مأخذ المرجئة في استدلالهم واعتقادهم هو مذهب المبتدعة عموما، وخطأ استدلالهم بيّن لمن جمع أطراف الأدلة، ومذهبهم رقيةٌ لتركيع الأمة للطواغيت وتبديل الأحكام وولاء الكافرين.

مقدمة

إن الحاجة إلى إظهار عوار المرجئة التي ما زالت جرثومتها خافية تارة، وظاهرة تارات بين صفوف المسلمين – بل وعجباً! بين صفوف الإسلاميين منهم – فتصيب ذلك الكيان الإسلامي بالضعف والوهن وفقدان القدرة على تمييز الخبيث من الطيب، ومعرفة المفسد من المصلح، وبالتالي أثرها البالغ السوء في الواقع الإسلامي أخلاقياً وسياسياً.

وسنذكر اختصاراً ما ذهبت إليه المرجئة بشكل عام في بدعتهم، ثم نعرِّج بنقض تلك الأقوال وبيان وجه الحق فيها كما اختطَّه أهل السنة والجماعة، ثم نلقي نظرة على الواقع الإسلامي لنرى مدى تأثره بتلك الجرثومة الإرجائية التي لازالت تنتقل في الجسد الإسلامي، لتنخر فيه نخراً يفسد عليه قوته، ويجعله عرضة للتفكك والانهيار. بعد أن يفسد المحكوم ويطغى الحاكم ويمهد لكليهما سبل الزيغ والانحراف.

تعريف بمذهب الإرجاء

سبب التسمية

الإرجاء: مصدر أرجأ بمعنى أخر، يقال: أرجأ الأمر أي أخره. وقد أطلق هذا الاسم على طائفة المرجئة لمّا قالوا بتأخير العمل عن الإيمان، أي فصله عنه وتأخير مرتبته في الأهمية.

كذلك لعدم حكمهم على الفاسق أو الكافر بما هو أهلٌ له، وادّعاء إرجاء ذلك إلى يوم الحساب.

العقائد

وتدور عقائد المرجئة حول الإيمان، إذ ذهب أكثرهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان ـ عدا بعضهم ممن زعم أنه تصديق القلب ولم يشترط أنه النطق بالشهادتين مع القدرة عليهما ـ ولم يُدخلوا العمل في مسمى “الإيمان”؛ فالإيمان عند هؤلاء متحقق كاملاً لمن صدّق بالرسالة ونطق بالشهادتين، وإن لم يأتِ بعمل من أعمال الطاعات!

سبب الانحراف العقدي

وقد دخلت عليهم تلك البدع من أصل تصورهم للإيمان، وأنه واحد لا يتجزأ ولا يتبعض؛ أي لا يزيد ولا ينقص.

وقد تمسكت المرجئة في أقوالهم تلك بما ادّعوه من أن معنى الإيمان في اللغة: “التصديق”، كما في قوله تعالى: ﴿ومَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ ، أي: مصدّق لنا.

كذلك بظواهر الأحاديث، كما في قوله، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله»، وفيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، له: «فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة».

وقالوا: إن تلك الأحاديث تدل على أن الإيمان هو: “تصديق القلب والتلفظ بالشهادتين، وهما كافيان لإثبات الإيمان ودخول الجنة دون العمل..!”.

وقد تجاوز بعض من ابتلاهم الله بشبه الإرجاء؛ فلم يكتفوا بإخراج أعمال الطاعات من الواجبات والمستحبات من مسمى الإيمان؛ بل كذلك الأعمال اللازمة لتحقيق التوحيد، كالحكم بما أنزل الله من الشرائع ـ والذي هو من معاني الشهادتين والمتعلق بتوحيد ألوهية الله عز وجل ـ ولم لا ؟! والإيمان محله القلب والتصديق متحقق؟! وما يضر من يترك التحاكم لشرع الله بغير إثم أو ذنب يقترفه مثله كمثل سارق البرتقالة، أو من يؤذي جاره..؟!.

فأَتوا بذلك بما لم يأتِ به الأولون من أسلاف المرجئة، ومهّدوا لما سنلقي عليه نظرة عاجلة في واقع المجتمع الإسلامي.

نقض مذهب المرجئة

ونقض مذهب الإرجاء يكون بطريقتين: أحدهما: عام، يتناول نقض مبادئهم في النظر إلى الشريعة، وهو ما اشتركت فيه معهم سائر أهل البدع والأهواء، والآخر: خاص، يتناول الرد على أقوالهم، وبيان فسادها بالأدلة الشرعية.

أولاً: الرد العام

سلك أهل البدع والأهواء طرقاً معينة في دراستهم للنصوص الشرعية، أدت بهم إلى النتائج التي وصلوا إليها، نجملها فيما يلي:

  • عدم الجمع بين أطراف الأدلة، وذلك باتباعهم أول دليل يرونه دالاً ـ من جهة معينة ـ على ما أرادوه، فإذا صادفوا دليلاً آخر لم يجمعوا بينه وبين الأول، بل أوّلوه أو ضعّفوه أو أخفوه!
  • الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، مع ترك الأحاديث الصحيحة وإغفالها.
  • التعويل على جزيئات الشريعة دون ربطها بالقواعد الكلية التي تحكمها وتنتظمها.
  • تحريف الأدلة عن مواضعها، وهو نوع من تحريف الكلم عن مواضعه الذي ذمه الله تعالى في كتابه، وذلك بإيراد الدليل المقصود به مناط معين أو واقعة محددة لتطبيقه على مناط آخر، أو واقعة أخرى، وهي العملية التي تسمى عند الأصوليين: “تحقيق المناط”.

ثانياً – النقض الخاص

إن ما استدلّت به المرجئة من أن الإيمان هو التصديق فليس بصحيح، والحق أن الإيمان اسم شرعي استعمله الشارع ليدل به على معانٍ محددة في الشرع، هي مجموعة الأقوال والأفعال التي يتركب منها، فلا مدخل للمعنى اللغوي إذ

“مما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرِف تفسيرها وما أُريد بها من جهة النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يُحتجْ في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة وغيرهم”. (1الإيمان لابن تيمية: 245)

إلا أن الإيمان لا يعني لغة التصديق من وجوه عدّة:

“فإنه يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به، بل يقال: آمن له، كما قال: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾، وقال: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ فإن تعدى باللام كقوله: آمن له، كان تصديقاً وإن تعدى بالباء كان الإيمان الشرعي المتضمن للعمل”. (2الإيمان: 248)

كذلك فإن قسيم الإيمان ليس التكذيب بل الكفر، فيقال لمن لم يصدّق: قد كذّب، ومن لم يؤمن: قد كفر.

ووجهٌ آخر في لفظ التصديق والتكذيب: يطلق على ما هو غائب أو مشاهد، أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغيب.(3الإيمان: 249)

و”الإسلام” و”الإيمان” اسمان يدلان على معنى واحد إن انفردا، وهو الاستسلام لله والعبودية له سبحانه ظاهراً وباطناً، لكنهما إن اجتمعا دلّ كلٌ منهما على معنى غير الآخر، فدلّ الإسلام على الأعمال الظاهرة من الصلاة والصوم والحج، ودلّ الإيمان على الأعمال الباطنة، كالخشية والمحبة والخوف، من أعمال القلوب.

وقد دلّت الآيات والأحاديث على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان ـ وعليه أجمع الصحابة والتابعون وسلف الأمة ـ فهو “قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، قال تعالى: ﴿لِيَزْدَادُوا إيمَاناً مَّعَ إيمَانِهِمْ﴾”.

وما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة ـ أو بضع وستون شعبة ـ أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».

كذلك ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدي خمساً من المغنم».

فالإيمان “قول وعمل، قول القلب وهو: التصديق، وعمل القلب: وهو: الإقرار والخضوع المستلزم للمحبة والانقياد، وقول اللسان: وهو: النطق بالشهادتين، وعمل اللسان والجوارح، وهو العمل بالطاعات، وترك المحظورات من الشريعة، وهو يزيد وينقص”.

