إذا أصبح المسلمون لا يعنيهم أمر الدين والأخلاق، ولا يهمهم مصير الإنسانية ومستقبل العالم، ولا تهمهم إلا المصالح السياسية والفوائد المادية الحاضرة التي تعود على بلادهم أو شعبهم، وبالأصح على أشخاصهم، فحبلهم على غاربهم، وأمرهم بيدهم، ولكن ليعلموا أخيرا أن سفينة الجاهلية التي اختاروها لسفرهم قد أحيط بها، وأن ألواحها قد تآكلت ونخرت منذ زمن…
الإسلام والجاهلية: الصراع المستمر والنزاع الدائم
لم تزل في الدنيا منذ وجدت دعوتان متنافستان متصارعان، دعوة تدعو الى اتباع النفس وتحكيمها، والى حرية الإنسان المطلقة، التي لا تقف عند حد – إلا إذا اضطرت الى ذلك – وإن كان في غضون هذه الحرية وأثنائها مئات وآلاف من أنواع الرق والعبودية، ودعوة تقول: إن الإنسان عبد لله، مكلف ومسئول أمامه، وتدعو الى اتباع الوحي من الله وشرائع الأنبياء.
الدعوة الأولى هي “الجاهلية” في مصطلح الإسلام الواسع، والدعوة الثانية هي دعوة الإسلام نفسه، واقتسمت هاتان الدعوتان أمم العالم وأجياله. ولم تزل تتداول قيادتهما وتمثيلهما من حين الى حين، وليس تاريخ الأديان والعقل والأخلاق، إلا حكاية هذا الصراع المستمر، والنزاع الدائم، وذلك أكبر صراع وأوسعه، شهده العالم في عمره الطويل.
ومنذ ثلاثة عشر قرنا ونصف، اختار الله لقيادة الدعوة الثانية – الإسلام – أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب لهم الإمامة في ذلك الى يوم القيامة.
أمم أوربا النصرانية حاملة الرسالة الجاهلية
كذلك لم تزل تمثل الدعوة الجاهلية وترأسها أمم وحضارات جاهلية في عصورها ودوائرها، حتى قضى ربك أن تتولى زعامتها وتحمل رايتها أمم أوربا النصرانية قبل نحو قرنين، وإنما رشحها لهذا المنصب وجعلها حاملة لرسالة الجاهلية في العالم مجاهدة في سبيلها، سوء تمثيل النصرانية المحرّفة للدين المطلق، ورهبانيتها وعجزها عن حل القضايا الإنسانية والمعضلات البشرية، ثم سوء تمثيل علمائها وكهنتها، وقسُسُها للنصرانية نفسها، وبما حالوا بين أمتهم وبين الرقي والتقدم، وبما أذاقوا العلماء الأحرار والمكتشفين من أنواع العذاب التي تقشعر لها الجلود، وتتفطر منها مرارة الإنسان مما حفظه لنا تاريخ الصراع بين الدين والمدنية، والدين والعقل، والدين والعلم في أوربا، زد الى ذلك كله تهور الثائرين على النظام القديم وطيشهم، فكان عاقبة ذلك أن أصبحت أمم أوربا وهي المتحفزة للنهوض، الطامحة الى الرقي تبغض الدين مطلقا، وتتحرر من نظام قديم، وتعادي كل دعوة دينية خلقية، وترى فيها حجر عثرة في سبيلها، وفي أصحابها عدوا لدودا للرقي الإنساني.
وعلى كل تحولت أمم أوربا جاهلية مادية محضة، وكان هذا التحول من أتعس الحوادث التي وقعت في التاريخ والذي قد جر على الإنسانية شقاء طويلا وويلا عظيما، ولكنه كان واقعا لا محالة لأسباب طبعية عقلية.
بداية الصدام الأخير بين الدعوتين
وتقدمت أمم أوربا الفتية المتحمسة لغزو العالم وفتحه، وقد أخذت له أهبته وأعدت له عدته فكان بحكم الطبيعة أن تصادم ممثلي الدعوة الثانية المضادة لها، وهم المستولون على أجمل رقع العالم المتمدن المعمور، وعلى أهم بقاع الأرض سياسيا وجغرافيا، وأخصبها وأثراها اقتصاديا، وكان بديهيا أن يقع أول صراع وأكبره بين هاتين الفئتين، فكان ذلك!
العوامل التي ساعدت الأوربيين في فتحهم وانتصرت بهم الجاهلية على الإسلام
– كان ذلك والمسلمون منذ أمد بعيد، قد فقدوا روح الرسالة التي كانوا يحملونها، والتي قد أصبحوا بقوتها سيلا جارفا جبارا لا تقاومه الحشائش، ولا تقف في وجهه الصخور، وقوة المسلمين وروحهم دائما من الرسالة والدعوة، فأضحوا لا يحملون رسالة الإسلام الى العالم، ولا يدعون دعوة دينية تنفخ فيهم الحماسة والفتوة، ويأتون لها بخوارق ومعجزات، وتفتح لهم هذه الرسالة قلوبا وعقولا، وتسخر لهم ممالك ودولا، وأصبحوا جيلا من الناس كسائر الأجيال، يرى ما يحدث في العالم من خير وشر وما يسود فيه من حق وباطل، هادئا مطمئنا، كمتفرج أو كعاجز ليس له من الأمر شيء.
– وفقدوا الإيمان والحماسة الدينية، ففقدوا القلوب التي كانوا يلقون بها عدوهم، وسلاحهم الذي كانوا يقارعون به فيهزمون أضعافهم في العدد والعُدد، وأصبحوا كسائر الناس لا يمتازون بمزيد قوة ولا بزائد يقين، يألمون كما يألمون ولا يرجون من الله ما كانوا يرجون.
– وفقدوا الأخلاق والفضائل التي كانت لهم قوة روحية وسلاحا ماضيا في معترك الحياة، دانت بها لهم الجبابرة، ولانت بها صخور القلوب، واستبدلوا بها عيوبا وأدواء خلقية واجتماعية، أخذوها من الأمم الجاهلية المنحطة التي عاشروها وسرت فيهم أيام ترفهم وانحطاطهم الخلقي والاجتماعي، فكانت كدابة الأرض تأكل منسأتهم. وتنخر الدعائم التي قام عليها بناؤهم.
– ونضب معين علومهم، وجمدت قرائحهم وعقولهم، وحرموا الاجتهاد، والتفكير، وقوة الاكتشاف والإبداع، ومني علماؤهم بجمود عقلي وركود علمي، لا يزيدون في ثروة العلم، ولا يفتحون للعقل أبوابا ومنافذ جديدة، ولا ينظرون في علوم الطبيعة والكون، بينما كانت أوربا تسخِّر لمصالحها قوى الطبيعة، ويكشف علماؤها عن أسرار الكون، ويتخذ عاملوها نفقا في الأرض وسلما في السماء.
– أما الأمراء والملوك المسلمون فقد تركوا الجهاد في سبيل الله منذ قرون، واشتغلوا عنه بحروب بغضاء ومنافسة، وشهوات ومطامع، حتى دهم الإسلام الزحف الصليبي فلم يقم له إلا صلاح الدين الأيوبي وبعض الأفراد المتصلين به. ومرت كارثة الأندلس وكأن لم يكن شيء، وزحف التتار والمغول – ذلك الجراد المنتشر – فنهكوا قوى المسلمين، وزادوهم وهناً على وهن.
هذه هي العوامل التي ساعدت الأوربيين في فتحهم وانتصرت بهم الجاهلية على الإسلام، فكان أكبر انتصار نالته الجاهلية على الإسلام منذ زمن طويل، ولو تكلمت لقالت: اليوم انتصفت من عدوي، وأخذت ثأر الأمم التي فتحها والدول التي محاها، والحضارات التي طمسها ومن اليوم أزدهر في بلاده وأخصب في نجاده ووهاده، وأجري مجراي لا يسد تياري شيء.
حجم الخسائر التي منيت بها أمة الإسلام
لو قالت لصدقت، لأن المسلمين – على علاتهم – كانوا أمناء لرسالة الأنبياء، حملة لمصابيح شرائعهم، وحرزا للدين في الدنيا ودرءا للأخلاق والفضيلة على كل حال، وكانوا أعظم سد في وجه الجاهلية، ويتحولون أكبر خطر عليها في كل وقت.
كانت رزيئة المسلمين في هذه الهزيمة عظيمة وخطبهم فادحا جدا، فقد خسروا بلادهم التي كانت تفيض لبنا وعسلا، وخسروا جميع دولهم تقريبا، ومنوا بنوعين من العبودية السياسية والعقلية، وحيث أفلتوا من العبودية المادية لم يفلتوا من العبودية العلمية والخلقية.
ورزئوا في أخلاقهم التي أورثتهم إياها تعاليم الأنبياء، والمحاسن التي حافظوا عليها طوال هذه القرون: من صدق وأمانة، وشجاعة ووفاء، وعفة وطهارة، وكرم وتواضع، وتقوى الله في السر والعلانية، ومراقبة حدوده الى غير ذلك، مما يمتاز به أتباع الشرائع السماوية عن أهل الجاهلية، وتسلطت عليهم بتأثير الأمم الغربية العيوب الخلقية، والمخازي البشرية التي ورثتها أوربا من روما ويونان الوثنيتين، ومن قرونها المظلمة، ومن جاهليتها: كالنفاق والرياء، والغدر بالعهود، إذا دعت الى ذلك مصلحة، والإيمان بالقوة وحدها، والاحترام للمال والثروة وحدها، وتقديم المصالح والمنافع على الأخلاق والفضائل.
ما خسرته البشرية حين تراجع الإسلام عن القيادة
وما كانت رزيئة الإنسانية في هذا الانتقال بهينة، فتزلزلت مباني الأخلاق والفضيلة في كل صقع وقطر، وحدثت ثورة على كل نظام قديم، وإن كان عدلا وحسنا، وعمت الفوضى في البيوتات والأسر، وتغير الولد للوالد وعقه، وتركت المرأة بعلها وثارت عليه، وانحلت عقد الأرحام، ولم يعد الصغير يوقر الكبير، ولم يعد الكبير يرحم الصغير، وتعوضت القلوب من الألفة والمحبة الجفاء والبغضاء، وكثر التنافس في الحياة الدنيا وفي الرقي المادي، وفي أسباب الجاه والثروة، وتولدت من ذلك ثروة وآفات كدرت صفو الحياة وأماتت القلب والروح، الى غير ذلك من الظواهر التي تشكو منها كل ديانة وكل حضارة شرقية بثها وحزنها، ومما يشترك فيه المسلمون وغيرهم من الشرقيين.
ثم إن هذه الأمم قد أصبحت تتحكم في أموال الناس ونفوسهم وأرزاقهم، وأصبحت تملك السلم والحرب، وأصبح العالم في حضانتها كولد يتيم أو شاب سفيه لا يملك من أمره شيئا، فتارة تسوقه الى ساحة القتال، وطورا تملي عليه الصلح، وليس له في صلح أو حرب يد مرفوعة أو كلمة مسموعة.
ماذا عسى أن يكون أثر هذه الهزيمة والرزية العامة في نفوس المسلمين وفي نفوس بني آدم عامة؟
أما الناس عامة فلكل إنسان أن يجيب عنه، وسيجيبون عنه، أما المسلمون وهم أولى بأن يوجه هذا السؤال إليهم لأن منهم انتقل هذا الملك الواسع والأمر والنهي الى الأوربيين، ولأن دينهم يقتضي أن يكون ظاهرا على كل دين، وأن يكونوا هم الأسوة وحدهم للعالم، فسيقول كل مسلم لم يمت قلبه: إن من الطبيعي أن تنطوي صدور المسلمين على إحن وأحقاد للجاهلية، وأن ينظروا الى كل من يمثلها في كل مكان كعدو غاصب، وغريم منافس، وأن طبيعة رسالتهم ودعوتهم في العالم تقتضي بداهة أن تعزل الأمم الجاهلية من قيادة العالم، والتأثير في عقول الناس وتوجيه أفكارهم، وأن تمنع من تمثيل الجاهلية في العالم، وأن ينزع منها سلطانها حتى لا تكون في دعوتها فتنة لمفتون، وحتى لا تنافس الدعوة الى الله دعوة، ولا ينازع في الدنيا عاملان يتجاذبان النفوس والعقول الى جهتين مختلفتين، {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
ويعلم كل ذي بصيرة بل كل ذي بصر أن مجرد سيادة هذه الأمم، واستعلائها السياسي والمادي دعاية عظيمة لدينها، وحضارتها ومبادئها، ومناهج فكرها وأخلاقها، لا يقاومها منطق ولا استدلال، ولا حجة ولا برهان، ولا فلسفة ولا أخلاق، ولا تنجح ضدها دعوة الأديان، وإنها قد أصبحت بزخارفها مغناطيسا للقلوب، تنجذب إليها كما ينجذب الحديد.
هذه هي الحقيقة التي ذكرها موسى عليه الصلاة والسلام فيما حكى القرآن عنه في دعائه الذي دعا به في مصر على عهد فرعون، وهي حقيقة في كل عصر ومصر:
{ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88].
فماذا كان المنتظر من المسلمين – وهم حاملوا رسالة الإسلام -؟
كان المنتظر منهم أن يروا في أوربا وأمريكا زعيما للجاهلية، الذي تولى كبرها وحمل رايتها في الآفاق. وكان الواجب أن تكون هذه المسألة هي أمّ المسائل وكبراها في نظرهم، وأن تشغل ذهنهم وتستغرق سعيهم، وكان الواجب أن يعدوا أنفسهم في كل ناحية من نواحي العالم ممثلين لدعوة الإسلام ضد هذه الدعوة الجاهلية، وأن لا يتخذوا موقفا مهما كان اقتضاء المصالح الوطنية والسياسية والمالية، لا يتفق وممثلي الإسلام وحاملي رسالته، وأن لا يأتوا بشيء تتغذى به الحركة الجاهلية في العالم، وأن لا يظهر منهم شيء ينم عن ركونهم الى هذا النظام الجاهلي الذي بسطته هذه الأمم في العالم، وتريد أن تبسطه ويظهر به تعاونهم على الإثم والعدوان، الذي لا عدوان أكبر منه.
ولكن مما يبعث الأسف العميق والعجب الشديد في النفوس “عجبا يميت القلب ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان” كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبة له، إن المسلمين عامتهم لم يدركوا هذه الحقيقة مع وضوحها وانجلائها، وذهلوا عن موقفهم الصحيح في العالم، ونسوا وجهلوا أنهم والأمم الأوربية الجاهلية دعاة لنظامين للحياة متضادين، لحضارتين متناقضتين، وأنهم وإياها ككفتي ميزان، كلما رجحت واحدة طاشت الأخرى.
الجاهلية الأوربية وقيادة العالم
وأصبح المسلمون أخيرا لجهلهم للدين وما يقتضي من حب وبغض، وبتأثير الدعاية، يرون الى الجاهلية الأوربية كالحليف الوحيد للإسلام، وأنهم يقرعون بين أممها ودولها أيها أقرب اليهم، وأنفع لمصالحهم، وأغراضهم السياسية والمالية، ويجهلون أنها مهما اختلفت في نظمها السياسية، وفي إدارتها الداخلية، أو سياستها الخارجية، ومهما تعادت وتباغضت فيما بينها، فإنها أخوات شقيقات من أب واحد وأم واحدة، وأنها لا تختلف في المبادئ الأولية وفي فلسفتها التي يسميها الإسلام “الجاهلية” وغاب عن عقلاء المسلمين والمتعلمين منهم بل وقادتهم وزعمائهم، – فضلا عن العامة – أنه ما دامت هذه الأمم تتمتع بالغلبة السياسية، وما دامت لها سيطرة على العالم فهي المثل الكامل والقدوة المثلى في الأخلاق والسيرة، والعلم والمدنية، والفضائل والرذائل، وما دامت كلمتها عليا فلا تزدهر للدين دعوة، ولا تعلو له كلمة، ولا تسود في العالم الأخلاق الفاضلة ولا تكون لها قيمة، ففي مصلحة الإسلام وفي مصلحة الإنسانية أن تعزل بأسرها عن قيادة العالم، ولما كان المسلمون هم المسؤولين وحدهم عن صلاح العالم وفساده، ووظيفتهم الحِسبة على الناس، وهم القوامون بالقسط، شهداء لله، وهم المراقبون لسير العالم، فلهم أن يجتهدوا في ذلك أكثر من كل شعب وأمة، بل يجب عليهم أن يكونوا طليعة، وأن يكونوا إماما في الحركة ضد الجاهلية وأممها، بل يجب أن تبدأ منهم الدعوة وإليهم تعود.
ولكن أجل نظرك في العالم الإسلامي كله وانظر في شعوبه وأممه ودوله – إن كانت فيه دول تملك أمرها – وفي جميع طبقات المسلمين، هل ترى شيئا تستدل به على أن هذه الأمة المنبثة في أرجاء الأرض صاحبة رسالة في العالم وصاحبة دين وعقيدة، وأنها تنكر مما وقع وواقع شيئا؟ وتحمل في صدرها حفيظة ضد الجاهلية وأهلها، وتريد أن ترفع للإسلام راية وتجتهد لإعلاء كلمة الله؟
كلا! بل ترى أمة هادئة مطمئنة راضية بكل ما يقع في العالم اليوم، سليمة الصدر، قريرة العين، ناعمة البال، تتعاون مع الجاهلية وأممها وتتحالف، وتقدم لها كل معونة تقدر عليها.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد … إن كان في القلب إسلام وإيمان!
الإسلام ورفض الذل والخزي
أجل إن كان في القلب إسلام وإيمان لما ارتضى مسلم بهذا الخزي، ولكن كل ذلك يرجع الى كون الرجل مسلما، يحب لله وبيغض لله، ويوالي في الله ويعادي في الله، ولذلك ذكره القرآن شرطا في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، تسرون اليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا اليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء، وودوا لو تكفرون} [الممتحنة: 1 – 2] ثم ضرب لذلك مثلا بإبراهيم وأصحابه: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم: إنا برآءُ منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة: 03].
يلاحظ القارئ العربي النكتة في قول إبراهيم وأصحابه “كفرنا بكم” وبلاغة الكلمة وسعتها، فلم يقولوا كفرنا بدينكم كأنهم قد أصبحوا صورة وتمثالا للكفر والجاهلية، جامعين لمعانيها وأشكالها ومظاهرها، ولأن حياتهم كلها وما يتصل بها من علوم وفلسفة، وحضارة وثقافة قد سرى فيها روح الكفر والجهل، وذلك ينطبق على كل أمة جاهلية حرمت هَدي الأنبياء وعلومهم، وبنت حياتها وعلومها ومدنيتها على دلالة الحواس أو على القياس أو التجارب، فعم الإنكار لجميع هذا وكأنهم أعلنوا بهذا اللفظ أنهم ثائرون على هذا النظام الجاهلي برمته وحذافيره، جاحدون به كافرون بأصحابه، لا يؤمنون لهم بفضل ولا يخضعون لهم بشيء!
اتباع الغرب وتقليدهم ولاء للكافرين
ثم لينظر القارئ ويعتبر كيف أن المسلمين وهم أتباع دين وأصحاب يقين، قد آمنوا بزعماء الجاهلية وأئمة الكفر ولو لم يؤمنوا بدينهم، ولكنهم آمنوا بهم بأوسع معاني الكلمة وقد اشترط الله للإيمان به الكفر بالطاغوت وقدم عليه وقال: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}.
أما إذا أصبح المسلمون لا يعنيهم أمر الدين والأخلاق، ولا يهمهم مصير الإنسانية ومستقبل العالم، ولا تهمهم إلا المصالح السياسية والفوائد المادية الحاضرة التي تعود على بلادهم أو شعبهم، وبالأصح على أشخاصهم، فحبلهم على غاربهم، وأمرهم بيدهم، ولكن ليعلموا أخيرا أن سفينة الجاهلية التي اختاروها لسفرهم قد أحيط بها، وأن ألواحها قد تآكلت ونخرت منذ زمن، وأن ربابينها قد اختلفوا فيما بينهم في تسييرها وقيادتها، ويعلموا أن هذه السفينة إذا غرقت فإنها تغرق ركابها، وكل من وصلوا أسبابهم بأسبابها، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
وقد قال: {ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} [هود: 112].
المصدر
كتاب: “إلى الإسلام من جديد” أبو الحسن الندوي، ص127-140.
اقرأ أيضا
انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام