بعدهم إلى يوم الدين..

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:٢١٤] .

وإذا كان البعض يتعجب من بعض ما سبق من الكلام؛ لكثرة وطول ما يرى من الأذى والابتلاء وشدة الإيلام ؛ فإن الله يعجب من عجبهم لاستبعادهم الفرج من ربهم: «عَجِبَ رَبُّنا مِنْ قُنوطِ عِبادِه وقُرب غِيَرِهِ – أي تغييره – يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ؛ يَعْلَمُ أنَّ فرَجَكُمْ قَرِيبٌ»11(11) رواه أحمد (١/ ٣٠٧) والترمذي (٢٥١٨) وقال حسن صحيح..

فاللهم فرجك القريب، يا سميع يامجيب

الهوامش

(1) أخرجه البخاري (٦٥٧٦).

(2) رواه البخاري (٣٤٧٦).

(3) أخرجه مسلم (٤٣٢).

(4) أخرجه أبو داود (٦٦٣) وصححه الألباني.

(5) متفق عليه.

(6) تفسير ابن كثير سورة الأنفال الآية:46.

(7) رواه الترمذي (٢١٤٢) بإسناد حسن صحيح.

(8) صحيح الجامع، برقم (٧٩٧٨) ..

(9) رواه البيهقي في (شعب الإيمان) برقم (٥٤٦٩) وحسنه الألباني غي صحيح الترغيب برقم (٢٠٥٤)..

(10) رواه الإمام أحمد وغيره ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٤٩٦/٥.

(11) رواه أحمد (١/ ٣٠٧) والترمذي (٢٥١٨) وقال حسن صحيح.

اقرأ أيضا

عواصف التغيير، والحكم الإلهية في التدبير (١)

سُنة الله عز وجل في العصاة والمكذبين

سُنة الله في المدافعة بين الحق والباطل

سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين

سُنة “الإملاء” و”الاستدراج” للكافرين والظالمين 

التعليقات غير متاحة