العقيدة الصحيحة والتوجه بالخوف والمراقبة لله وحده، واستشعار علمه ونظره الى العبد، هو تربية هذا الدين على العقيدة، وهكذا عرض السلف عقيدتهم مرتبطة بأخلاقهم.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد.

فإنَّ الإسلام يعني بمفهومه الشامل “الاستسلام لله” عز وجل، و”الانقياد له بالطاعة” ظاهرًا وباطنًا، و”البراءة من الشرك وأهله”، وهو كلٌّ لا يتجزأ، والمطلوبُ من المسلم حتى يحقق إسلامهُ وإيمانه أن يستسلم لله عز وجل، في كل شئون حياته الباطنة والظاهرة.

يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ الآية (البقرة: 208).

ويقول تعالى : ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام :162 ـ 163).

إنَّ الإسلام عقيدة،؛ ينبثقُ منها أعمال وأقوال وأخلاق وشريعة..

وليس مجرد معرفةٍ ذهنية، وإقرار قلبي، ثم لا أثر له في أعمال العبد وأخلاقه، ومواقفه في حياته كلها.

ولهذا أجمع السلف على أنَّ الإيمان “اعتقادٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح”.

أخذ السلف العقيدة بشمولها

والمتأمل في حياة السلف الصالح، يجدُ هذا الشمول في أخذ الإسلام واضحًا، في حياتهم ومنهجهم، وقد كان لهم صولاتٍ وجولاتٍ مع المرجئة الذين فصلوا العمل عن الإيمان، وحصروه في “التصديق القلبي”، أو في “التصديق وقول اللسان”.

ثم أُصبنا في هذا الزمان بنابتةٍ خدمتها المرجئة، وإن كانت هي شرٌ من المرجئة؛ وذلك فيما أصاب المسلمين بعد الاستعمار الغربي والغزو الفكري، حيثُ بدأ العلمانيون والمقلدون للغرب الكافر ينشرون سمومهم، ويبثون أفكارهم المبنيةِ على “الفصام النكد” بين “الدين” و”الحياة”، وبين العقيدة والشريعة والأخلاق.

ولكن الله عز وجل برحمته ولطفه قيّض لهذه الأفكار ومثيلاتها من يتصدى لها، ويُظهر عوارَها ومناقضتها لحقيقة “الإيمان” و”الإسلام”، فنفع الله بهذه الجهود المباركة، وانتبه المسلمون لما يُراد بهم، وأدركوا حقيقة إسلامهم وإيمانهم، وأنه لا انفصام بين العقيدة والأخلاق، بل هما متلازمان تلازم الروح والجسد، وبينهما ترابطٌ شديد يجعل أحدهما يزول بزوال الآخر، ويضعفُ بضعفه، ويقْوَى بقوته.

وفي هذا يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى:

“التوحــيد ألطف شيءٍ وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأي شيءٍ يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوبٍ يكون، يؤثرُ فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدًّا، أدنى شيءٍ يؤثرُ فيها، ولهذا تشوشهُ اللحظة، واللفظة، والشهوة الخفية؛ فإن بادر صاحبهُ وقلعَ ذلك الأثر بضده، وإلاَّ استحكم وصار طبعًا يتعسرُ عليه قلعه”. (1الفوائد ص 184)

الجانب الأخلاقي، وارتباطه الوثيق بالعقيدة

ومما يؤيدُ أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف، وارتباطهِ الوثيق بالعقيدة، تضمين علمائهم هذه الجوانب فيما كتبوه من أصول أهل السنة والجماعة، كالعقيدة الواسطية، والطحاوية وغيرها.

ومن أمثلة ذلك قول الإمام الصابوني، رحمه الله تعالى، في تقريره لعقيدة السلف:

“ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام على اختلاف الحالات، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف والسعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، واتقاء شر عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر”. (2عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني ، تحقيق نبيل السبكي ص 86)

وقفات في ارتباط الأخلاق بالعقيدة

ولتجلية أهمية ارتباط العقيدة بالأخلاق، والأخلاق بالعقيدة في حياة الناس، وبخاصة الدعاة منهم، وطلبة العلم نقف الوقفات التالية.

الوقفة الأولى:

عرض منهج السلف شاملا للأخلاق أسوةً بالعقيدة

من المعلوم أننا عندما نتحدث عن منهج السلف، رحمهم الله تعالى؛ فإنا لا نعني بذلك علمًا نظريًّا مجردًا في الذهن، وتصديقًا مجردًا في القلب؛ كلا فلم يكن هذا منهجهم، وإنَّما كان عقيدةً وعبادةً وأخلاقًا وسلوكًا.

وإنَّ المتأمل في حياتنا معشر أهل السنة ـ في هذه العصور المتأخرة ـ يلاحظ بونًا شاسعًا، وانفصالاً كبيرًا ـ ما بين مُكثرٍ ومُقلٍّ في ذلك ـ بين الجانب العلمي النظري، والجانب السلوكي الأخلاقي؛ حيث أصبح من المعتاد أن يرى الإنسان أحيانًا من نفسه، أو من بعض إخوانه من الدعاة بُعدًا في الجانب الخلقي عن أخلاق السلف وسلوكهم.

فمن اللازم إذاً عند طرح منهج السلف، والدعوة إليه، أن يطرح شاملاً لمعتقدهم وفقههم، ولسلوكهم وأخلاقهم؛ فكما أنَّهُ لا يقبل من أحدٍ أن يلتزم بأخلاق السلف ويترك معتقدهم، فكذلك لا يسوغ فهم معتقدهم دون الالتزام بسلوكهم وأخلاقهم.

ولو أننا رجعنا إلى سيرةِ سلفنا الصالح، لوجدناها خيرَ مثالٍ لهذا المنهج المتكامل. فإذا ما تم لنا إدراكُ هذا الأمر والالتزام به، فسوف تختفي من حياتنا ـ بإذن الله تعالى ـ تلك الصور والمواقف المتناقضة.

نعم عندها لن نجد شخصًا على عقيدة السلف في توحيد الألوهية، والأسماء والصفات، ومحاربة البدع، ثُمَّ هو في نفس الوقت يخالفُ سلوكهم، باقترافه للظلم والكذب، والغيبة والحقد، والشحناء واتباع الأهواء.

وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ تطبيق هذا المنهج كاملاً، كفيلٌ بإزالة هذه الازدواجية التي نعاني.

الوقفة الثانية:

التربية الفريدة على العقيدة

إنه لا شيء يضبط السلوك، ويزكي النفوس، ويأطرُ النفس على محاسن الأخلاق وترك سيئها، غير توحيد الله عز وجل، والخوف منه سبحانه، ورجاءَ ثوابه ومراقبته في السر والعلن، والشعورُ باطلاعهِ عز وجل على خفايا القلوب، ومنحنيات الدروب، وهذا كلهُ لا يتأتى إلاَّ بالتربية على التوحيد، ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته، ومقتضياتها والتعبد له سبحانه بها، مما يكونُ له الأثر في ظهور آثارها على أخلاق العبد وسلوكه.

وإذا لم يوجد هذا الشعور، وهذه التربية على العقيدة، فإنَّهُ لا تنفع أي محاولة مهما كانت في تهذيب سلوك الناس، مهما وضع من النظمِ والقوانين والعقوبات، فغاية ما فيها ضبط سلوك الفرد أمام الناس، فإذا غاب عن أعينهم ضاعت الأخلاق، واضطربت القيم.

وهذا هو الفرقُ في علاج انحرافات النفس البشرية، والمجتمع الإنساني بين منهج الله عز وجل، القائم على تربية الناسِ على العقيدة، وبين المناهج الجاهلية البعيدة عن منهج الله عز وجل.

تجربة الإسلام وتجارب غيره

ومثالاً على ذلك ننقلُ ما كتبه سيد قطب، رحمه الله تعـالى، عن تحريم الخمر، وكيف عجزت أمريكا عن إقناع الناس بتركه، بينما انتهى المسلمون عن شربها بمجرد أن نهاهم الله عز وجل عنها.

يقول رحمه الله تعالى : أما في أمريكا، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرّة القضاء على هذه الظاهرة، فسنّت قانونًا في سنة (1919) سمي “قانون الجفاف”..! من باب التهكم عليه، لأنَّهُ يمنع الري بالخمر!، وقد ظل هذا القانون قائمًا مدة أربعةَ عشر عامًا، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة (1933).

وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر، والإذاعة والسينما، والمحاضرات للدّعاية ضد الخمر، ويقدّرون ما أنفقتهُ الدولة في الدعاية ضد الخمر، بما يزيدُ على (ستين مليونًا) من الدولارات، وأنَّ ما نشرته من الكتبِ والنشرات، يشتملُ على (عشرة بلايين) صفحة، وما تحملتهُ في سبيلِ تنفيذِ قانون التحريم من مدةِ أربعة عشر عامًا، لا يقلُّ عن (250) مليون جنيه، وقد أعدم فيها (300) نفس، وسجن كذلك (532.335) نفْسًا، وبلغت الغرامات (16) مليون جنيه، وصادرت من الأملاك ما يبلغ (400) مليون وأربعة ملايين جنيه، وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون.

فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي، ببعض آياتٍ من القرآن، وهذا هو الفرقُ في علاج النفس البشرية، وفي علاج المجتمع الإنساني، بين منهج الله، ومناهج الجاهلية قديمًا وحديثًا على السواء !

لقد تمت المعجزة؛ لأنَّ المنهج الرباني أخذ النفْس الإنسانية بطريقته الخاصة. أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله فيها، حضورًا لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان، أخذها جملة لا تفاريق، وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة.

فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة، من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟ متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟. (3في ظلال القرآن عند الآية (43) من سورة النساء)

خاتمة

هكذا عرض السلف الأخلاق مرتبطة بالعقيدة، وهكذا فهموها ومارسوها. وأثر العقيدة على الأخلاق أثر فريد، يجعل الأخلاق في النفس عميقة، والقيمَ أصيلة، والمنهج مستقيما، برقابة ذاتية، ورقيّ إنساني صادق.

في الاسلام يوجد “الانسان” في أرقى صوره وأعمق صدقٍ. ليبقى إنسانا مهما اختلفت الظروف واستجدت المتغيرات.

في الاسلام تأمن صاحب الخلُق على خُلُقه، وتأتمنه على قيمه؛ فمن حاد عن هذا الدين فما أخسره.

الهوامش

  1. الفوائد ص 184.
  2. عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني ، تحقيق نبيل السبكي ص 86.
  3. في ظلال القرآن عند الآية (43) من سورة النساء.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة