المربي يزرع قيما ويترك غرسا، والإعلامي يربي تربية عامة للمجتمع أو لقطاعات منه تُعدّ بالملايين؛ ولكلٍ أثره وخطره؛ فلا وصية لهم مثل التقوى.

مقدمة

الأمر بتقوى الله تعالى لا تعني صورة نمطية تتقافز لذهن السامع والآمر. بل هي حالة من الحساسية والخشية وخوف الآخرة والتزام منهج الله تعالى من كل عبد في محله، وبحسب مهنته وقدراته ومكان وجوده ونشاطه.

وقد اخترنا هنا عملا حساسا ومهما وعام التأثير، وهو الإعلام الذي يخاطب ملايين الخلق في لحظات بكلمات سهلة وأموال مرصودة وأهداف يراد تحقيقها؛ يهتم به العدو والفاجر والفاسق فيفسد المجتمعات والخلق، ويهتم به التقي والعالم والداعي يريد به الإصلاح ما استطاع.

وقد رأينا خطورة بادية في ممارسات المربين والإعلاميين وأردنا توجيه نصيحة ووصية وصى بها ربنا تعالى الأولين والآخرين..

إلى المربين في هذه الأمة

أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].

أيها المربون.. إن التربية لها معنى أوسع من التعليم وتلقين المعلومات. فالتربية هي الجهد الذي يبذله المربون في كل مجتمع من آباء ومعلمين وغيرهم في إنشاء الأجيال القادمة على أساس العقيدة التي يؤمنون بها، ومنحهم الفرصة الكافية لتشرّب معاني الدين والتضحية من أجله والاعتزاز به بين الأمم؛ فالأمة الجادة هي التي تربي أبناءها طبقاً للعقيدة التي تدين بها لله تعالى، وتسعى لنشرها بين الأمم، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله تعالى، وهذه مهمة المربّين في هذه الأمة فما أثقلها من تبعة، وما أشرفها من رسالة.

ومن لوازم الصدق أيها المربون الكرام أن تصْدُقوا مع مَن ولّاكم الله تربيتهم وتعليمهم، وذلك بتعليمهم الخير، وربطهم بأبطال هذه الأمة ورعيلها الأول، وتحذيرهم من الشر وأهله، وتبصيرهم سبيلَ المجرمين وأفكارهم الخبيثة وتفنيدها والتحذير منها.

ومن لوازم الصدق في التربية إعداد المناهج الكريمة المستمدة من الكتاب والسنة، وفهْم الصحابة وفقه الواقع الذي تعيشه الأمة، فعلى المسؤولين عن مناهج التعليم في المجتمعات المسلمة أمانةٌ عظيمة وتبعة ثقيلة، فليصْدُقوا مع الله عز وجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأبنائها، فلا يختاروا إلا ما فيه الخير والإصلاح وتنشئة الأجيال على العقيدة الحقّة والأخلاق السامية، وأن يردّوا ويُسقطوا كل ما من شأنه إفساد العقيدة والأخلاق والأفكار والهمم، فنحن أمة ذات رسالة عظيمة خالدة ينبغي للناشئة أن يدركوا رسالة أمتهم، وأنها خير أمة أخرجت للناس.

أيها المربون من آباء ومعلمين..

إن الله سبحانه سائلُكم عما استرعاكم فأعدوا للسؤال جواباً ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه﴾ [البقرة: 281] تذكروا أثر العمل الطيب، والسنة الحسنة حين تسري في الأمة وينتشر الخير بسببها، فتنالوا أجر ذلك عن كل من تأثر به، والعكس بالعكس والعياذ بالله. تذكروا أثر العمل السيء والسنة السيئة حين تسري في أبناء الأمة ويتربون عليها فستنالون وزر ذلك، ووزر من تأثر به؛ نعيذكم بالله من هذا المآل، وهذا مصداق قوله، صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها». (1صحيح مسلم (كتاب الزكاة 1017))

من لوازم الصدق

ومن لوازم الصدق في التربية أن يُربط الأبناء والطلاب في حياتهم بالأهداف العالية النبيلة، ولا يُربطون بالتوافه من الأمور والأهداف الهابطة، لأن النظرة السائدة اليوم في أكثر بيوت المسلمين ومدارسهم: أن طلب العلم قد رُبط بالمصلحة الدنيوية، وأنها وسيلة للعيش، ولا يوجد في جو المنزل أو جو المدرسة إلا من رحم الله من يقول للمتربي إن لك أمة تنتظرك، وأن لك دوراً ينتظرك في الدعوة إلى التوحيد وهداية الناس بإذن الله تعالى، والجهاد في سبيله عز وجل، والذود عن حمى الأمة وعقيدتها.

إن هذا النوع من التربية قليل؛ فعلى المربين الصادقين مع ربهم سبحانه أن يُحيوا هذه المعاني عند إخوانهم المربين ويصبغوا بها المناهج المعدة لذلك، وينشروها في صفوف أبنائهم وطلابهم حتى يخرج جيل قوي متماسك يشعر بانتمائه لهذا الدين، ويشعر بمسؤوليته ليتولى هو بدوره إكمال الطريق، وتربية الأجيال التي تأتي بعد ذلك.

وبقيت وصية مهمة أوصي بها نفسي وإخواني الآباء، ألا وهي الصدق مع الله سبحانه في جعْل البيت محضناً من محاضن التربية الكريمة للأبناء والبنات والإخوان والأخوات والزوجات، وذلك بعمارته بذكر الله عز وجل ووجود القدوة الصالحة، وتطهيره من أسباب الرجس والفساد، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته.

إن العجب كل العجب من أناس أنعم الله عليهم بنعمة الأموال والأولاد، ثم هم يخْربون بيوتهم بأيديهم ويلقون بأنفسهم وأهليهم إلى النار، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6].

إن أحدنا لو رأى ابنه أو ابنته أو أخاه أو أخته أو زوجته يتعرض أحدهم لهلاك في الدنيا بحريق أو غرق أو سقوط من شاهق، لهبَّ مسرعاً لإنقاذه وإن لم يكن قريباً منه صاح به محذراً من السقوط في المهلكة، وإن الله سبحانه يحذرنا من نار تلظّى لا تأتي نار الدنيا عندها إلا جزءاً من سبعين جزء منها؛ ومع ذلك لا يتحرك الكثير منا في إنقاذ نفسه وأهله منها ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 81].

إلى الإعلاميين في هذه الأمة

أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به عباده المؤمنين سبحانه عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].

أيها المؤمنون من إعلاميي هذه الأمة..

إني أخاطب فيكم عقيدتكم الإسلامية، التي تحملونها بين جوانحكم، والتي تحدد هويتكم بين بني البشر وترفع رؤوسكم بين بني الإنسان.

أخاطب فيكم غيرتكم الإسلامية ومروءتكم العربية، وأخلاقكم العريقة التي تميّز المسلم عن غيره.

أخاطب فيكم الأمانة العظيمة التي حمّلكم الله إياها من خلال مسؤولياتكم الخطيرة التي تتولونها.

أخاطب فيكم المسؤولية التي أناطتها الأمة بكم لتربّوا أبناءها على الإيمان الصادق والعفة والطهارة والعزة والكرامة.

أيها الإعلاميون المؤتمنون على عقيدة الأمة وأخلاقها؛ اصدقوا مع ربكم سبحانه في الوفاء بما عهد إليكم ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]، ﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].

واصْدُقوا مع أمّتكم المسلمة التي أمّنتكم دينها وأعراضها وعقولها وأفكارها، فلا تخونوا أمتكم، وكونوا عند حسن ظنها بكم.

إن إعلام أي أمة يعبر عن عقيدتها وهويتها، وإذا أردنا أخذ صورة سريعة عن أي أمة أو مجتمع، فلننظر إلى إذاعتها وتلفازها وصحفها وما يُنشر فيها؛ فإن ذلك يدلنا على ما يقوم عليه هذا المجتمع من عقيدة وأخلاق.

إن لكل أمة هوية، فأين هويتنا الإسلامية في كثير من إعلام دولنا..؟!

إن الإسلام ليس كلمة فحسب، ليس عقيدة مستكنّة في القلب فحسب؛ بل الإسلام هو الاستسلام لله عز وجل وحده في جميع شؤون الحياة؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208].

مدلول الإزدواج الإعلامي

هذا هو الإسلام الذي جاء من عند الله عز وجل، وإن الناظر في إعلام المجتمعات المسلمة اليوم ليرى ازدواجية وانحرافاً، وهذا يعني أحد أمرين:

أحدهما: أن يكون هناك جهل بحقيقة هذا الدين، وأنه بالإمكان أن يكون المرء مسلماً بقلبه ولسانه فقط ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء ويعمل ما يحلو له أن يعمل ما دام أنه ينطق الشهادتين، فالهوية التي يحملها هي الإسلام. وهذه عقيدة المرجئة التي أَفسدت في الأرض ودخل من خلالها العلمانيون الذين يفصلون الدين عن الحياة، ويجعلونه عقيدة مستكنة في الضمير وبين جدران المساجد فحسب..!!

والآخر: أو أن حقيقة الدين ومفهومه الواسع واضحة في أذهان القوم، ولكنهم آثروا الحياة الدنيا ومناصبها وزخرفها على مرضاة الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة، فاشتروا الحياة الدنيا الفانية بالدار الآخرة الباقية فما أشد خسارتهم وأكسد تجارتهم، ألا ذلك هو الخسران المبين.

ثم ماذا سيكون جوابك إذا حاكمتك الأمة بأسرها على ما قدمت لها من كلمة مسموعة أو مرئية أو مقروءة يوم تكون سبباً في إضلال أبنائها..؟

خاتمة

أناشدك بما معك من الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا تغفل عن هذا اليوم الرهيب، فوالله إنه لقريب: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ۗ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ [الشورى:17- 18].

إننا نأمل أن يكون الإعلام في أيدي أتقى الناس وأخشاهم لله، ومن يقدّرون قيمة الكلمة وتاثيرها، ويعرفون أثر ما يتركونه في المجتمع ويقصدون الى الخير.

هذا مهم في التربية المباشرة؛ وفي الإعلام كذلك فهو تربية عامة للمجتمع بأسره، ونحن نحتاج أن تكون هذه التربية في اتجاه بناء الأمة وتربيتها على هويتها وترسيخ عقيدتها ودفعها الى إقامة الدين وممارسته في شتى مناحي الحياة لتقوم الأمة برسالتها الكبرى.

هذا ما يسر الله سبحانه كتابته حول هذا الموضوع، عسى الله أن ينفع به كاتبه وقارئه في الدنيا والآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

…………………………………

الهوامش:

  1. صحيح مسلم (كتاب الزكاة 1017).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة