توسع احتجاج العلمانيين، والضُلّال من المنتسبين للعلم الشرعي، بالحديث الشريف «أنتم أعلم بأمر دنياكم» ليُخرجوا ما استطاعوا من مجالات الحياة الكبرى، السياسة والاقتصاد والنظام الاجتماعي والأخلاقي والفكري والفني والثقافي عن الخضوع لدين الله.. فكان هذا بعض الردود والبيان للأمر.

السؤال

مدى صحة الاحتجاج بقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنتمْ أعلم بأمر دنياكمْ» في قصر مجال حاكمية الشريعة على حياة الناس وقوانين البلاد.

الجواب

هذه هي الشبهة الثانية، للقائلينَ بأنّ علماءَ الشريعةِ أقوالُهم في غيرِ العباداتِ ليست فتاوَى، بل آراء كأقوالِ غيرِهم؛ لأنّ ما يتعلقُ بأمورِ الدنيا هو مصالحُ ومفاسدُ، تتبعُ المصلحةَ حيثُما وُجدت، ولا تحتاجُ إلى علماء بالشريعةِ ليقولُوا فيها: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ.

قالوا: بدليلِ قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهلِ المدينة، في مسألةِ تأبيرِ النخلِ: «أنتمْ أعلم بأمر دنياكُم»(1)، فليس في مثلِ هذا الأمرِ مِن شؤونِ الدنيا حلالٌ وحرامٌ.

فهل صحيحٌ أنّ ما عَدَا العبادات مِن شؤونِ الناسِ كلّها تحكمُهُ المصلحةُ والمفسدةُ، التي يُقدّرها أهلُ الخبرةِ، كما قَدّروها في تأبيرِ النخلِ، وأن هذا الحديثَ في تأبيرِ النخلِ قاعدةٌ عامةٌ، في كلِّ ما ينزلُ بالناسِ في الحياة العامة؟

مسلَّمات عقدية

للجوابِ على ذلك نحتاجُ إلى التذكيرِ بالمسلَّماتِ الآتية:

مصادر التشريع

مِن المعلوم أن مصادرَ التشريعَ هيَ الكتابُ العزيزُ، والسنةُ المطهرةُ، والإجماعُ، وهذه الثلاثةُ مجمَعٌ عليها مِن المسلمين، ثم القياس، وهو أيضًا متفقٌ عليه، ولم يخالفْ فيه إلّا أهلُ الظاهرِ، وبعد ذلكَ تأتي مصادرُ أخرى، ومنها المصلحةُ، التي بعضُها يدخلُ في بابِ القياس، وبعضُها يتعلقُ بالمصلحةِ المرسَلَةِ.

لا يخرج مكلَّف أو فعْلٌ أو مجالٌ عن خطاب الله

ومعلومٌ أيضًا أنّ جميعَ المكلَّفين ـ جماعةً كانوا أو حزبًا أو حكومةً أو مجلسًا أو فردًا تاجرًا أو سائقَ سيارةٍ أو صانعًا أو بنَّاء أو رئيسَ حكومةٍ أو شيخًا ـ جميعُهم ما دامُوا مكلَّفينَ، أفعالُهم وتصرفاتُهم لابدَّ أنْ يكونَ لها حكمٌ شرعيّ، ولا تخرج أبدًا عن الأحكامِ الشرعيةِ الخمسة ـ التي مرَّ ذكرُها ـ بحالٍ من الأحوالِ.

فقد اتفقتْ كلمةُ الأصوليينَ على تعريفِ الحكمِ الشرعيّ، بأنهُ خطابُ اللهِ المتعلقُ بأفعالِ المكلَّفين، بالاقتضاءِ أو التخييرِ أو الوضعِ، والمرادُ بخطابِ الله “هو وحيُه في الكتابِ والسنةِ”، وفي الأدلةِ التي دلَّ الكتابُ والسنةُ على أنّها حجةٌ؛ كالإجماعِ والقياسِ.

