إن مَن عرف اللهَ بعلمه وحكمته أثمر ذلك في قلبه الرِّضا بحكم الله وقدَرِه في شرعه وكونه، فلا يعترض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدَرِه، وإنما يَرضى المؤمن العارِف بأسماء الله وصِفاته بحكم الله وقضائه؛ لأنَّه يعلم أنَّ تدبير الله له خيرٌ من تدبيره لنفسه، وأنَّه تعالى أعلم بمصلحته من نفسه، ولذا تراه يَرضى ويسلِّم؛ بل إنَّه يرى أنَّ هذه الأحكام القدَريَّة الكونية أو الشرعية إنما هي رحمة وحكمة، وحينئذ لا تراه يعترض على شيء منها، بل لسان حاله: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا.

اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) ببعض الأسماء الحسنى في القرآن الكريم:

ورد اسمه سبحانه: (الحكيم) في القرآن في واحد وتسعين موضعًا. وفي جميع المواضع يرد هذا الاسم الكريم مقترنًا باسم آخر من أسمائه – سبحانه – الحسنى ومن ذلك:

أولاً: اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه – عز وجل – (العزيز)

وقد تكرر هذا الاقتران في القرآن الكريم في آيات كثيرة وذلك في نحو ستة وأربعين موضعًا كما في قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الصف: 1]، وقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 38]، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِن اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 56]. وغير ذلك من الآيات.

وعن سر اقتران هذين الاسمين الكريمين، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “فإن العزة: كمال القدرة، والحكمة: كمال العلم، وبهاتين الصفتين يقضي – سبحانه وتعالى – ما يشاء، ويأمر وينهى، ويثني، ويعاقب، فهاتان الصفتان: مصدر الخلق والأمر”1(1) طريق الهجرتين 1/ 106، 107، 108..

وقال عند قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18] ختم بقوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فتضمنت الآية: توحيده وعدله، وعزته وحكمته.

فالتوحيد يتضمن: ثبوت صفات كماله ونعوت جلاله، وعدم التماثل له فيها؛ وعبادته وحده لا شريك له.

والعدل يتضمن: وضعه الأشياء موضعها، وتنزيلها منازلها، وأنه لم يخص شيئًا إلا بمخصص اقتضى ذلك، وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة، ولا يمنع من يستحق العطاء، وإن كان هو الذي جعله مستحقًا.

والعزة تتضمن: كمال قدرته، وقوته، وقهره.

والحكمة تتضمن: كمال علمه وخبرته، وأنه أمر ونهى وخلق، وقدر لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد.

فاسمه (العزيز) يتضمن: الملك، واسمه (الحكيم) يتضمن: الحمد. وأول الآية يتضمن: التوحيد. وذلك حقيقة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) وذلك أفضل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله2(2) الجواب الكافي ص 81..

وعن وجه تقديم اسمه سبحانه (العزيز) على (الحكيم) في جميع الآيات يقول رحمه الله تعالى: “وجه التقديم: أن العِزَّة: كمال القدرة، والحكمة: كمال العلم، وهو – سبحانه – الموصوف من كلِ صفة كمالٍ بأكملها وأعظمها وغايتها، فتقدم وصف القدرة، لأن متعلَّقه أقرب إلى مشاهدة الخلق؛ وهو مفعولاته تعالى وآياته، وأما الحكمة فمتعلَّقها بالنظر والفكر والاعتبار غالبًا؛ وكانت متأخرة عن متعلَّق القدرة.

وجهٌ ثانٍ: أن النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول والعلم به، سينتقل منه إلى النظر فيما أودعه من الحكم والمعاني.

وجهٌ ثالثٌ: أن الحكمة غاية الفعل، فهي متأخرةٌ عنه تأخُر الغايات عن وسائلها، فالقدرة تتعلَّق بإيجاده، والحكمة تتعلَّق بغايته، فقدَّم الوسيلة على الغاية لأنها أسبق في الترتيب الخارجي”3(3) بدائع الفوائد 1/ 63 – 64..

ومن أسرار هذا الاقتران أيضًا ما ذكره الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله تعالى – وهو: “أن الجمع بين الاسمين دال على كمالٍ آخر، وهو أن عزته – تعالى – مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلمًا وجورًا وسوء فعل، كما قد يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم ويجور ويسيء التصرف، وكذلك حكمه – تعالى – وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنها يعتريها الذل”4(4) القواعد المثلى ص 10..

ومن لطائف اقتران هذين الاسمين الكريمين

ما ذكر الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة 38]، قال: “أما قوله: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فالمعنى: عزيز في انتقامه، حكيم في شرائعه وتكاليفه”.

قال الأصمعي: “كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي. فقرأت هذه الآية فقلت: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سهوًا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ فقلت كلام الله، قال أعد! فأعدت: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم تنبهت فقلت: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فقال الأعرابي: الآن أصبت. فقلت كيف عرفت؟! قال: يا هذا عزيز حكيم فأمر بالقطع”5(5) التفسير الكبير للرازي 11/ 181..

ومن لطائف ذلك أيضًا ما ذكره الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – عند قوله سبحانه: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118]، حيث يقول: “ولم يقل “فإنك أنت الغفور الرحيم” وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى، فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار. فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة. بل مقام براءة منهم. فلو قال: “فإنك أنت الغفور الرحيم” لأشعر باستعطافه رَبَّه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم. فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على مَنْ غضب الرب عليهم. فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة، المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم.

والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم، وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله بمقدار إساءته إليه. والكمال: هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم، وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب”6(6) مدارج السالكين 2/ 379..

ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه [الحكيم] باسمه سبحانه (العليم)

وورد ذلك في القرآن كثيرًا وذلك في نحو سبعة وثلاثين موضعًا، بعضها بتقديم اسم (الحكيم) على (العليم) كما في قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام: 83].

وأكثر مواضع الاقتران يتقدم فيها اسمه (العليم) على (الحكيم) كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِن اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الأحزاب: 1].

ويلاحظ أن المقامات التي يتقدم فيها اسم (العليم) على اسم (الحكيم) منوطة بالعلم أولاً ثم بالحكمة.

” ففي مقام الاعتراف بالعجز وقصور العلم يقابله – ولابد – الإقرار والتسليم للعليم، فإذا كان (العليم) هو (الحكيم) فذلك هو العلم البالغ حد الكمال فيكون الاعتراف مصحوبًا بغاية الرضا والتسليم. كما في قوله تعالى عن الملائكة: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 32].

” وفي مقام ارتباط الصبر وانتظار الفرج باسم (العليم) ارتباط قوي، وذلك أن العبد إذا كان عظيم الإيمان، عميق الصلة بربه، واستلبث عليه الفرج لم يتزعزع يقينه، لأنه معتمد على علم الله – عز وجل – في اختيار الزمان الأنسب لما يرجوه من الفرج، معِّول على حكمته في تهيئة الأسباب له ليقع على أحسن ما يكون كما في قوله تعالى: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 83].

” ومثل ذلك يقال في مقام التواضع والتحدث بنعمة الله وفضله، لأن قوامه أحداث ترجع إلى علم (العليم) وحكمة (الحكيم) كما في قوله تعالى عند يوسف عليه السلام: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 100].

” أما مقام التشريع وإقرار الحكم فالأمر فيه راجع إلى العلم الشامل أولاً لأنَّ العلم هو أساس بناء الأحكام، ثم تأتي الحكمة لتنزل الحكم على الواقع، كما في قوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [التحريم: 2].

وتقديم اسم (العليم) على (الحكيم) لأن مبنى الأحكام على إحاطة العلم أولاً ثم الحكمة في تنزيل العلم على الواقع بما يحقق الانسجام والتوافق بين الأحكام الشرعية والطبائع البشرية، وذلك ما يميز الشريعة الإسلامية عن الدساتير، والشرائع الوضعية.

أما تقدم اسمه سبحانه (الحكيم) على اسمه – عز وجل – (العليم) فيلاحظ أنه في مقامين هما:

1 – مقام التوحيد كما في قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام: 83].

2 – مقام إجراء المعجزات كما في قوله تعالى: (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الذاريات: 30]. وذلك أن مضمون الألوهية في مقام التوحيد قهر وقوة وغلبة، يقابلها من العباد طاعة وعبادة وخضوع، فتقديم الحكمة في هذا المقام – والله أعلم – ليعلم أن ألوهيته – عز وجل – السارية على من في السماوات والأرض مسارها الحكمة.

ولعله لما كان العلم الشامل هو رافد الحكمة، وعلى أساسه تنزل الأشياء منازلها، وتوضع الأمور في مواضعها التي بها تستقيم تبع اسم (الحكيم) باسم (العليم).

أما مقام إجراء المعجزات فهو كذلك راجع إلى القوة الغالبة، والمشيئة الطليقة التي تعلو على سنن الكون ونواميسه، واقتران القوة بالحكمة هو ضمان انتظام الأمور، وألا تتحول إلى عبث يفضي إلي اختلال السنن وفساد الكون، فالحكمة هنا لها الصدارة، يليها العلم الذي على أساسه يكون إجراء السنن على ما قدر لها، أو تعطيلها لحكمة ترجع لعلم (العليم)7(7) انظر مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام، د. نجلاء كردي ص 556..

ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – عن اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه – عز وجل – (العليم): “العلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال، فالعلم يتضمن الحياة ولوازم كمالها من: القيومية والقدرة، والبقاء، والسمع، والبصر، وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام.

والحكمة تتضمن كمال الإرادة والعدل، والرحمة، والإحسان، والجود، والبر، ووضع الأشياء مواضعها على أحسن وجوهها، ويتضمن إرسال الرسل، وإثبات الثواب والعقاب”8(8) أسماء الله الحسنى لابن القيم 127.، والحكمة أخص من العلم، إذ هي إجراء العلم على نحو خاص يحقق أسمى الغايات.

ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه – عز وجل – (الخبير)

سبق القول في أول الكلام عن هذا الاسم الكريم أنه جاء مقترنًا باسمه سبحانه (الخبير) في أربع آيات من القرآن وهي قوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 18]، وقوله سبحانه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [سبأ: 1]، وقوله – عز وجل -: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1].

وقوله سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 73].

يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – عن وجه اقتران هذين الاسمين الجليلين أنهما دالان: “على كمال الإرادة وأنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة وعلى كمال العلم، وأنه كما يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بالخبرة، فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم. فالمراد ظاهر، والحكمة باطنة، والعلم ظاهر والخبرة باطنة، فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم أن يكون كاشفًا عن الخبرة، فالخبرة باطن العلم وكماله، والحكمة باطن الإرادة وكمالها”9(9) بدائع الفوائد 1/ 87..

وفي آية الأنعام ورد اسمه سبحانه (القاهر) مع اسميه سبحانه (الحكيم الخبير) المقترنين، ووجه الجمع بين هذه الأسماء الحسنى – والله أعلم- أن (القاهر) وصف دال على كمال القدرة والقوة والغلبة التي لا يملك المقهور حيالها أي مدافعة، بل الإذعان والخضوع، أما (الحكيم) فهو كما سبق ذو الحكمة المتقن لخلق الأشياء، وهو وصف يقتضي أنه – سبحانه – يضع الأشياء في محالها بحكمته، وأنه لا يفعل إلا ما كان صوابًا.

فلما ورد اسم (القاهر) الذي يحصل منه الخوف والوجل والشعور بمعنى القهر والفوقية، جاء بعده اسم (الحكيم) الذي يدل على أن جريان تصرفه وسلطانه إنما هو على مقتضى الإصلاح ومنع الفساد، فإذا وقع للعبد من أقداره سبحانه ما يكره فليوقن أن وراء ذلك الحكمة التي لا يدركها إلا (الخبير) الذي يصل علمه إلى الخفايا وبواطن الأمور. وبذلك تطمئن النفوس من الخوف، وتسكن من القلق والاضطراب. بخلاف قهر الجبابرة من المخلوقين الذين غالبًا ما يكون عن ظلم، وشهوة، وعدوان10(10) انظر “مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام” د. نجلاء الكردي ص 507، 508..

أما في آية سبأ فجمع الله – عز وجل – فيها بين حمده سبحانه وبين هذين الاسمين الكريمين، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “ابتدأ سبحانه السورة بحمده الذي هو أعم المعارف وأوسع العلوم، وهو متضمن لجميع صفات كماله ونعوت جلاله، مستلزم لها كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره، فهو المحمود على كل حال، وعلى كل ما خلقه وشرعه، ثم عقب هذا الحمد بملكه الواسع المديد فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [سبأ: 1] ثم عقبه بأن هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبدًا، فإنه حمد يستحقه لذاته وكمال أوصافه، وما يستحقه لذاته دائم بدوامه لا يزول أبدًا، وقرن بين الملك والحمد على عادته تعالى في كلامه؛ فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكل واحد منهما، فله كمال من ملكه، وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر، فإن الملك بلا حمد يستلزم نقصًا، والحمد بلا ملك يستلزم عجزًا، والحمد مع الملك غاية الكمال … ثم عقب هذا الحمد والملك باسم (الحكيم الخبير) الدالين على كمال الإرادة، وأنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة وعلى كمال علم، وأنه كما يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بخبرة، فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم”11(11) بدائع الفوائد 1/ 87..

رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (العلي)

جاء هذا الاقتران في آية واحدة من كتاب الله – عز وجل – وهي قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى: 51].

وقد سبق ذكر وجه الاقتران عند الكلام عن اسمه سبحانه (العلي) فليرجع إليه.

خامسًا: اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (التواب)

وذلك في قوله سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [النور: 10].

وهذه الآية جاءت بعد ذكر حد الزنا، وحد قذف المحصنات وأحكام الملاعنة ومناسبة ختمها بهذه الآية الكريمة. يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: “هذا تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه، والمؤذنة بأنه تواب على من تاب من عباده، والمثبتة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها، والرفق موضعه، وكف بعض الناس عن بعض، فلما دخلت تلك الأحكام تحت كل هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلاً … وفي ذكر وصف (الحكيم) هنا مع وصف (تواب) إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة، وهي استصلاح الناس”12(12) تفسير التحرير والتنوير 9/ 168، 169..

سادسًا: اقترن اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الحميد)

وقد جاء هذا الاقتران في آية واحدة من القرآن وذلك في قوله تعالى: (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) في خلقه وأمره يضع كل شيء موضعه وينزله منازله، (حَمِيدٍ) على ماله من صفات الكمال ونعوت الجلال، وعلى ماله من العدل والإفضال، فلهذا كان كتابه مشتملاً على تمام الحكمة وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار التي يحمد عليها”13(13) تفسير السعدي 4/ 402..

وقد سبق كلام الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – عند افتتاح سورة سبأ بقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [سبأ: 1]، حيث الجمع بين (الحمد) لله واسميه سبحانه (الحكيم الخبير) وهذا مشابه لقوله تعالى: (حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فليرجع إلى كلامه – رحمه الله تعالى – تجنبًا للتكرار.

سابعًا: اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الواسع)

وقد ورد ذلك في القرآن الكريم مرة واحدة، وذلك في قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) [النساء: 130]، يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا) أي: “كثير الفضل واسع الرحمة، وصلت رحمته وإحسانه حيث وصل إليه علمه. وكان مع ذلك (حكيمًا) أي: يعطي بحكمته ويمنع لحكمته. فإذا اقتضت حكمته منع بعض عبده من إحسانه بسبب في العبد لا يستحق معه الإحسان، حرمه عدلاً وحكمة” ، أي: “أن هذه الحكمة من المنع لا تقدح في كونه واسعًا فالله سبحانه واسع العطاء، واسع الحكمة، واسع الفضل والإحسان والرحمة”14(14) تفسير السعدي 1/ 421..

الهوامش

(1) طريق الهجرتين 1/ 106، 107، 108.

(2) الجواب الكافي ص 81.

(3) بدائع الفوائد 1/ 63 – 64.

(4) القواعد المثلى ص 10.

(5) التفسير الكبير للرازي 11/ 181.

(6) مدارج السالكين 2/ 379.

(7) انظر مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام، د. نجلاء كردي ص 556.

(8) أسماء الله الحسنى لابن القيم 127.

(9) بدائع الفوائد 1/ 87.

(10) انظر “مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام” د. نجلاء الكردي ص 507، 508.

(11) بدائع الفوائد 1/ 87.

(12) تفسير التحرير والتنوير 9/ 168، 169.

(13) تفسير السعدي 4/ 402.

(14) تفسير السعدي 1/ 421.

اقرأ أيضا

من أسماء الله الحسنى: [الحكيم]

إن ربك حكيم عليم… لوازم ومقتضيات

أسماء الله الحسنى: [الواحد، الأحد]

أسماء الله الحسنى: (6،5) [الرحمن، الرحيم]

 

التعليقات غير متاحة