يجد الناس مشقة في الصيام، وكذلك الجهاد؛ لكنه لم يشرع لمشقته بل ما شرع الله شرائعه إلا لإيصال رحمته للخلق وتحقيق مصالحهم. ومن تدبر ما شرعه الله تعالى بان له وجه الرحمة والمصلحة وعرف منة الله فيما أمر ونهى.

الرحمة في الامتثال

تتبدى الرحمة في تناول الطيبات حيث أُمرت وترْكها حيث أُمرت..

فالله تعالى خلق الإنسان وخلق حاجته للطعام والشراب، وخلق له الأطعمة والأشربة، وأمره أن يأكل مما خلق له من الطيبات، وحرّم عليه أن يحرم على نفسه من تلقاء نفسه، وحرم عليه أن يتقرب إلى الله تعالى بترك الطيبات التي لم يحرمها الله تعالى ولم يأمر بتركها، وعدها رهبانية غير مقبولة..

ولما همّ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك اللحم والطيبات وترك النساء والتبتل، نهاهم عن هذا، وأخبرهم أن هذا مخالف للتقوى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ (المائدة:87-88).

والله تعالى رحيم وكريم ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾..؟ الآية (الأعراف:31-32)، وقال صلى الله عليه وسلم: «فإني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني». (1صحيح البخاري 5063)

تحريم الحلال كفر، والتقرب بالامتناع بلا أمرٍ بدعةٌ

فترْك ما أحل الله تعالى ليس قربة بإطلاق، فقبول التحليل والتحريم عبادة متصلة بالتوحيد وأصل الدين، وترك ما أحل الله تعالى إن كان على وجه التشريع بتحريم ما أحل فهو شرك، وإن تُرك على وجه القربة لله تعالى بلا دليل يدل على استحباب الترك فهو بدعة مردودة في وجه صاحبها.

فتحريم ما أحل الله تعالى جريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً، وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (البقرة:168) وبإجماع المفسرين، فخطوات الشيطان هنا هي أمره بتحريم ما أحل الله تعالى على وجه القربة إليه.

وكذا قوله تعالى بعد ذكره لما خلق من الزروع أخبر تعالى أنه أنشأ من الأنعام: ﴿حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ يعني العالية الظهر لحمل الناس والمتاع كالإبل، والقريبة من الأرض كأنها فرش، كالضأن والمعز، ثم قال تعالى آمرا وناهيا: ﴿كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ، وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.(الأنعام:142)

إن الذي خلق النعم وأمرنا أن نأكل منها وحرم علينا الامتناع، هو سبحانه من أمرنا بترك الطعام والشراب والشهوة نهار رمضان، فكما أن عدم تحريم ما أحل الله تعالى، وقبول إباحته، عبادة.. فكذلك الامتناع عما نهى عنه وقت ما نهى عنه، عبادة، فيُعبد الله تعالى بهذا وهذا؛ تمتنع حيث أمرك وتتناول حيث أمرك، هكذا عبدَ الله..

حرمة الامتناع لو تسبب في الهلكة

وكما أن الإنعام بالنعم، من المنن العظام، فاعلم أن الرحيم الذي خلق لك ما تقتات ونهاك أن تشق على نفسك أو تمتنع، حتى أنك تأثـم ـ بل قد يكـون سببا لدخول النـار ـ لـو امتنعت عن الطعـام والشراب حتى تهلك ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا﴾ (النساء:29-30)

إن الرحيم سبحانه هو الذي أمرك أن تمتنع أياما معدودات في رمضان..

فاعلم أنه كما أن خلْق الطيبات وإباحتها مِنّة، فاعلم أن تركها والنهي عنها في وقت محدد، لأمره تعالى، مِنّة أيضا..

وكما أن الخلق جاء بأمر من الخالق الرحيم، والتناول مأمـور به من المشرع الرحيم، فاعلم أن الإمتناع بأمره تعالى أيضا من المشرع الرحيم سبحانه وتعالى، فكما أن تناولك رحمة فاعلم أن امتناعك رحمة.. ثق في هذا وتعامل مع الله تعالى على هذا..

[اقرأ أيضا: المغزى الرمضاني .. المجلس الأول]

افتقار الخلق لتشريع ربهم

كما هم مفتقرون إلى إطعامه إياهم وربوبيته..
اعلم أن الله تعالى لا يشرع لك ليتكثّر بك من قلة أو يغتني من فقر أو يتعزز من ذلة، حاشا لله..

كما أن الله تعالى لا يشرع لعباده ليشق عليهم ولا يقصد تعالى إعناتهم، بل إن الله ما يشرع لك إلا لمصلحتك، فإنه تعالى يشرع لك ليجمع لك الخير في الدارين ويحصل لك مصالحك..

الفقر الى الله من جهتين

والعبد فقير إلى الله تعالى من جهتين:

أولا: جهة الربوبية

فهو فقير إليه من جهة الربوبية، فيحتاج إلى ربه تعالى؛ يغذوه، يطعمه ويسقيه، ويشفيه ويعافيه..

ثانيا: جهة الألوهية

وثمة فقر آخر، كهذا وأشدّ، من جهة ألوهيته، فهو مفتقر إلى عبادته، وطاعته، والسعي والحفد إليه، وطلبه وقصده وإيثاره ومحبته.. فلا سرور للقلب ولا نعيم ولا صلاح ولا اطمئنان إلا بهذا القصد وهذه المحبة وهذا العمل.

وتحصيل العبد لمصالحه لا يستقل بها أبدا، فالعبد من حيث هو إنسان، محتاج إلى الله تعالى، ليشرع له ويبين له ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ (النساء:26).

ولهذا سمى تعالى ما أنزل نورا مبينا ﴿قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾ (النساء:174) وقال ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾..؟ (الأنعام:122)، وسمى جملة الرسالة رحمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107).

مقصود الصيام رحمة ومصالح

ومن هنا شَرع تعالى الصيـام، وسائر تشريعاته، في العبادات والمعاملات وسائر الارتباطات والعلاقات الفردية والجماعية، لا لإعناتٍ ولا لمشقة، بل لتحصّل مصالحك، فالله أعلم بك منك، وأعلم بما يصلحك.

وما تقترحه هو الذي يشق عليك بينما ما شرعه لك هو تحقيق لرحمته ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ (الحجرات:7) يعني لو يطيعكم في اقتراحاتكم لكانت مشقة عليكم.

يقول ابن كثير: “ثم بين تعالى أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ (أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم”. (2تفسير ابن كثير ج4 ، ص372)

فشرعُ الله تعالى لكم هو الرحمة، ورأيكم لأنفسكم أحمق في مقابل ما شرع تعالى..

فمن هذا المأخذ شرع لك الصيام، بل وسائر الشرائع.. فبهذا المأخذ يتناول العبد تكليف الصيام ويتقبله ويتلقاه من ربه تعالى، وبهذا المأخذ يتلقى من ربه تعالى سائر التكاليف.. والحمد لله.

[اقرأ: المغزى الرمضاني .. المجلس الثاني]

المصالح هي المقصودة

المصالح هي المقصودة والمشقات تابعة، وجارية على قوانين دارنا:

شرع الله تعالى لك لتحقيق مصلحتك، وشرعه رحمة لك، فرحمة الله تعالى مضمنة فيما شرع: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، فعُلم أن الرحمة مضمَنة في الرسالة، والرسالة هي جملة ما أخبر وشرع سبحانه على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

فلا تقترح وجه الرحمة على الله تعالى وتناقض به ما شرع لك، ولكن الرحمة مفصَّلة في أحكامه تعالى وشرائعه، فما بدا لك غير ذلك فاتهم نفسك بيقين.

المصلحة هي المقصودة في التشريع، وما حصـل من المشقات فهو ليس بمقصود بذاته في الشرائع، وإنما هو تبع لتحقيق المصالح، وما حصل منها معمول حسابه في ميزانك فتجازَى عليه..

يقول الشاطبي رحمه الله:

“المسألة السادسة: فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق الإعنات فيه، والدليل على ذلك أمور”. (3الموافقات للشاطبي (2/ 210))

ويقول أيضا:

“وإذا تقرر هذا، فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة، بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف”. (4الموافقات للشاطبي (2/ 215))

ورغم أنه ليس مقصودا لكن العبد مأجور عليه ومثاب بمثاقيل الذرّ فيما أصابه من أجل الله.

لقد جرت أحوالنا في هذه الدار في تحقيق مصالحنا أن تتحقق بنوع من الجهـد.

هكذا تحصيل الطعام والشراب والمساكن والولد والعلم وغيره، وعلى عادة دارنا وعلى قوانين هذا العالم جاءت الشرائع، قد يستلزم تحقيقها، لتحقيق مصالحها المقصودة، نوعا من المشقة المعتادة في دارنا، ومن طلب مصلحة بلا نوع من المشقة فليطلب عالما غير هذا العالم..

لقد جرى هذا العالَم على نوع من المشقات المحتملة، وهكذا نزلت الشرائع، فجاءت على اعتيادنا.. فإنها من لوازم خلق هذا العالم وإلا يكون عالم غير هذا العالم. (5يراجع طريق الهجرتين (1/ 102))

وسعْنا تكاليفَه، ووسعَنا رزقُه

كما يجب القطع أننا وسعْنا تكاليفه تعالى لأنها في وسعنا وطاقتنا، ومعنى أنها في وسعنا، أننا نطيقها وأكثر منها، ولذا أثنى شيخ الإسلام على تفسير سفيان بن عيينة للآية، قال سفيان بن عيينة ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ قال: يسرها، فلم تأت الشرائع بغاية الوسع بل جاءت باليسر، يعني بأقل مما نطيق.

يقول رحمه الله..

فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج.

بخلاف ما يقدر عليه الشخص فإنه قد يكون مقدورا له ولكن فيه ضيق وحرج عليه وأما وسعه الذي هو منه في سعة فهو دون مدى الطاقة والمجهود؛ بل لنفسه فيه مجال ومتسع وذلك مناف للضيق والحرج.. ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ بل ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.

قال سفيان بن عيينة في قوله: ﴿إلَّا وُسْعَهَا﴾ إلا يسرها لا عسرها ولم يكلفها طاقتها ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود، فهذا فهم أئمة الإسلام. (6مجموع الفتاوى (14/ 138))

وعلى هذا فقد وسعْنا التكاليف وفي نفس الوقت قد وسعَنا الرزق لنستعين به على التكاليف والقيام بها، فالرزق يسعنا ونحن نسع الشرائع فلله الحمد.

وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول رحمه الله..

والله تعالى أمرهم بعبادته وضمن أرزاقهم فكلفهم من الأعمال ما يسعونه وأعطاهم من الرزق ما يسعهم فتكليفهم يسعونه وأرزاقهم تسعهم فهم في الوسع في رزقه وأمره: وسعوا أمره ووسعهم رزقه ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه. (7مجموع الفتاوى (14/ 137))

وقال تعالى فيمن رغب عن شرعه وحكمه ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ (النساء:66)، والمعنى أنا لم نكتب عليهم هذا بل كتبنا عليهم ما في يسرهم ووسعهم، فكيف يرغبون عما شرع وحكم سبحانه وقد شرع لهم اليسر؟! هكذا نتلقى الصيام وسائر الشرائع من ربنا سبحانه فلله الحمد.

فإذا لقي العبد ربه كان نعيما بلا منغص وعالما آخر بقوانين أخرى.. ﴿لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ (فاطر:35) هكذا اقتضت حكمة الله تعالى.

نتلقى اليوم شرائعه تعالى، عالِمين أن المصلحة مقصودة وأن المشقة تابعة، وأنها جرت على قوانين دارنا وعالمنا، وأنها في وسعنا ويسرنا، وأن هذا لفترة قليلة، ثم ننقلب إلى حيث لا نغص ولا تعب ولا كدر.. فاللهم بلغنا رضاك والجنة وقنا سخطك والنار.

[شاهد أيضا: الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة]

الأعمال ونتائجها ومشقاتها، مكتوبة للعبد

الأعمال ومشقاتها العارضة ونتائجها المتولدة، مكتوبة للعبد:

فما حصل من المشقات في التشريع الرباني ليس بمقصودة بذاتها بالقصد الأول، ولكنها تابعة للمصالح المقصودة لمنفعة العبد..

لكن كل مشقة حدثت مكتوب أجرها، حتى ما طرأ، وكل مصلحة تحققت من أي عبادة لها أجرها ولو تحققت عرضا من العبد.

فالعمل، وأثره، وما تولد منه، وما طرأ عليه، وما اكتنفه من مشقة مكتوب عند الله تعالى.

في الجهاد بيان

واعتبِر في هذا بالجهاد، فإن الله تعالى ذكر أنه يكتب للعبد كل ما يقوم به، وأنه يكتب له ما طرأ عليه من مشقة عارضة، ويكتب له ما تولّد من عمله من مصالح وإن لم يعلم بها أو حصلت بلا قصد، غير أنه امتثل ما أُمر بها من قبل ربه تعالى..

ذكر تعالى في سورة التوبة هذا، وكان المتوقع في الآية أن يذكر تعالى جزاء الأعمال، ثم يذكر تعالى ما طرأ عليها من مشقة أو عرض للعبد، ويذكر ما نتج من مصلحة تولدت من العمل..

لكن نظْم الآيات غاير هذا فذكر تعالى ما تولد من الأفعال وما عرض من المشقات أولا، وأنه تعالى يكتب به للعبد (أعمالا صالحة) رغم أنها ليست أعمالا، بل هي مشقات عارضة ونتائج متولدة، ومع ذلك تُكتب للعبد (أعمالا).

فلما جاء ذكر العمل بعدها ذكر تعالى أنه يكتبه للعبد، فعلم أنه تعالى إن جازى على الآثار والمشقات العارضة جزاء الأعمال، فكيف بجزاء الأعمال نفسها؟.. وانظر إلى نظم الآيات..

﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾..

ثم قال ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (التوبة:120-121).

وفي الخيل المُعدّة أيضا

وانظر إلى من ربط خيل واحتبسها في سبيل الله، انظر إلى أجور لم ترد ببال صاحبها، قال صلى الله عليه وسلم:

«الخيل لثلاثة : لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت من طيلها ذلك من المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقي به، كان ذلك حسنات له..». (8صحيح البخاري 3478 – 2705) الحديث.

خاتمة

وعلى هذا المجرى الصيام ومشقاته، والجهاد ومشقاته ومنافعه، والصِلة ومشقاتها ومنافعها، والعفّة والعدل والصدق كذلك، وعلى هذا سائر التكاليف..

فثِق في رحمة وحكمة وعِظم جزاء من شرع لك الصيام، وبهذا المأخذ وبهذه اليد تناول تكليفه تعالى، وكل ما يكتنف هذا التكليف وما ينتج عنه وما يعترضه.. فلله الحمد.

الهوامش

  1. صحيح البخاري 5063.
  2. تفسير ابن كثير ج4 ، ص372.
  3. الموافقات للشاطبي (2/ 210).
  4. الموافقات للشاطبي (2/ 215).
  5. يراجع طريق الهجرتين (1/ 102).
  6. مجموع الفتاوى (14/ 138).
  7. مجموع الفتاوى (14/ 137).
  8. صحيح البخاري 3478 – 2705.

اقرأ أيضا

  1. تجديد البديات
  2. ضعف تحمّل الفطرة للشهوات .. دلالة على وظيفتها
  3. العلمانية والصوفية.. وإسقاط الشريعة

التعليقات غير متاحة