استدلالهم بأحاديث الشفاعة

ثم ننظر إلى استدلال المرجئة ـ سلفاً وخلفاً ـ بأحاديث الشفاعة على أن قول الشهادتين “تلفظاً” يُثبت لصاحبه الإسلام والإيمان، وإن أتى عملاً من أعمال الكفر؛ كترك التحاكم إلى الشرع، فنرى أنها هي طرق أهل البدع في عدم جمع أطراف الأدلة، والنظر في الأحاديث.

قالوا: روى مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب في حديث جبريل: قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً».

وأغفَلوا الرواية التالية لها مباشرة في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، …».

كذلك حديث أركان الإسلام الذي رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر عن أبيه، قال عبد الله: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان».

وأغفلوا رواية مسلم الأخرى: في الباب نفسه عن ابن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «بُني الإسلام على خمسة: على أن يُوحَّد الله، …..».

وغير ذلك من الأحاديث التي ذكروا فيها رواية وأسقطوا روايات، والتي تدل على أن التلفظ بالشهادتين المعتبر شرعاً هو توحيد الله وعبادته، وترك الشرك، وأن التلفظ بالشهادتين دلالة على قيام ذلك المعنى في النفس وفي البدن قولاً وعملاً؛ ما لم يأت بعمل ظاهر َيكْفُر به، فلا اعتبار حينئذ بتلفظ، وهو المعنى الذي ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين من أن الألفاظ تراد لمعانيها لا لذواتها وما فصله من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ. (4مسلم بشرح النووي 1/157)

خاتمة .. اتجاه مذهب الإرجاء بلسان حالهم

إن مذهب الإرجاء يتناسب مع من يتميع في موقفه ويؤثر السلامة على المخاطرة وإن كانت بالباطل، فإن من تلفظ بالشهادتين مؤمن كإيمان جبريل! والأعمال لا تدل على إيمانٍ وفسقٍ أو حتى كفر، وليس لنا أن نزيف الباطل ونظهر عوار المفسد وندل على سوءاته ونسير فيه سيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في معادلة الفاسق أو المذنب أو الكافر.

فمن ثم فهو مذهب يتناسب مع الحاكم الظالم ـ أو الحاكم الكافر حسب الحالة ـ فلن يثير أرباب هذا المذهب خلافاً مع الحاكم مهما أتى من أفعال، فهو مؤمن على كل حال، أليس يتلفظ بالشهادتين؟!

ثم ما لنا ندخل في سرائر الناس وندّعي معرفة مكنونات صدورهم، مادام العمل الظاهر لا مدخل له في قضية الإيمان، وأن اعتقاد القلب هو المعوّل عليه في ذلك، أليس يكفي ما ينطق به الحاكم لنكون معه في صف واحد ومسيرة واحدة نهادنه ونتعذّر له المرة تلو المرة لنظل نعيش نتفيأ “ضلال” حكمه..؟

فالمرجئة ـ إذن ـ في صلحٍ خفي ومهادنة غير مكتوبة مع الحاكم يتمتعون بالحرية في الحركة والقول جميعاً، بينما يُضرب على يد من سواهم من أهل السنة والجماعة، كما حدث لأئمة الفقه والحديث، كمالك وأحمد بن حنبل وابن تيمية، وكثيرين غيرهم ممن اتبعوا منهج السلف الصالح في الفهم عن الكتاب والسنة.

وليست هذه هي الكلمة الأخيرة عن الإرجاء والمرجئة؛ ولكنها نفثة غلت في الصدر وارتجّ بها القِدْرُ، فلم يكن بُدّ من إظهارها..!

……………………………………………………

الهوامش:

  1. الإيمان لابن تيمية: 245.
  2. الإيمان: 248.
  3. الإيمان: 249.
  4. مسلم بشرح النووي 1/157.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة