الاستعداد للجهاد بالإيمان والإخلاص والمتابعة والصبر وقوة الصلة بالله عز وجل أمرا لا بد منه وإلا خارت القوى وانحلت العزائم، ومن ذلك أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل الطويل استعدادا لتحمل القول الثقيل وتبليغه للناس وتحمل أعباء الرسالة.

من أعمال الجوارح اللازمة في الإعداد للجهاد

1 – المحافظة على الصلوات فرضها ونفلها

سبق وأن مر بنا في صفات المجاهدين المذكورين في سورة التوبة- [معنى الإعداد الإيماني للجهاد] – والذين اشترى الله عز وجل منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم: (الراكعون الساجدون) ؛ وكأنها صفة لازمة لهم؛ لا تراهم إلا ركعًا وسجدًا يعبدون ربهم بهذه الشعيرة العظيمة، هي لذتهم ونور حياتهم وقرة عيونهم وسعادة قلوبهم، ولذلك لا يقدمون عليها مالاً ولا ولدًا ولا مرادًا من مرادات النفوس؛ يلبون نداء الصلاة فور سماعهم للنداء، يحافظون على أدائها في جماعة مبكرين لها محافظين على إتقانها بأركانها وواجباتها وخشوعها· ويزيدون عليها بالسنن الرواتب، لا يفرطون فيها ويحافظون على النوافل الواردة من صلاة الضحى وقيام الليل، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله عز وجل؛ كما قال الله عز وجل في وصفهم: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) [الفرقان:64] ، وقال أيضاً عنهم: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذريات:17] ، وهم بذلك يرجون أن يكون لصلاتهم آثارها ومنافعها الدنيوية والأخروية·

وإن من الإعداد للجهاد الاهتمام الشديد بالصلاة فرضها ونفلها؛ وذلك لأنها أم العبادات، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فضلاً عن كونها زادًا للمجاهد في طريقه الشاق الطويل؛ يستعين بها على ما يواجهه في جهاده من تكاليف ومشاق وقتل وقتال وهجر للمال والأولاد؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153] . فمن لم يكن له زاد من الصلة بالله عز وجل فإنه لا يقوى على مواصلة الطريق، ولا على الثبات أمام الأعداء في ساحات الوغى·

ثم لا ننسى الحديث القدسي الذي يبين أثر التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل في محبة الله عز وجل لمن هذه حاله· وأن العبد ما يزال يتقرب بذلك حتى يحفظه الله عز وجل في سمعه وبصره ويده ورجله؛ فلا تنطلق جوارحه إلا فيما يحب الله عز وجل· وكفى بحفظ الله تعالى حفظًا وقوة وثباتًا وجهادًا·

ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية البقرة الآنفة الذكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ … ) فيقول: (وحين يطول الأمد، ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد، إذا لم يكن هناك زاد ومدد. ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد. المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع. ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والطمأنينة، والثقة، واليقين.

إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة. حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة. حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة. حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب. حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق ..

هنا تبدو قيمة الصلاة .. إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية. إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض. إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض. إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير. إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود .. ومن هنا كان رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم – إذا كان في الشدة قال: «أرحنا بها يا بلال»1(1) سنن أبي داود (4/ 296) (4985) صحيح. ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء باللّه.

إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة. والعبادة فيه ذات أسرار. ومن أسرارها أنها زاد الطريق. وأنها مدد الروح. وأنها جلاء القلب. وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر .. إن اللّه سبحانه حينما انتدب محمدا – صلى الله عليه وسلم – للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له: (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا .. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل:1-5] ..

فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن .. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان)2(2) في ظلال القرآن: (1/141-142)..

2 – الصيام

والصوم من العبادات الشريفة المحبوبة إلى الله عز وجل، وهو يعود صاحبه الصبر وقوة الإرادة والاستعلاء على شهوات النفس، فضلاً عن كونها عبادة يحبها الله عز وجل ويثيب عليها ثوابًا لا يضاهيه ثواب عبادة أخرى؛ كما جاء في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به»3(3) البخاري: (7492)، ومسلم: (1151)..

والمراد بالصوم صيام الفرض أولاً وإتقانه وحفظه من المبطلات، ثم صيام أيام النفل؛ وهي كثيرة منها صيام يومي الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال، ويوم عرفة، وعاشوراء؛ وكلها ورد في فضل صومها أحاديث صحيحة·

وأهمية الصوم في الإعداد للجهاد في أنه يقوي الإيمان ويزيد في التقوى التي تدفع العبد إلى امتثال الأوامر واجتناب المحرمات؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183] .

وقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين ورد ذكرهم في سورة التوبة وأنه سبحانه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم؛ ذكر من صفاتهم أنهم (السائحون) ، وقد ذكر المفسرون أن من معانيها: الصائمين·

والمحافظة على نوافل الصلاة والصوم تحتاج من العبد مجاهدة وصبرًا، ويقينًا بمنافعهما العظيمة في الدنيا والآخرة، وقناعة بأهمية هذا الزاد في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى· كما تحتاج إلى تعاون وتواص بين الدعاة، وأن تكون هناك البرامج العملية، والأجواء التربوية، والعيشة الجماعية التي تسهل على النفوس الأخذ بهذه العبادات ويكون فيها القدوات الصالحة التي تشد الناس بقولها وفعلها إلى هذه الأعمال وتحببها إلى النفوس·

3 – الأخذ بمحاسن الأخلاق وترك مساوئها

جاء الإسلام بمحاسن الأخلاق، وأرشد الناس إليها وحثهم على التحلي بها، ونفَّرَهم من مساوئ الأخلاق وقبحها وذم أهلها· وإذا كان المسلمون بعامة مأمورين بمحاسن الأخلاق والاتصاف بها ومنهيين عما يضادها، فإن الأمر بالأخذ بها يكون آكد وأوجب في حق الدعاة والمجاهدين لأنهم في موطن القدوة والصلاح والإصلاح· فضلاً عن أن الدعوة والجهاد يواجه أهلهما من المواقف والابتلاءات ما يحتاجون معه إلى الخلق الحسن والسلوك الجميل الذي يرغب الناس في الخير، ويدفع الداعية والمجاهد إلى الصبر والتحمل، والتحلي بالأخلاق الطيبة في تعامله وتصرفاته في المواقف؛ كما أن في اشتراك الدعاة والمجاهدين في برامج وأعمال مشتركة مجالاً لأن يظهر بينهم خلاف في وجهات النظر وتقدير المواقف· فإذا لم يكن هناك تربية أخلاقية وسلوكٌ إسلاميٌ قد تربى عليه المجاهد من قبل وإلا فقد تظهر بعض الأخلاق السيئة الكامنة، والتي لم تتهذب من قبل، مما قد ينشأ عنه مفاسد من الافتراق والتناحر والتشاجر كما نسمع أحيانًا هنا وهناك·

وقد وصف الله سبحانه نبيه – صلى الله عليه وسلم – وهو قدوة الدعاة والمجاهدين بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان خلقه القرآن»4(4) مسلم: (746).. وقال صلى الله عليه وسلم: «خياركم أحاسنكم أخلاقا»5(5) البخاري: (3559)، ومسلم: (2321).. وقال أيضا: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»6(6) أبو داود: (4798)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4013)، ورواه أحمد: (6/64).، والأحاديث في فضل حسن الخلق كثيرة جدًا والأخلاق الفاضلة كثيرة·

وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أصول الأخلاق الفاضلة وأنها تقوم على أربعة أركان فقال: (وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل. فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة. والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة. والشجاعة: تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال: “ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”. وهو حقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.

والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة)7(7) مدارج السالكين: (2/308) ط. الفقي..

والأخلاق الفاضلة كثيرة أذكر منها في هذا المقام بعض ما هو لصيق بحياة الدعاة والمجاهدين، وما يكونون فيه أحوج إلى التحلي بها من غيرهم· ومن ذلك:

(أ) الكرم والجود والبذل في سبيل الله

وهذه الأخلاق تنشأ من الشجاعة التي أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بأنها من أصول الأخلاق الحسنة؛ لأن الشجاعة تحمل صاحبها على البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته؛ بداية من بذل المال والجاه والعلم وغيرها من وجوه البذل والجود، ونهاية ببذل النفس والروح التي هي أعز وأغلى ما يملك الإنسان في سبيل الله عز وجل·

ولذلك فإن البخيل في العادة لا تجده إلا جبانًا خوارًا، والبخل والجبن قرينان، كما أن الكرم والشجاعة قرينان، وقد قرن النبي – صلى الله عليه وسلم – بين الجبن والبخل في دعائه حيث قال: «اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن»8(8) صحيح البخاري (6370) ..

ولذلك يجب مجاهدة النفس على بذل ما تحبه، وتعويدها على الجود والإيثار وحب الخير للمسلمين، وبذل الجاه لهم بالمساعدة والشفاعة والسعي في حوائجهم· وهذا أمر يحتاجه المجاهد في سبيل الله لأن بيئة الجهاد بيئة بذل فكانت بالضرورة بيئة إيثار وتكافل وتعاون بين المجاهدين، وأجواء الجهاد والمجاهدين لا مكان فيها لأهل الأثرة والشح والأنانية والبخل·

ومما يساعد على تقوية خلق الكرم والجود ما سبق ذكره في أعمال القلوب من الإخلاص والزهد في الدنيا والرغبة فيما أعد الله لعباده المجاهدين المنفقين في الآخرة من النعيم والرضوان، ومما يساعد على ذلك أيضًا العيش في بيئات أهل العلم والزهادة والجهاد؛ لأن في رؤية القدوات من أهل السخاء والشجاعة والجود وطول صحبتهم أثرًا في التربية على هذا الخلق الكريم وغيره من الأخلاق، كما أن فيها التواصي والتذكير والحث على هذه الأخلاق·

كما أن في قراءة سير أهل الشجاعة والجود والكرم من سلف هذه الأمة وعلى رأسها سيرة سيد المجاهدين وبطل الأبطال وأكرم الخلق محمد – صلى الله عليه وسلم – دافعًا ومحفزًا للاقتداء بهم واتباع آثارهم·

(ب) العفو والصفح وكظم الغيظ

وردت في الكتاب والسنة نصوص كثيرة تحث على هذا الخلق الكريم وتمدح أهله وتعدهم بالثواب الجزيل في الآخرة· قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:133 – 134] .

وبالتأمل في هذه الآية نجد أن الله عز وجل قد ذكر قبلها آيات في غزوة أحد والاستعداد لها؛ وذلك في قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [آل عمران:121] .

ثم بعد أن ذكر تسع آيات في هذه الغزوة انتقل السياق إلى نهي المؤمنين عن أكل الربا، ثم حثهم على المسارعة إلى الجنة بالإنفاق في سبيل الله، والعفو عن الناس وكظم الغيظ، ثم عاد السياق مرة أخرى إلى مواصلة الحديث عن غزوة أحد بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ … ) [آل عمران: من الآية137] فما معنى توسط هذه الآيات بين آيات الحديث عن غزوة أحد؟

يجيب عن ذلك سيد قطب رحمه الله تعالى بقوله: (··· وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة؛ فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في” أحد ” إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب· والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين· والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر؛ من المجتمع الربوي· وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك)9(9) في ظلال القرآن : (1/459)..

والأصل في العفو وكظم الغيظ وكف الأذى هو خلق الصبر الذي عدَّه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أحد الأركان الأربعة للأخلاق الفاضلة·

وإن التأكيد على إعداد المجاهدين وتربيتهم على هذا الخلق الكريم نابع من أن المجاهد في طريق الجهاد الطويل قد يتعرض لبعض الأذى والأخطاء من إخوانه المشاركين له في درب الجهاد، أو من إخوانه المسلمين الذين قد يؤذونه بكلام أو تخذيل أو غير ذلك؛ فإن لم يكن على مستوى من التربية الأخلاقية – ولاسيما خلق الحلم والعفو والصفح – فإنه قد لا يصبر على ما يرتكب في حقه من الأخطاء، وقد يتصرف بما لا يليق بالمسلم فضلاً عن المجاهد الذي يفترض فيه أنه قد استعلى على حظوظ نفسه وأغراضها، وجعل غضبه وانتقامه لله عز وجل وحده لا شريك له· ولا يخفى ما في الانتقام للنفس والانتصار لها من مفاسد على وحدة صف الدعاة والمجاهدين واجتماع كلمتهم، وأنه باب للإحن والأحقاد والشحناء.

وان التحمل والعفو وكظم الغيظ يحتاج إلى جهاد شديد مع النفس، وتعويدها على الصبر والإخلاص لله وحده؛ لأن الإخلاص من أسباب سلامة الصدر وخلو القلب من الغل والحقد؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم – وذكر منها – إخلاص العمل لله»10(10) مسند أحمد: (5/183)، والترغيب والترهيب: (1/23)، وعزاه الألباني إلى الشافعي في مسنده وصحح إسناده، انظر مشكاة المصابيح الحديث (229)..

كما أن في التربية الجماعية ورؤية القدوات من ذوي الحلم والأناة والعفو والصفح، والقراءة في سير المخلصين والعافين عن الناس الأثر الكبير في التحلي بهذه الأخلاق الفاضلة·

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (…. وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام)11(11) مدارج السالكين: (2/319)..

(ج) الأمانة وحفظ العهد والوعد

لقد ذكر الله عز وجل أن من صفات المؤمنين المفلحين محافظتهم على أماناتهم، ورعايتهم لعهودهم؛ فقال في صدر سورة”  المؤمنون”: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:1-8] .

وأمر بتأدية الأمانة في قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء:58] .

ونهى عن خيانة الأمانة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27] .

والأمانة إذا أطلقت فالمراد منها القيام بجميع التكاليف التي كلف الله عز وجل بها عباده؛ سواء ما يتعلق منها بحقوق الله تعالى أو ما يتعلق منها بحقوق الخلق وهذا هو المعنى الوارد في آية الأحزاب في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب:72] .

وأما الأمانة بمعناها الخاص فالمراد منها جميع ما يُستَأمن عليه العبد من أموال أو أسرار أو مسؤوليات محددة أو عهود ومواثيق، أو غير ذلك من الأمانات؛ وذلك بحفظها وعدم الاعتداء عليها، أو التفريط فيها، أو الغش فيها وعدم إتقانها·

وحفظ الأمانة من الأخلاق الكريمة والمروءات النبيلة التي تدل على تقوى صاحبها وخوفه من الله وعفته ووفائه· ولذلك وجب الاهتمام بتقوية هذا الخلق في التربية بعامة، وفي الإعداد للجهاد بصفة خاصة؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من مواقف تتطلب منه إبرام عهد وعقد للقيام بمهام معينة في الجهاد، أو يستودع بعض الأسرار التي تتعلق بالجهاد، أو توكل إليه بعض أموال الجهاد قبضًا وإنفاقًا وحفظًا، وغير ذلك من المهمات التي تحتاج إليها الدعوة ويتطلبها الجهاد في سبيل الله·

كما يدخل في الأمانة تولية الأعمال للأكفاء وإسنادها إلى أهلها؛ فالولايات من الأمانات، وقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى «عن أبي ذر قال: قلتُ: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة»12(12) صحيح مسلم (1825) . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» قيل وكيف إضاعتها. فقال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله»13(13) البخاري: (59)..

ونحن اليوم في زمن ضاعت فيه الأمانات، وضعفت في قلوب كثير من الناس حتى عز المتصفون بها· لذا وجب التركيز عليها في التربية والإعداد للجهاد، واستخدام الوسائل الشرعية لتقويتها؛ وذلك بتقوية أعمال القلوب السابق ذكرها من الإخلاص والزهد في الدنيا وأعراضها وأموالها ورئاساتها، وإنشاء هم الآخرة في النفس والخوف من الحساب·

ومما يدل على قلة الأمناء في هذا الزمان حديث حذيفة رضي الله عنه في الأمانة، والذي يشتكي فيه من نقص الأمانة ومنه قوله: «ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بایعت؛ لئن كان مسلا ليردنه علي دينه، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه. وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا»14(14) البخاري: (6497)، ومسلم: (143).. وقوله بایعت: من البيع والشراء؛ وهو يشير إلى رفع الأمانة ونقصها في الناس. فإذا كان حذيفة رضي الله عنه يشكو من ندرة الأمناء في زمانه فكيف بزماننا اليوم؟! والمقصود من ذكر حديث حذيفة هو قوله: (وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا) وفيه الإشارة إلى تحري الأمانة في من يعاملون في بيع أو شراء أو يراد ائتمانهم على الأمانات.

الهوامش

(1) سنن أبي داود (4/ 296) (4985) صحيح.

(2) في ظلال القرآن: (1/141-142).

(3) البخاري: (7492)، ومسلم: (1151).

(4) مسلم: (746).

(5) البخاري: (3559)، ومسلم: (2321).

(6) أبو داود: (4798)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4013)، ورواه أحمد: (6/64).

(7) مدارج السالكين: (2/308) ط. الفقي.

(8) صحيح البخاري (6370) .

(9) في ظلال القرآن : (1/459).

(10) مسند أحمد: (5/183)، والترغيب والترهيب: (1/23)، وعزاه الألباني إلى الشافعي في مسنده وصحح إسناده، انظر مشكاة المصابيح الحديث (229).

(11) مدارج السالكين: (2/319).

(12) صحيح مسلم (1825) .

(13) البخاري: (59).

(14) البخاري: (6497)، ومسلم: (143).

اقرأ أيضا

مجاهدة النفس لتعلم الهدى ودين الحق

المفهوم الشامل للإعداد للجهاد

مجاهدة النفس على العمل: (المحبة والإخلاص)

 

التعليقات غير متاحة