أي أنَّ الأحكامَ الخمسةَ لأفعالِ المكلَّفين ـ عباداتٍ أو عاداتٍ ـ مصدرُها الوحيدُ هو خطابُ الله، الذي سبقَ بيانُه، فكلُّ مكلَّف في الدنيا، على ظهرِ الأرضِ أو على ظهرِ القمرِ؛ فعلُه لا بدّ أن يكونَ واجبًا أو حرامًا أو مندوبًا أو مكروها أو مباحًا، ومصدرُ الحكمِ عليه هو خطابُ الله، أي الدليلُ الشرعيّ، على الترتيب السابقِ: الكتابُ والسنةُ والإجماعُ والقياسُ والمصلحةُ.

[للمزيد: قاعدة الإسلام عبر الرسالات]

التوفيق بين الحديث وهذه المسلَّمات

إذا كانَ الأمرُ كذلك؛ فكيفَ نوفِّق بينَ هذا، وبينَ القولِ بأنّ أمورَ الدنيا الأحكامُ عليها متغيرةٌ، وتتْبعُ المصلحةَ، كما مرّ عن الأئمةِ فيما نُشر من قبل.

المصلحة نوعان

الكلامُ على المصلحةِ في هذا السياقِ، نحتاجُ معه إلى التفريقِ بين أمرينِ؛ المصلحة بالمعنى العام، التي يُقصد بها أنّ أحكام الشريعةِ كلّها أتتْ بتحقيقِ مصالحِ العبادِ، ورفعِ الحرجِ عنهم، وبما يعودُ عليهم بالنفعِ في العاجلِ والآجلِ، فهذا معنًى للمصلحةِ لاشكَّ أنّه واقعٌ.

فإنّ جميعَ أحكام الشريعة، مِن أولِها إلى آخرِها، بما فيها العباداتُ والغيبياتُ، كلّها مبنيةٌ على المصالحِ بهذا المعنَى، وهذا هو الذي عناه الشيخُ ابنُ القيِّمِ ـ رحمة الله عليه ـ عندما قال:

الشريعة عدلٌ كلّها، ورحمةٌ كلُّها، وصلاحٌ كلّها، وحكمةٌ كلُّها.

فما خرجَ منها مِن العدلِ إلى الجورِ، ومِن الرحمةِ إلى ضدِّها، ومِن الصلاحِ إلى الفسادِ، ومِن الحكمةِ إلى العبثِ، فليسَ مِن الشريعةِ في شيءٍ(2)

فالمصلحةُ بهذا المعنى العامِّ هي مقصدٌ وغايةٌ وحكمةٌ لجميعِ الأحكامِ الشرعيةِ ـ عبادات وعادات ـ لكن ليستْ هي المصلحة التي يذكرها العلماء عندَ تعداد مصادرِ التشريعِ.

فعندما يقولون: “هذه المسألةُ جائزةٌ للمصلحةِ، أو ممنوعةٌ لأنّ المصلحةَ فيها غيرُ معتبرةٍ”؛ فهذا مصطلحٌ آخرُ خاصّ.

والتفريقُ بين المصلحَتينِ بالمعنى العام والخاصِّ في غايةِ الأهمية، وبدونِهِ يقعُ الخلطُ والتلبيس.

فالمصلحة بالمعنى العام ليست مِن مصادر التشريعِ، وإنما هي حكمةٌ ومقصدٌ عامٌّ مِن مقاصدِه.

والمصلحةُ بالمعنَى الخاصِّ مصدرٌ مِن مصادرِ التشريعِ، وتأتي في آخرِ المصادرِ؛ كمَا تقدَّمَ، ومَدرَكُها دقيقٌ، لا يُحسنُه إلَّا أهلُ الاختصاص.

لأّنهم عندما يقولون: هذا الفعلُ فيه مصلحةٌ، فمعناهُ عندهم أنّه “مشتملٌ على وصفٍ مناسبٍ”، وهذا الوصفُ المناسبُ قد يكونُ “مُلائمًا”، فيكونُ مُعتبَرًا، ويُبنَى عليه الحكمُ، كأن يوجد وصفِ الإسكارِ في النبيذِ مثلا، فيُحكم عليه بالتحريمِ كالخمرِ، وقد يكونُ الوصفُ “مُرسَلًا غريبًا”، فيكونُ مُلغًى.

مثال للمصلحة الملغاة

وكونُ الوصفِ مُلغًى أو معتبَرًا قدْ يخفَى حتّى على العلماءِ، مِن أهلِ الاختصاصِ، فضلًا عن العامةِ، كما وقعَ لأحدِ علماءِ الأندلسِ، الذي دخلَ على عبد الرحمنِ بنِ الحكمِ أميرِ قرطبة، فسألهُ عن كفارةِ الجماعِ في نهارِ رمضانَ، فأفتاهُ بصيامِ شهرينِ، ورأَى أنّ ذلك مصلحةٌ، وقال: لو أفتيتُه بالعِتقِ لاستحقرَ العقوبةَ، ولانتهَكَ حُرمةَ الشهرِ كلَّ يومٍ؛ لأنّه يملكُ الرقابَ، ولا يزجرُهُ العتقُ.

لكنّ المصلحةَ التي رآها هذا الفقيه هيَ مِن قسم المرسَلِ الغريبِ، المُلغَى بالاتفاقِ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعلَ كفارةَ الصيام إمَّا على التخييرِ، كما في روايةِ مالكٍ للحديثِ، وإمَّا على الترتيبِ، التي تبدأُ بالعتقِ، كما في روايةِ غيره، والأمرُ في الاختيارِ بين واحد من الثلاثة: العتق أو الصيام أو الصدقة هو للمُكَفّر، فإلزامهُ بالصومِ مراعاةً لمصلحةِ الزجرِ في حقِّه، وإن بدَت أنّها مصلحةٌ هي مصلحةٌ مُلغاة، لمخالفتها لنص الوحي، ولذلكَ أنكرَ سائِرُ العلماءِ هذه الفتوَى على صاحبِها، وأبطلُوها.

والذي يميزُ المصلحةَ المعتبرة مِن المصلحةِ الملغاةِ، هم أهلُ الاختصاصِ دونَ غيرِهم، فلا يمكنُ أن تطلبَ مِن مهندسٍ أو بنَّاءٍ أو حدادٍ عملًا، قبلَ أن تعلمَ أنه فعلا مِن أهلِ تلك الصنعة، ولو أسندْتَ قيادةَ الطائرةِ لسائقِ الحافلةِ، لقتلتَ الركابَ جميعًا.

﴿فَاسْأَلُوا أهْلَ الذّكرِ إنْ كُنتُمْ لَا تَعلَمُونَ﴾ (النحل:43).

[للمزيد: وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه]

تتميما لفائدة الفتوى

قال النووي رحمه الله تعالى:

قال العلماء قوله صلى الله عليه و سلم من «رأيي» أي: في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع، فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله.(3)

ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية:

والمقصود: أن جميع أقواله يستفاد منها شرع وهو صلى الله عليه وسلم لما رآهم يلقحون النخل قال لهم: «ما أرى هذا – يعني شيئا – ثم قال لهم: إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله» وقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم فما كان من أمر دينكم فإلي».

وهو لم ينههم عن التلقيح لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم كما غلط من غلط في ظنه أن “الخيط الأبيض” و”الخيط الأسود” هو الحبل الأبيض والأسود.(4)

وقالت اللجنة الدائمة:

ومعناه: أن الناس أعلم بأمور دنياهم وتصريفها، كالزراعة وأنواع الصناعة والخياطة والتجارة، وأشباه ذلك، مع مراعاة حكم الشرع في كل شيء.(5)

والعلوم نوعان منها علوم شرعية لا تلقي فيها إلا عن رب العالمين، من خلال الوحيين، الكتاب والسنة.

و”علوم تجريبية وعقلية تكتسب بالتجارب والخبرة، وتسخير العقل لها كالعلوم الهندسية والرياضية والطبية، وطرق الصناعة والفلاحة والخياطة والنجارة وغير ذلك.

فهذه الأمور هي التي يقصد النبي صلى الله عليه وسلم فيها أن غيره أعلم منه فيها، وقال «أنتم أعلم بأمور دنياكم» فهو يقصد هذا، ولا نقص ولا عيب عليه في ذلك؛ لأنه لم يبعث لتعليم الناس الحساب والهندسة والرياضيات، وكيف يزرعون ويخيطون وينجّرون..

فهذه وغيرها مصدرها الإنسان وتجاربه وأعراف الناس وعاداتهم، وإن كان قد يحثهم على العمل والكسب، ويجعل لهم ضوابط وقواعد شرعية في هذه الأمور؛ لكي لا يخالفوا الشرع في أعمالهم كتحريم الغش والكذب والتدليس والربا والاعتداء…”(6)

“ليس في الحديث دلالة على أن أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع ونحوها ليست من الدين، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يقصده، وإنما كان مقصده هو ما سبق تقريره كما يدل عليه سياق القصة، وفهم القصة وسبب الحديث يعين على فهم الحديث، وبه يرد على أهل الضلال.

ولذلك دأب أهل الأهواء من العلمانيين وغيرهم على تجاوز القصة وسبب الحديث، واقتطاع لفظة «أنتم أعلم بأمور دنياكم» فقط؛ لأن في ذكر القصة رداً عليهم”.(7)

قال العلامة ابن عثيمين ـ رحمة الله عليه ـ ضمن أسئلة لقاءات الباب المفتوح:

وضع القوانين المخالفة للشرع مكان الشرع كفر؛ لأنه رفع للشرع، ووضع للطاغوت بدله، وهذا يدخل في قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة:44).

ولا حجة لمن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»..

فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» في أمر الصناعة، وأمر الحرفة..

فقال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». أي: أنتم أعلم في الحرفة والصنعة، لا في الحلال والحرام، ولهذا نظم الرسول صلى الله عليه وسلم بيع النخل، فقد نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. وأطولُ آية في القرآن تتعلق بالبيع والدين في أمور الدنيا.

فهؤلاء الذين ظنوا أن وضع القوانين المخالفة للشرع في الحكم بين الناس والرجوع إليها عند التنازع أخطأوا في فهم هذا الحديث، والواجب أن يبلغوا أنهم مخطئون؛ فإن أصروا على المخالفة وعلى رفع الحكم الشرعي ووضع القانون بدله فهذا ـ والعياذ بالله ـ كفر.(8)

وعلى هذا فالقاعدة الشرعية المسلمة بإفراد الله تعالى بالتشريع في الأمور جميعها وفي كل مجالات الحياة، هو الأصل الذي لا يخرج عنه مسلم، وأما الأمور التقنية والفنية وتنظيم المجالات المباحة والسياسات المتخذة للتنمية وغيرها، فالأحكام منوطة بالمصالح، أو تكون في إطار تنظيم المباح.. فلا مجال للاحتجاج بالحديث لإبطال أصل الشريعة، فلا يُضرب كتاب الله بعضه ببعض.

والله تعالى أعلم، وصلى الله وبارك على أكرم الخلق محمد وعلى آله وصحبه وسلم..

…………………………………………………

هوامش:

  1. رواه مسلم في صحيحه (2363).
  2. إِعْلَام الموقعين: ج3، ص 14 – 15.
  3. شرح النووي على صحيح مسلم، ج15، صـ 116.
  4. مجموع الفتاوى (18/ 12).
  5. فتوى رقم: 8726.
  6. عبد المجيد بن صالح المنصور/ أمانة قسم الفقه المقارن – المعهد العالي للقضاء، موقع الاسلام اليوم.
  7. المصدر السابق.
  8. “لقاء الباب المفتوح” (33/6).

المصدر:

  • فضيلة الشيخ/ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني، 23 جمادى الأولى 1438 هـ، الموافق 20 فبراير 2017م.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

  1. شُؤونُ الدُّنيا للحكّامِ، وشُؤونُ الآخرةِ للعلماءِ 1-3 شبهة المصالح والمفاسد للساسة
  2. شُؤونُ الدُّنيا للحكّامِ، وشُؤونُ الآخرةِ للعلماءِ! (2-3) شبهة وجه تصرفات النبي
  3. الحاكمية بين الاسلاميين .. والخوارج والعلمانيين
  4. العلمانية والصوفية.. وإسقاط الشريعة

التعليقات غير متاحة