للأسرة مكانتها في الإسلام، بعكس الجاهلية المعاصرة التي تسعى الى تدمير البشرية؛ بينما الإسلام يسعى للبناء، بطرق عملية وقيمية وأخلاقية.

مقدمة

كم من نفوس معوجة خرجت فآذت الدنيا من حولها. وكان السبب الحقيقي وراء أمراضها التي آذت بها الخلق هو انحراف في محضن الأسرة وخلل في التربية والتوجيه.

ولهذا عالج الإسلام هذا المحضن بمزيد من العناية الفائقة، وجعل له من الأولوية الكثير من الأحكام والقيم والتوجيهات والفضائل والآثار.

إجراءات الشريعة لحفظ محضن الأسرة

أمن البيت والأسرة يتحدث سيد قطب رحمه الله تعالى عن سلام البيت والأمن الأسري فيقول:

“البيت مثابة وسکن؛ وفي ظله تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة. ومن سماته تأخذ سماتها وطابعها، وفي جوه تتنفس وتتكيف.. وكم من أحداث و حوادث وقعت على مسرح المجتمع، وأثرت في سير التاريخ، تكمن بواعثها الخفية في مؤثرات بيئية.

والفرد الذي لا يستمتع في بيته بالسلام، لن يعرف للسلام قيمة، ولن يتذوق له طعما، ولن يكون عامل سلام وفي أعصابه معركة، وفي نفسه قلق، وفي روحه اضطراب.

والإسلام يتجه إلى بذر بذور السلام في البيت، في ذات الوقت الذي يتجه فيه إلى الضمير الفردي، وإلى المجتمع الدولي.. فكلها حلقات متضامنة، وفيما بينها ترابط واتصال.

يبدأ الإسلام أولا بتصوير العلاقة البيئية تصويرا رفافا شفيفا، يشع منه التعاطف، وترف فيه الظلال؛ ويشيع فيه الندى، ويفوح منه العبير: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم:21]، ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: 187] فهي صلة النفس بالنفس، وهي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة السير والتجمل.

وإنك لتحس في الألفاظ ذاتها حنوا ورفقا، وتستروح من خلالها نداوة وظلا. وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق. ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها بما فيها امتداد الحياة بالأولاد، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة، ويعترف بطهارتها وجديتها، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها، ذلك حين يقول: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 223]. فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار.

يحيط الإسلام هذه الخلية، أو هذا المحضن، أو هذه المثابة، بكل رعايته وبكل ضماناته. وحسب طبيعة الإسلام الكلية، فإنه لا يكتفي بالإشاعات الروحية، بل يُتبعها التنظيمات القانونية، والضمانات التشريعية.

فأولا: لابد في هذا الارتباط من الرضى والاستئذان، فلا تزوج المرأة بغير إذنها ورضاها: «لا تنکح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها الصموت». (1البخاري (5236) ومسلم (1419))

ولابد فيه من الرؤية ليكون هذا الرضى جدية وقائمة على حقيقة، و منبعثة من شعور: «فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» (2ابن ماجه (1865) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1511))

وثانيا: لابد فيه من علانية وإشهاد، فلا يتم في السر والخفاء كما تتم الجريمة، ولابد من إيجاب وقبول صريحين يشهد عليهما الشهود، فلا يبقى ظل من شك أو غموض في قيام هذا الارتباط، حتى ليستحب دق الدفوف لهذه المناسبة زيادة في الإعلان..!

وثالثا: لا بد فيه من نية التأبيد لا التوقيت؛ فإذا نوى أو صرح بأن يكون هذا الزواج موقوتا بزمن لم ينعقد. لأن هذا الارتباط مقصود به السكن والاستقرار، مقصود به أن يركن إليه الزوجان في اطمئنان، وأن يبنيا في ظله الحياة وهما واثقان آمنان.

ولكي يهيء الإسلام للبيت جوَّه، ويهيء للفراخ الناشئة فيه رعايتها أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تُشرف به على هذه الفراخ الزُغب، وما تهيء به لـ “المثابة” نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهَقة بمقتضيات العمل، المقيَدة بمواعيده، المشتتة الطاقة فيه.. لا يمكن أن تهبَ للبيت جوَّه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها”.

فروق بين البيوتات

ويستكمل، رحمه الله؛ فيقول:

“وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات، وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تنشئها امرأة؛ وأرج البيت لن يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لن يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال..!

إن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرود والضلال

وفي سبيل الاستقرار البيتي وقطعا لدابر الفوضى والنزاع فيه، جعل الإسلام القوامة فيه للرجل، وذلك تمشيا مع سياسة التنظيم التي يحرص عليها الإسلام حرصا شديدا، والتي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر الرجال أن يؤمّروا عليهم أحدهم حتى لو خرج ثلاثة في أمر فأحدهم أمير.

أيضا. فأي الزوجين كان المنطق كفيلا بأن يسلمه القيادة؟ المرأة المشبوبة العواطف والانفعال بحكم وظيفتها الأولى في رعاية الأطفال، وتعطير جو البيت بالجمال..؟ أم الرجل الذي كلفه الإسلام الإنفاق لتخلو المرأة إلى عبئها الضخم، وتنفق فيه طاقتها ووسعها..؟ لقد جعل له الإسلام القوامة، تحقيقا لنظامه المطرد أن تكون في كل عمل قيادة وقوامة، واختاره لأنه بخلقته وتجاربه أصلح الإثنين لهذه الوظيفة.

وهكذا حين تعرض المسألة في بساطتها هذه، وفي وضوحها، ينكشف ذلك اللغط الهاذر الذي تلوكه ألسنة الفارغين، والفارغات في هذا الزمان حول هذا النظام، ويتجلى أن فراغ الحياة وفراغ القلوب وفراغ العقول، هو الذي ينشىء ذلك اللغط، ويجعله موضوع جدل ومادة حديث. وهو نظام قصد به الإسلام أن يكون حلقة من حلقات السلام في البيت، وضمانة للاستقرار فيه والنظام.

ولكن في عهود الانتكاس، وفي فترات الفراغ من جديات الأمور، لا يبقى للمجتمع ما يحفل به إلا الفتات والقشور، وإلا الهذر واللجاج..!”. (3السلام العالمي والإسلام ص67-71)

الاختلاط وآثارة الوخيمة

وعن تحريم الاختلاط المحرم والتبرج وأثر ذلك في إشاعة الأمن والسلام في جو البيت والأسرة يقول رحمه الله تعالى:

“وفي سبيل السلام البيتي، وإشاعة الثقة واليقين فيه كان النهي عن التبرج، وكان التحرج من الاختلاط، وكان الأمر بالحشمة والتحفظ..

إن من حق الرجل كما أن من حق المرأة أن يطمئن كلاهما إلى رفيقه، وألا يتعرض للإغراء الذي قد تنجرف معه عواطفه عن شريکه، إن لم يقده الانحراف إلى الانزلاق والخطيئة، مما يهدد ذلك الرباط المقدس، ويطير عن جوه الثقة الكاملة والاطمئنان.

هذا الانحراف في العواطف، والانزلاق إلى ما هو أبعد، واقع كل يوم وكل لحظة في المجتمعات التي ينطلق فيها الاختلاط، وتنطلق فيها المرأة متزينة متبرجة، وتنطلق معها شياطين الفتنة والإغراء.

وهذرٌ فارغ يكذبه الواقع ما تلهج به السنة الببغاوات هنا، وألسنة الشاردين هناك من أن الاختلاط يهذب المشاعر، ويصرف الطاقات المكبوتة، ويعلم الجنسين آداب الحديث وآداب المعاشرة، ويزود بالتجربة التي تصون من الزلل. وأن الاختيار القائم على التجربة الكاملة ـ حتى عنصر الخطيئة ـ كفيل بأن يمسك الشريكين كلا لصاحبه، لأنه إنما اختاره عن رضى، وبعد تجربة أقول: هذر يهدمه الواقع، واقع الانحرافات الدائمة والتحولات المستمرة في العواطف، وتحطيم البيوت بالطلاق وغير الطلاق، وانتشار الخيانات الزوجية المزدوجة في تلك المجتمعات”. (4السلام العالي والإسلام 72-73)

التكافل بين الأسرة

ثم يتحدث رحمه الله تعالى عن التكافل العائلي داخل الأسرة وضمان حق الزوج والزوجة والأولاد والوالدين فيقول:

“الإسلام يعني بأمن الأسرة التي يضمها البيت جميعا، وينظم العلاقات بينهم جميعا، ويقرر التكافل بينهم جميعا. وفي التكافل حقوق وواجبات، ومزايا وتكاليف، تنتهي كلها إلى ثقة متبادلة، واطمئنان إلى الحياة والمستقبل، وشعور بالأمن فيها والقرار.

إن عاطفة الأمومة وحدها تكفي في رعاية الوليد، وإن عاطفة الأبوة وحدها تكفي في النهوض له وللأم بالنفقة، ولكن الإسلام يضيف إلى العاطفة الفطرية التكليف الصریح، شأنه في ذلك شأنه في كل جوانب الحياة. إنه يبث العقيدة ويستثير الوجدان، ولكنه لا يدع التكاليف غامضة مبهمة، ولا يكلها لمجرد الوجدان والعاطفة. وإنما يحددها بالنص ويؤيدها بالتشريع. وكذلك يفعل في حق الطفولة:

﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 31].

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233].

فأما الوالدان فلهما حقهما المقابل ـ وفي الإسلام كل حق يقابله واجب ـ يزيد عليه ما يناسب الأبوة والأمومة من احترام وطاعة وأدب، ومن رفق في حالة كبرهما وعطف، وإن الألفاظ التي يعبر بها القرآن عن هذه المعاني لتسيل انعطاف ورقة وشفافية: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23- 24].

وللوالدة بقدْر ما تعبت وبقدر ما عطفت ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان:14].

ولا بد من لفتة في الآيتين إلى اقتران الإحسان للوالدين بعبادة الله في الأولى، واقتران الشكر للوالدين بالشكر الله في الثانية، ففي هذا الاقتران إيحاء ظاهر المعنى لا يخفی.

وينسحب هذا التكافل بين أفراد الأسرة جميعا.. هذا التكافل العائلي الواسع النطاق، مضافا إلى ما أسلفنا من النظم الإسلامية لشؤون البيت، دعائم للسلام والأمان في مثابة البيت.

وشعار الإسلام في هذا هو ذلك الذي قدمناه قبلا:

“الفرد لا يستمتع في بيته بالسلام، ولن يعرف للسلام قيمة، ولن يتذوق له طعما، ولن يكون عامل سلام، وفي أعصابه معركة، وفي نفسه قلق، وفي روحه اضطراب”. (5المصدر السابق (102-100 باختصار))

الطلاق ودوره في المنظومة

وحتى الطلاق الذي ظاهره اضطراب لسلام الأسرة والبيت فإنه حين يلتزم بالأحكام الشرعية في إيقاعه فهو في حقيقته أمن وسلام حينما لا يكون منه بد. وفي ذلك يقول سید قطب رحمه الله تعالى:

“والطلاق..؟ إنه صمام الأمن في هذه الخلية. إنه أبغض الحلال إلى الله ولكنه مکروه تبيحه الضرورة، تحقيقا للسلام الحقيقي في جو البيت حين يعز السلام عن كل طريق سواه. وإنه لاعترافٌ بالمنطق الواقع الذي لا تجدي في إنكاره حذلقات المتحذلقين، ولا تدفع وجوده كذلك أحلام الشعراء. إن هنالك حالات واقعية تتعذر فيها الحياة الزوجية، فإمساك الزوجين على هذا الرباط مرغمين لا يؤدي إلى خير، ولا ينتهي إلى سلام.

والإسلام لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدس فيفصمه لأول وهلة، ولأول بادرة من خلاف. إنه يشد على هذا الرباط بقوة، ويستمسك به في استماتة، فلا يدَعُه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس والمحال….

ذلك هو الطلاق في الإسلام.. صمامة أمن لا تنطلق إلا حيث لا يكون مفر من انطلاقها، ومحاولة بعد محاولة في التوقي والاستصلاح والمراجعة وفرصة بعد فرصة تكشف للزوجين عن حقيقة مشاعرهما، وعن أخطائهما في السلوك أو أخطائهما في التقدير، أو أخطائهما في الشعور”. (6المصدر السابق 85-88 بتصرف يسير)

خاتمة

بينما تحارب شياطين البشرية في الغرب بتأثيره على منطقتنا، تحارب الأسرة وتهوّن من شأنها وتقلل من قيمتها، وتدعو الناس الى العلاقات المتحررة من قيد الدين والعبودية والفطرة الى علاقات النزوات العابرة والمؤقتة..

بينما يحدث هذا في الغرب فالإسلام يسعى لبنائها واحترامها وإحاطتا بالرعاية والتكريم وتوفير سبل إنجاحها عبر وسائل عديدة من أحكام وقيم وأخلاق وتوجيهات لا بد أن يعقلها المسلمون ويؤْثرونها على الجاهليات القديمة والمعاصرة.

…………………………………

الهوامش:

  1. البخاري (5236) ومسلم (1419).
  2. ابن ماجه (1865) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1511).
  3. السلام العالمي والإسلام ص67-71.
  4. السلام العالي والإسلام 72-73.
  5. المصدر السابق (102-100 باختصار)۔
  6. المصدر السابق 85-88 بتصرف يسير.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة