لحياتنا عواقب، ولأفعالنا مآلات، وللدنيا نهاية نستقبلها. في النفس صفات وآفات تعوق وتعرقل. ومن تدبر اليوم وتفكر انكشفت له قائق وبانت له العاقبة؛ فأصلح المسير.

إعمال العقول

إن أصل كل خيرٍ وشرٍ مبدؤه الفكر والتفكير..

فمن الناس مَن تفكيره في ما يضره في الدنيا والآخرة، ومنهم من يصرف تفكيره فيما ينفعه في الدنيا والآخرة.

والفِكر يثمر إرادةً فعزيمةً فعملا، ولما كان عمر الإنسان قصيرًا، والموت يأتي بغتة، فلا جرَم كان على العبد أن ينتهز دقائق عمره وساعاته فيما ينفعه في آخرته، وأن يحافظ على أفكاره من أن تذهب سُدى لا ينتفع منها، فضلًا عن أن تكون فيما من شأنه ضرره وهلاكه.

مجاري الفِكر ومتعلقه

وقـد ذكـر الإمـام ابن القـيم رحـمه الله تعالى “مجاري الفكر وأصوله” التي لا يخرج تفكير الإنسان عنها.

يقول رحمه الله تعالى:

“فإن قيل: قد ذكرتم الفكر ومنفعته وعظم تأثيره في الخير والشرِّ، فما متعلقه الذي ينبغي أن يوقَع عليه ويجري فيه؟ فإنه لا يتم المقصـود مـنه إلَّا بذكـر متعـلَّقه الـذي يقـع الفـكر فـيه، وإلَّا ففكـرٌ بغير مُتفَكَّر فيه مُحال.

قيل: مجرى الفكر ومتعلَّقه أربعة أمور:

أحدها: غايةٌ محبوبةٌ مُرادة الحصول.

الثاني: طريقٌ مُوصِلة إلى تلك الغاية.

الثالث: مضرةٌ مطلوبة الإعدام مكروهة الحصول.

الرابع: الطريق المُفضي إليها المُوقع عليها.

ومجاري هذه الأفكار ومواقعها كثيرة جدًّا لا تكاد تنضبط وإنما يحصرها ستّة أجناس: الطاعات الظاهرة والباطنة، والمعاصي الظاهرة والباطنة، والصفات والأخلاق الحميدة، والأخلاق والصفات الذميمة، فهذه مجاري الفكرة في صفات نفسها وأفعالها.

وأما الفكرة في صفات المعبود وأفعاله وأحكامه، فتوجب له التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الربِّ عمَّا لا يليق به، ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام”. (1)

متعلقات الفكر

وينقسم التفكير من حيث متعلقاته إلى قسمين كبيرين:

الأول: تفكيرٌ ممدوح يحبه الله عز وجل ويأمر به ويحث عليه.

الثاني: تفكير مذموم يسخطه الله عز وجل وينهى عنه..

وهو التفكير في المجالات التي لم يُعطَ الإنسان القدرة على التفكير فيها وإدراكها؛ كالأمور المغيبة وكيفياتها.

أنواع الفكرة لله

وقد ذكر أكثر هذه الأقسام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الجواب الكافي؛ حيث يقول رحمه الله تعالى:

“وأعلى الفِكَر وأجلّها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة..

فما كان لله فهو أنواع:

أحدها: الفكرة في “آياته المنزَّلة” وتعقُّلها

وفهْم مراده منها، ولذلك أنزلها تعالى، لا لمجرد تلاوتها، بل التلاوة وسيلة.

قال بعض السلف: أنزل القرآن ليُعمل به، فاتخَذوا تلاوته عملًا..!

الثاني: الفكرة في “آياته المشهودة” والاعتبار بها

والاستدلال بها على أسمائه وصفاته، وحكمته وإحسانه، وبره وجوده، وقد حضَّ الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبرها وتعقلها وذم الغافل عن ذلك.

الثالث: الفكرة في آلائه وإحسانه

وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، وسعة رحمته ومغفرته وحلمه.

وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه.

ودوام الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة.

الرابع: الفكرة في عيوب النفس وآفاتها وفي عيوب العمل

وهذه الفكرة عظيمة النفع، وهي باب لكل خير، وتأثيرها في كسر النفس الأمارة بالسوء، ومتى كسرت عاشت النفس المطمئنة، وانبعثت وصار الحُكْم لها، فيحيا القلب؛ ودارت كلمته في مملكته، وبث أمراءه وجنوده في مصالحه.

الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته

وجمع الهَمّ كله عليه، فالعارف ابن وقته؛ فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها؛ فجميع المصالح إنَّما تنشأ من الوقت، وإن ضيعه لم يستدركه أبدًا.

وما عدا هذه الأقسام من الخَطَرات والفكر فإما وساوس شيطانية، وإما أماني باطلة وخدع كاذبة؛ بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين”. (2)

تدبر ما تعرّف الله به الى عباده

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“ومجاري هذه الفكرة تدبُّر كلامه، وما تعرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزَّه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه.

وتدبُّر أيامه وأفعاله في أوليائه وأعدائه التي قصَّها على عباده، وأشهدهم إياها ليستدلُّوا بها على أنه إلهُهم الحقُّ المبين الذي لا تنبغي العبادة إلَّا له، ويستدلُّوا بها على أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، وأنه شديد العقاب، وأنه غفور رحيم، وأنه العزيز الحكيم، وأنه الفعَّال لما يريد، وأنه الذي وَسِعَ كل شيء رحمةً وعلمًا، وأن أفعاله كلها دائرة بين الحكمة، والرحمة والعدل والمصلحة؛ لا يخرج شيء منها عن ذلك.

ويقول رحمه الله:

وهذه الثمرة لا سبيل إلى تحصيلها إلَّا بتدبُّر كلامه والنظر إلى آثار أفعاله”. (3)

“وبالجملة: تعرّفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.

وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

فهذه ستة أمور ضروري للعبد معرفتها، ومشاهدتها ومطالعتها؛ فتُشهِده الآخرة حتى كأنه فيها، وتُغيّبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتُمَيِّز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم، فتريه الحق حقًّا والباطل باطلًا، وتعطيه فرقانًا ونورًا يفرّق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحًا وبهجة وسرورًا؛ فيصير في شأنٍ والناس في شأن آخر”. (4)

[للمزيد فضل التفكر والحث عليه]

التفكر في آيات الله عز وجل المتلوة وتدبرها

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

التفكر في القرآن نوعان:

تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه.

وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه.

فالأول تفكُرٌ في الدليل القرآني، والثاني تفكر في الدليل العياني.

فالأول تفكر في آياته المسموعة، والثاني تفكر في آياته المشهودة.

ولهذا أنزل الله القرآن ليُتدبر ويُتفكر فيه ويُعمل به، لا لمجرد التلاوة مع الإعراض عنه. (5)

فالمتدبر لكتاب الله عز وجل يجد فيه الأمر والحض على النظر والتفكير في آيات الله تعالى المشهودة في الآفاق والأنفس، والآلاء والنعم، وسير الأنبياء مع أقوامهم، والنظر فيما قدمت النفس ليوم معادها، والتفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما.

كما يجد المتدبر لكتاب الله عز وجل آيات عظيمة وكثيرة لعظمته سبحانه وقدرته في الخوارق التي يريها الناس، وينصر بها أنبياءه وأولياءه، كما يجد الحِكَم الباهرة في شرعه وأحكامه، كل ذلك يتضمنه كتاب الله عز وجل ويجده المتدبر والمتفكر في آياته الكريمة.

سبب للمحبة

إن تدبر كتاب الله عز وجل من الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى، وقد نص على ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله؛ وذلك في قوله:

“ولقد كان السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ يستشعرون هذا المعنى وهم يقرءون القرآن؛ حتى أنهم كانوا يتلقَّونه تلقي الغائب الغريب لرسالة جاءت على شوق من الحبيب”. (6)

قال الحسن بن علي رضي الله عنه: «إن مَن كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار». (7).

يجب أن يبقى التفكر قرينا للمؤمن، فآلة التفكر مع آلة الذِكر تفتح للقلب آفاقا يرتادها وحقائق يراها، ويحث القلب للاستعداد والمسير، وإصلاح الخلل وتدارك ما فات والتخلص من الافات وحث السير الى الله والسعي اليه، وإدراك الحقائق على ما هي عليه. وتلك نعمة جليلة.

…………………………………….

الهوامش:

  1. «مفتاح دار السعادة» 1/189-191.
  2. «قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل» ص10.
  3. «مفتاح مدار السعادة» 1/193.
  4. «مدارج السالكين» 1/451-453.
  5. «البرهان» 2/160.
  6. «التبيان في آداب حملة القرآن» ص28.
  7. «تفسير السعدي» 4/287-288.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة