يتميز الإسلام بارتقائِه بالنفس البشرية والسمو بأخلاقها إلى مرحلة التمام

مقدمة

لقد كانت الأمة الإسلامية في ذروتها تمارس «العمل» بحس العبادة، فأمَّا حين خرج العمل تدريجيا من مفهوم العبادة فقد بدأت تهبط من ذروتها درجات مختلفة من الهبوط..

ولم يكن العمل وحده – بجميع مجالاته – هو الذي خرج من مفهوم العبادة حين انحصرت في الشعائر التعبدية.. إنما كانت الطامة في خروج «الأخلاق» من دائرة العبادة..

ارتباط الإسلام بقاعدة أخلاقية عريضة

إن من المزايا الكبرى لهذا الدين قاعدته الأخلاقية العريضة الشاملة، التي تشمل كل أعمال الإنسان.

لا شيء في حياة الإنسان يخرج من دائرة الأخلاق. لا سلوكه ولا فكره ولا مشاعره ولا أي لون من ألوان نشاطه، سياسيا كان أم اجتماعيا أم اقتصاديا أم فنيا.. الخ. بل كل نشاطه مرتبط بالأخلاق وقائم على قاعدة أخلاقية نابعة من الميثاق الذي يقر فيه الإنسان بعبوديته الله: « أَفَمَن یَعلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَیكَ مِن رَّبِّكَ ٱلحَقُّ كَمَن هُوَ أَعمَىٰ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُولُوا ٱلأَلبَـٰبِ * ٱلَّذِینَ یُوفُونَ بِعَهدِ ٱللَّهِ وَلَا یَنقُضُونَ ٱلمِیثَـٰقَ * وَٱلَّذِینَ یَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦ أَن یُوصَلَ وَیَخشَونَ رَبَّهُم وَیَخَافُونَ سُوءَ ٱلحِسَابِ * وَٱلَّذِینَ صَبَرُوا ٱبتِغَاءَ وَجهِ رَبِّهِم وَأَقَامُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَـٰهُم سِرّاً وَعَلَانِیَةً وَیَدرَءُونَ بِٱلحَسَنَةِ ٱلسَّیِّئَةَ أُولَـٰىِٕكَ لَهُم عُقبَى ٱلدَّارِ» سورة الرعد [۱۹- ۲۲].

والميثاق قد يكون هو ميثاق الفطرة الذي أخذ عليها في عالم الذر، أو يكون هو العهد الذي يأخذه كل رسول على الناس أن يعبدوا الله وحده لا شريك:

«وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِی ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّیَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَىٰ أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَىٰ شَهِدنَا» سورة الأعراف [۱۷۲].

«وَلَقَد بَعَثنَا فِی كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ ٱعبُدُوا ٱللَّهَ وَٱجتَنِبُوا ٱلطَّـٰغُوتَ» سورة النحل [36].

ولكن المهم في السياق أن «الميثاق» تفصل بعض مقتضياته فإذا هي مقتضيات «أخلاقية» في أساسها، وإن كانت تشمل أمورا اعتقادية، وأمورا سلوكية، وأمورا نفسية: «وَٱلَّذِینَ یَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦ أَن یُوصَلَ وَیَخشَونَ رَبَّهُم وَیَخَافُونَ سُوءَ ٱلحِسَابِ * وَٱلَّذِینَ صَبَرُوا ٱبتِغَاءَ وَجهِ رَبِّهِم وَأَقَامُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَـٰهُم سِرّا وَعَلَانِیَة وَیَدرَءُونَ بِٱلحَسَنَةِ ٱلسَّیِّئَةَ..» سورة الرعد [21-22].

فيتبين لنا من ذلك منشأ الالتزام الأخلاقي في الإسلام. إنه عبادة الله، بعد اليقين بألوهيته، وبأن ما أنزله على رسوله – صلى الله وعليه وسلم – هو الحق. أي أنه مقتضى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله..

ثم يتبين لنا من هذه الآيات ومن آيات أخرى في كتاب الله أن الميثاق مع الله، الذي تنشأ منه القاعدة الأخلاقية في الإسلام، يتسع حتى يشمل الأعمال كلها:

«وَعِبَادُ ٱلرَّحمَـٰنِ ٱلَّذِینَ یَمشُونَ عَلَى ٱلأَرضِ هَونا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلجَـٰهِلُونَ قَالُوا سَلَـٰما * وَٱلَّذِینَ یَبِیتُونَ لِرَبِّهِم سُجَّدا وَقِیَـٰما * وَٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصرِف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَت مُستَقَرّا وَمُقَاما * وَٱلَّذِینَ إِذَا أَنفَقُوا لَم یُسرِفُوا وَلَم یَقتُرُوا وَكَانَ بَینَ ذَ لِكَ قَوَاما * وَٱلَّذِینَ لَا یَدعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ وَلَا یَقتُلُونَ ٱلنَّفسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلحَقِّ وَلَا یَزنُونَ وَمَن یَفعَل ذَ لِكَ یَلقَ أَثَاما * یُضَـٰعَف لَهُ ٱلعَذَابُ یَومَ ٱلقِیَـٰمَةِ وَیَخلُد فِیهِۦ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَـٰلِحا فَأُولَـٰىِٕكَ یُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَیِّـَٔاتِهِم حَسَنَـٰت وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورا رَّحِیما * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـٰلِحا فَإِنَّهُۥ یَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتَابا * وَٱلَّذِینَ لَا یَشهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِٱللَّغوِ مَرُّوا كِرَاما * وَٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِّرُوا بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِم لَم یَخِرُّوا عَلَیهَا صُمّا وَعُمیَانا * وَٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا هَب لَنَا مِن أَزوَ اجِنَا وَذُرِّیَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعیُن وَٱجعَلنَا لِلمُتَّقِینَ إِمَامًا * أُولَـٰىِٕكَ یُجزَونَ ٱلغُرفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَیُلَقَّونَ فِیهَا تَحِیَّة وَسَلَـٰمًا * خَـٰلِدِینَ فِیهَا حَسُنَت مُستَقَرّا وَمُقَاما» سورة الفرقان [63- 76].

«قَد أَفلَحَ ٱلمُؤمِنُونَ * ٱلَّذِینَ هُم فِی صَلَاتِهِم خَـٰشِعُونَ * وَٱلَّذِینَ هُم عَنِ ٱللَّغوِ مُعرِضُونَ * وَٱلَّذِینَ هُم لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ * وَٱلَّذِینَ هُم لِفُرُوجِهِم حَـٰفِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزوَ اجِهِم أَو مَا مَلَكَت أَیمَـٰنُهُم فَإِنَّهُم غَیرُ مَلُومِینَ * فَمَنِ ٱبتَغَىٰ وَرَاءَ ذَ لِكَ فَأُولَـٰىِٕكَ هُمُ ٱلعَادُونَ * وَٱلَّذِینَ هُم لِأَمَـٰنَـٰتِهِم وَعَهدِهِم رَ اعُونَ * وَٱلَّذِینَ هُم عَلَىٰ صَلَوَ اتِهِم یُحَافِظُونَ * أُولَـٰىِٕكَ هُمُ ٱلوَ ارِثُونَ * ٱلَّذِینَ یَرِثُونَ ٱلفِردَوسَ هُم فِیهَا خَـٰلِدُونَ..» سورة المؤمنون [۱- ۱۱].

وتجيء أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – تربط الأخلاق ربطا وثيقا بالإيمان، وجوداً وعدماً:

« مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلى جارِهِ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيَسْكُتْ. » 1[أخرجه مسلم].

« مَا آمن بي من بات شبعانًا وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلمُ» 2[أخرجه الطبراني].

«والذيِ نفْسِي بيدِه لا يؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه »3 [متفق عليه].

«الإيمانُ بضعٌ وسبعونَ شُعبةً، أفضلُها لا إلهَ إلا اللهَ، وأوضَعُها إماطةُ الأذى عن الطريقِ، والحياءُ شعبةٌ منَ الإيمانِ » 4[متفق عليه].

« أربعٌ من كنَّ فيه فهو منافقٌ وإن كانت فيه خِصلةٌ إذا حدَّث كذِب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدَر وإذا خاصَم فجَر » 5[متفق عليه].

سُئِلَتْ عائشةُ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقالت: كان خُلُقُهُ القرآنَ. 6[أخرجه مسلم].

عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، وفي حَديثِ أبِي أُسامَةَ غَيْرَكَ، قالَ: قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ. 7[أخرجه مسلم].

ويتبين من هذا كله أن الأخلاق جزء أصيل من هذا الدين، ينبع نبعا مباشرا من الإيمان بالله، ويمارسها المؤمن عبادة لله، فلا هي أمور هامشية في حياة المؤمن، ولا هي – في حسه – خارجة عن نطاق العبادة التي يتقدم بها إلي الله.

ولكن انحسار مفهوم العبادة، وانحصارها في الشعائر، أخرج الأخلاق من العبادة تدريجيا.. فماذا كانت النتيجة؟

نتيجة خروج الأخلاق من مفهوم العبادة

كانت النتيجة أنه أصبح أمرا مألوفا في العالم الإسلامي أن تجد الرجل يصلي في المسجد – ويعتاد المساجد – ثم يكذب! بينما سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أيكون المؤمن جبانا قال: نعم. ثم سئل: أيكون المؤمن كذابا قال: لا! 8[أخرجه مالك في الموطأ].

وأصبح أمرا مألوفا أن يخرج الرجل من الصلاة بالمسجد ثم يغش المسلمين. بينما يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من غشنا فليس منا»9 [أخرجه مسلم].

وأصبح مألوفا أن يخرج الرجل من الصلاة وقد خان الأمانة التي اؤتمن عليها، أو أخلف الوعد الذي أعطاه، بينما جعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذلك من علامات النفاق!

وليس الغريب أن يتفلت الناس من قيود الأخلاق. فهي قيود ثقيلة إلا على الذين هدى الله!

ولكن الغريب أن هذا التفلت – بكل آثاره المدمرة في حياة الأمة – غير موصول في حس الناس بأمر العبادة! فالعبادة هي الشعائر.. ومن أدى الشعائر فقد أدى العبادة المطلوبة.. وأما هذه السقطات الأخلاقية فهي معيبة نعم، والوعاظ يتكلمون عنها في كل خطبة، نعم، ولكنها في دائرة أخرى غير دائرة العبادة.. فهذه «مقفلة» على الشعائر فحسب!

وأصبح من الخزي لهذه الأمة أن الجاهلية المعاصرة تصدق في الوعد في معاملاتها اليومية (وتحتجز الكذب للأمور السياسية!) وتؤدي الأمانة، ولا تغش، ولا تخون.. بينما «الأمة الإسلامية!» غارقة إلى قمة رأسها في الكذب والغش والخيانة وخلف الوعد.. إلا من رحم الله!

أخلاق أوربا ليست أخلاق حقيقية إنما هي أخلاق نفعية

إن أوربا – في اعتقادنا – لیست أمة ذات أخلاق حقيقية أصيلة.. وما يوجد من أخلاقيات في معاملاتها اليومية فهو أخلاق نفعية هدفها تحقيق المنفعة في الحياة الدنيا فحسب. ولقد تعلمت أوربا من التاجر اليهودي الذكي، الذي سيطر على مقدرات أوربا في القرنين الأخيرين، والأخير بصفة خاصة، أن التودد اللطيف إلى «الزبون» والصدق معه، والتعامل الأمين، أدوم لكسبه، وأدوم للانتفاع منه، من الغش والكذب وخلف الوعد.. فراضوا أنفسهم على تلك الأخلاقيات النافعة، وربوا عليها أولادهم تربية جادة، يبذل فيها جهد حقيقي مدروس منظم، وتؤدى بالفعل إلى صورة طيبة المظهر في واقع حياة الناس.

وهم يقولون – ويعتقدون أنها «قيم حضارية»..

ونحن نشك في ذلك كثيرا لأن الرأسمالية كلها التي تحكم الغرب وتدير شئونه قائمة على ألوان كثيرة من الغش والكذب والخداع من أجل الحصول على أكبر قسط من الربح. فالربح – من أي سبيل – هو هدفها الأول، وليس الصدق ولا الأمانة ولا غيرهما من الفضائل، إنما تجيء هذه – في الطريق – بوصفها وسائل نافعة للحصول على أكبر قدر من الربح، كما قدمنا من خصال التاجر اليهودي الذكي، الذي هو عماد تلك الرأسمالية. وفي الوقت الذي لا تؤدي فيه هذه الفضائل إلى الربح، أو يتحقق النفع بأضدادها يتخلى الأوربي بسهولة عن كثير من «أخلاقياته» كما يحدث دائما في عالمهم السياسي المخادع، وكما يحدث في الاستعمار، وفي العلاقات الدولية، وفي تعامل البيض مع الملونين.. الخ.. الخ.

الأخلاق في الإسلام قيماً حقيقية أصيلة

أما في الإسلام – في صورته الصحيحة – فقد كانت الأخلاق قيما حقيقية أصيلة لأن هدفها لم يكن الربح المادي، ولا كانت قائمة عليه، إنما هدفها الوفاء «بالميثاق» المعقود مع الله، وقائمة على قاعدة «العبادة» لله. كما كانت كذلك قيما حضارية أصيلة لأنها ذات صبغة «إنسانية» غير محصورة في جنس ولا لون، إنما هي صادرة من «الإنسان» بوصفه إنسانا – مؤمنا – وموجهة إلى «الإنسان» حتى ولو لم يكن مؤمنا بما يؤمن به المسلمون.

وحين كانت الأمة تمارس إيمانها الحق، وعبادتها الحقة، وكانت «الأخلاق» في حسها جزءا من العبادة المفروضة على المسلم المؤمن حدثت معجزات كثيرة لم تتكرر في التاريخ.

ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح الإسلامي من الهند شرقا إلى المحيط غربا، وهي سرعة مذهلة لا مثيل لها في التاريخ كله. ولم يكن الكسب هو «الأرض» التي فتحت، فما خرج المسلمون من الجزيرة يريدون. التوسع في الأرض! إنما كان هدفهم، كما قال ربعی بن عامر لرستم قائد الفرس: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة».

أخلاق الفاتحين من أكبر الأسباب التي فتحت قلوب الناس للإسلام

كان الكسب الأعظم هو «القلوب» التي اهتدت بنور الله فدخلت في دين الله.

ولم يكن ذلك عن رهبة من سطوة الفاتحين، ولا قهرا قهرهم عليه الفاتحون! فقد أَمَّنوهم على أنفسهم وعلى عقائدهم، وشهد الناس بأعينهم حقيقة الأمان الذي منحه المسلمون لمن بقي على دينه ولم يشأ أن يدخل في الإسلام.

إنما كانت «أخلاق» الفاتحين من أكبر الأسباب التي فتحت قلوب الناس لهذا الدين. ولا عجب فقد كانت أخلاق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من قبل من أكبر الأسباب في هداية من اهتدى من الناس كما شهد له ربه:

«وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیم» سورة القلم [4].

«فَبِمَا رَحمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلقَلبِ لَٱنفَضُّوا مِن حَولِكَ ..» سورة آل عمران [159].

ولم تقف المعجزة عند السرعة المذهلة التي تم بها الفتح، ولا عند دخول ملايين من البشر طواعية وحبا في الدين الذي أتى به الفاتحون، ولا في تحول المهتدين إلى جنود مخلصين للعقيدة التي اعتنقوها يجاهدون لنشرها في الأرض مختارين متطوعين لا يدفعهم أحد ولا يضغط عليهم أحد.. إنما امتدت المعجزة إلى ظاهرة لم تتكرر قبل ولا بعد، هي دخول هذه الملايين في اللسان العربي، حتى من بقي منهم على دينه ولم يعتنق الإسلام، ونسي النصارى في مصر والشام وغيرها من البلاد المفتوحة لغاتهم التي كانوا يتكلمون بها، ويؤدون بها عبادتهم وصاروا يتكلمون العربية، ويكتبون بالعربية، ويؤدون عباداتهم – على دينهم – بالعربية!

بل امتد الإسلام إلى رقاع واسعة من آسيا وأفريقيا – سلما – على يد تجار جاءوا للتجارة لا للدعوة! ولكن أخلاقهم الإسلامية حببت الناس فيهم، وفي دينهم الذي رباهم على أخلاقياته، فدخلوا في هذا الدين!

ضع في مقابل ذلك ما يحدث اليوم من صد عن سبيل الله يقوم به «المسلمون» بسبب سوء أخلاقهم!

ارتباط الأخلاق بالإسلام ينقذ الإنسان من الضنك النفسي

إن أوربا، بامتدادها الغرب كله حتى أمريكا، قد وقعت اليوم في الضنك الذي أنذر به الله من أعرض عن ذكره: «وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَة ضَنكا وَنَحشُرُهُۥ یَومَ ٱلقِیَـٰمَةِ أَعمَىٰ» سورة طه [124].

وهو ضنك نفسي لا يخفف من آثاره كل التقدم المادي والعلمي والتكنولوجي والاقتصادي والعمراني الذي يعيشون فيه، بل إن «مجتمع الوفرة» الذي وصلت إليه بعض الشعوب متجاوزة به «مجتمع الرفاهية» قد وصل فيه الضنك النفسي إلى الذروة، متمثلا في القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والعصبية وإدمان الخمر وإدمان المخدرات والجنوح والجريمة والشذوذ وفساد الفطرة…

والناس هناك يبحثون عن طريق الخلاص.. ومنهم من يعتنق البوذية، ومنهم من يدخل في عبادة كرشنا، ومنهم من يتخبط هنا وهناك..

والإسلام هو طريق الخلاص.. أنزله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور…

ومئات من الناس في الغرب يدخلون في الإسلام كل عام.. ولكن هذه المئات كان يمكن أن تكون ألوفا وملايين لولا عوامل كثيرة تصد الأوربيين عن الإسلام، منها الحاجز الصليبي ولاشك ومنها النفور من «الدين» عامة بسبب ما فعلته الكنيسة الأوربية في تشويه صورة الدين وتنفير الناس منه بفظاظتها وطغيانها.. ومنها كذلك واقع المسلمين!

وقوف واقع المسلمين في وجه الدعوة إلى الإسلام

إن كثيرا من الناس في الغرب يستمعون إلى الدعاة المسلمين يحدثونهم عن الإسلام، ثم يقولون لهم بلسان الحال أو بلسان المقال: إذا كان الإسلام بهذه الصورة الجميلة التي تعرضونها، فلماذا أنتم هكذا؟! لماذا أنتم كذابون غشاشون مخادعون مخلفون للوعد غير مستقيمين في تعاملكم.. فضلا عن كونكم – فيما بينكم وبين أنفسكم – متعادين متباغضين لا تجتمعون على شيء؟!

وهكذا يقف واقع المسلمين في وجه الدعوة إلى الإسلام، يصد الملايين الحائرة عن طريق الخلاص!

ومع ذلك يمر كثير من الناس على هذا الأمر الخطير مرورا عابرا، لا يثير عندهم أكثر من أسف عابر، ثم يهزون أكتافهم ويمضون.. ولا شك أن من أكبر أسباب ذلك خروج الأخلاق – في حسهم – من دائرة العقيدة ودائرة العبادة، اللتين هما – في حسهم – دائرتان مغلقتان، لا توابع لهما ولا مقتضيات!

ومازلت أذكر داعية مرموقا له في الدعوة جهود مشكورة يجزيه الله عنها خيرا إن شاء الله، قال محتدا على أحد الطلاب في مناقشة الرسالة جامعية: ما علاقة الأخلاق بلا إله إلا الله ؟! العقيدة – كما تعلمناها – إلهيات ونبوات وسمعيات، ولأشيء وراء ذلك! فمن أين جئت بهذه العلاقة التي تريد أن تقيمها بين لا إله إلا الله وبين الأخلاق ؟!

وهكذا ينظر إلى الأخلاق – بعد إخراجها من دائرة العقيدة ودائرة العبادة – على أنها أمر «إضافي» إن وجد فَنِعِمَّا هو ؟ وإن لم يوجد فلا بأس! فالإيمان مستقر بقول لا إله إلا الله، والعبادة مؤداة بالشعائر. أما هذه «النافلة» الأخلاقية فلا علينا إن أسقطناها من الحساب! ونحن طبعا لا نسقطها من الحساب! فنحن «نتحدث» عنها دائما في خطب الوعظ الأسبوعية، والدورية، والموسمية. وقد نعلم قبل أن نتحدث، وبعد أن نتحدث، أنه كلام ذاهب في الهواء. ومع ذلك لا نكف عن الوعظ الدائم طمعا في هداية الناس!

ترى كم شعبة من شعب الإيمان المنصوص عليها في حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد هدمت حين هدمت الأخلاق ؟!«الإيمان بضع وسبعون شعبة..».

المصدر:

كتاب “مفاهيم ينبغي أن تصحح” للأستاذ محمد قطب رحمه الله، ص214-227 بتصرف يسير.

الهوامش:

  1. [أخرجه مسلم].
  2. [أخرجه الطبراني].
  3. [متفق عليه].
  4. [متفق عليه].
  5. [متفق عليه].
  6. [أخرجه مسلم].
  7. [أخرجه مسلم].
  8. [أخرجه مالك في الموطأ].
  9. [أخرجه مسلم].

اقرأ أيضًا:

مفهوم العبادة من أثر الصحابة

مفهوم العبادة وعلاقته بالتحاكم إلى شرع الله

“إخراج العبادة عن الإلف والعادة” من علامات صلاح السريرة

التعليقات غير متاحة