حقيقة الإسلام لا تثبت لعبد إلا كان إذا كان استسلاما خالصا ومطلقا، وهذا هو دين رب العالمين، فلا يعارَض بشبهة ولا شهوة. وترسيخ هذا في النفوس صلاح لها وللمجتمع.

مقدمة

إن من تأمل كتاب الله عز وجل، وتدبر آياته البينات؛ وجد موضوعها الأساس هو توحيد الله، والأمر بعبادته وحده، وذكر ما أعدّه الله عز وجل للموحدين من عباده من النعيم المقيم، وما أعده للمشركين أعداء توحيده من النكال والعذاب الأليم، وضمَّنه ما شرعه لعباده من الشرع الحكيم، الذي يحققون به عبادة الله عز وجل، واستسلامهم له، وإسلامهم لحكمه.

وهذا هو حقيقة دين الإسلام، الذي هو دين الرسل جميعا، والذين دعوا إلى إسلام الوجه الله عز وجل بعبادته وحده، والتسليم لأمره وحكمه، حيث إن العبودية الصادقة لا تتحقق إلا بالإسلام والتسليم والانقياد لله رب العالمين.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يَحْكِ الله سبحانه عن أمة صدّقت نبيّها، وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحِكمة فيما أمرها به ونهاها عنه، وبلّغها عن ربها..”. (1الصواعق المرسلة ت: علي الدخيل الله، دار العاصمة – الرياض. (4/ 1560))

دواعي الحديث عن حقيقة الإسلام والتسليم

بيان معنى الإسلام لله

بیان معنى الإسلام الحقيقي لله تعالى، الذي بعث به الأنبياء والرسل، وجعله الغاية من خلق الثقلين، وأنه ليس مجرد الانتساب للإسلام والهوية الإسلامية، أو فعْل بعض الواجبات وترك بعض المحرمات فحسب، وإنما هو إسلام النفس لله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص التوحيد له سبحانه، وإفراده بالمحبة والخوف والرجاء، وسلامة القلب من كل شبهة تعارض الخبر، ومن كل شهوة تعارض الشرع والأمر، ومن كل اعتراض يعارض القضاء والقدر. وبيان أن هذه هي مواصفات القلب السليم المستسلم لربه سبحانه الراجي لرضوانه، وبيان أن سلامة القلب ليست مجرد ما يفهمه كثير من الناس بأنه القلب السالم من الحقد والحسد والغل، حيث يقْصُرون وصفه على ذلك فحسب، بل هو أكبر وأشمل من هذا الفهم القاصر بكثير.

إن بيان هذا الأصل العظيم لَمن أوجب الواجبات وأهم المهمات، فعليه يقوم بناء الدين، وبه تتحقق سعادة الدنيا والآخرة. وإنه لَمن أكبر المصائب على العبد أن يخرج من هذه الدنيا وهو جاهل بهذا الأصل العظيم.

وما أجمل قول من قال:

“ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام”.

لذا فإن معرفة هذا الأصل والتربية عليه لمن أعظم الواجبات وأهم الضروريات، فحريٌّ بالعبد أن يتفقد هذا الأصل في نفسه وأهله وإخوانه، ويربيهم على التمسك به، فإنه العاصم من الفتن بإذن الله تعالى.

ضعف الوازع وشدة الجرأة على دين الله

لمّا ظهر في زماننا اليوم من قلة الوازع الديني، وذلك بضعف تعظيم الله عز وجل في النفوس، وضعف الخوف منه وتوقيره والحياء منه، مما كان له الأثر في الجرأة على المحرمات والاستهانة بالواجبات، والجرأة على النصوص الشرعية المحكمة، وردها وعدم تعظيمها.. حيث أصبحنا نرى تطفل كثير من الكُتّاب والمثقفين الجاهلين بعلوم الشريعة، يتعاملون بأهوائهم مع العلم الشرعي ونصوص الكتاب والسنة كأي علم إنساني آخر ليس لها خصوصية التعظيم والتوقير، فالكل له الحق في الخوض في القضايا الشرعية، وانتقاد المناهج الشرعية وعلماء الشريعة، بحجة أن الدين ليس حكرا على طائفة..!!

أو بقولهم: لا تُقحموا الدين في كل شيء. وقد تأثر بطروحاتهم هذه عدد ليس بالقليل من الناس، في الوقت الذي نرى فيه هؤلاء المفتونين يعظمون أنظمة البشر الجاهلية في الدول العلمانية كما يعظّمون القوانين الدولية الطاغوتية أو ما يسمونه الشرعية الدولية، وينكرون على من خالفها واستهان بها.

وكل ذلك إنما نشأ من الهوى وضعف المعرفة بالله عز وجل فاطر السموات والأرض وبمعاني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، التي تُثمر في النفوس التعظيم لله عز وجل والتسليم له وقبول شرعه والانقياد له؛ محبةً ويقينا وخوفا ورجاء وقبولا واستسلاما. لذا فإن التربية على هذا الأصل وإشاعة فهمه في الأمة لمن أكبر الأسباب في قوة الإيمان والانقياد، والطمأنينة والنصر على الأعداء.

إثارة الشبهات ووسائل التواصل

ما ظهر في زماننا اليوم من ثورة هائلة في وسائل الإعلام والتواصل والاتصالات، واستخدام هذه الوسائل من قبل أعداء هذا الدين، من کفارٍ ومنافقين في إثارة الشبهات والشكوك والاعتراضات، على ثوابت هذا الدين وأصوله وأحكامه، فتأسست من أجل ذلك مواقع إلكترونية وقنوات فضائية ودور نشر، تمكر في الليل والنهار، ووافقت عند بعض أبناء المسلمين قلوبا خاوية من العلم بالشرع والتقْوی آلت ببعضهم إلى الحيرة والشك، عِياذا بالله تعالى؛ فلا جرم كانت الحاجة بل الضرورة ماسة لرد الناس إلى الفهم الصحيح للإسلام، وأنه قائم على التسليم لله رب الناس، ملك الناس، إله الناس، العليم الحكيم، اللطيف الخبير، العظيم الكبير، العلي الأعلى، الرحمن الرحيم، القوي العزيز، له الأسماء الحُسنى.

وهنا ينبغي التأكيد على أن رد الشبهات حول هذا الدين وأحكامه لا يكون بالوقوف عند الشبهة وردها مجردة، وإنما يبدأ بربط القلوب بربها والاستسلام له، والتسليم لأمره وخبره وشرعه، وما لم تتمكن هذه الأحوال من القلوب فلن يجدي مناقشة الشبهات والرد عليها مجردة عن هذا الأصل العظيم.

فإذا تمكّن في القلوب التسليمُ الحق لله عز وجل، وانقادت القلوب لبارئها، وقوي يقينها بربها، واستسلمت لأخباره فكلها صدق، ولأحكامه فكلها عدل وفضل ورحمة، فمتى ما اتصفت القلوب بهذا التسليم لم يكن للشبهات ولا للشهوات عليها طريق، وإن وردت فإنها ترد بهذا التسليم، وبيان حكمة الله عز وجل فيما يشرع، ومالم تتبين الحكمة فيه فلقصور في العقول، وحينئذ يتلقی بالتصديق والقبول والتسليم.

علاج أمراض العقول والنفوس

إن في طرح هذا الموضوع المهم ورد الناس إليه علاج لكثير من الأمراض العقلية والنفسية، التي كثرت في الأزمنة المتأخرة؛ كالقلق والحيرة والاضطراب والاكتئاب، والتي مرد كثير منها إلى الاعتراضات التي تكون في القلوب، سواء على أخبار الله عز وجل الغيبية، أو على أحكامه الشرعية، أو على أقداره المؤلمة. ولا سبيل لعلاجها إلا بمعرفة الله عز وجل حق المعرفة، وتعظيمه وإجلاله، والتعبد له سبحانه بأسمائه الحسنى، والتسليم للخالق العليم الحكيم، الذي هو على كل شيء قدير، يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علام الغيوب، وبهذا التسليم والتفويض تحصل الراحة والسكينة والطمأنينة.

إصلاح النفوس بأصل “التسليم”

إن في طرح هذا الأصل العظيم؛ “التسليم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم” وإشاعته في الناس على مختلف شرائحهم سيكون له الأثر الكبير بإذن الله تعالى في النفوس، وذلك بتحصينها وتخفيف أثر الشبهات وتقليل ضررها، لأن هذا المفهوم ألا وهو “التسليم” لله عز وجل أمر فِطري، سرعان ما يجد المسلم نفسه تتقبله وتنقاد له، كما أنه عام التأثير، ينتفع به كل مسلم، رجلا كان أم امرأة، صغيرا أم كبيرا، عالما أم غير عالم.

کما يتسم هذا المفهوم بأثره العميق، لأنه لا يعالج مسألة جزئية، بل يتجه إلى إصلاح عقل الإنسان وتصوره وإزالة الركام عن فطرته.

وإن مما يدل عل أهمية إشاعة هذا الأصل وقوة تأثيره اشمئزازُ ونفور أصحاب المناهج المنحرفة المعترضة على شرع الله عز وجل من هذا الطرح، وإشاعته والنيْل من أهله، لأن الدعوة إلى التسليم لله عز وجل تلقمهم أحجارا، وتفسد عليهم دعوتهم واعتراضاتهم.

مواجهة أصوات المنافقين

ظهور أقلام وأصوات لبعض المنافقين، الذين يسمون أنفسهم بالليبراليين أو العلمانيين، ومن تأثر بهم ممن يسمون بالعصرانيين والتنويريين، تدعو إلى فصل الدين عن الحياة، وأن نصوص الوحي لم تعد صالحة لإدارة شئون الحياة المعاصرة إلا بقراءة جديدة، ويسمِى من يدعو إلى التسليم للكتاب والسنة وتحكيمها في جميع شئون الحياة بأصحاب الإسلام السياسي، وتكيل لهم شتَّى التهم المنفرة بوصفهم بالمتطرفين والإرهابيين والأصوليين.

فكان لا بد من التصدي لهذه الدعوات الخبيثة. وذلك بالطرح المكثف لحقيقة الإسلام والتسليم لله تعالى ولشرعه؛ حيث إن مثل هذه الطروحات تعد من أقوى ما تواجَه به هذه الدعوات الخبيثة. وأخشى ما يخشاه أصحاب هذه الدعوات أن يواجهوا بهذا السيف البتار؛ سيف التسليم والإسلام لله تعالى، الذي هو ركن التوحيد والعبودية لله عز وجل.

والعجيب أن هؤلاء الذين يتجرأون على شريعة رب السموات والأرض، ويعملون جاهدين على إقصائها، نجدهم يسلّمون للأنظمة البشرية الكفرية، التي تحكم بالشريعة الجاهلية في الحكومات العلمانية ويعظّمونها، بل يسلمون ويقدّسون الأحكام الدولية، التي يسمونها بالشرعية الدولية، والويل كل الويل لمن يخالفها، ولم يستسلم لها..!!

الأثر العملي للتسليم

بيان أثر التسليم في النفوس، وذلك في تضحيتها بالمال والنفس في سبيل الله، وذلك كما ظهر في إسلام إبراهيم عليه السلام بتقديم نفسه للنيران وابنه للقربان.

مواجهة الترخص استجابة لضغوط الشبهات

تأثر بعض المنتسبين للدعوة والعلم بضغوط أهل الشبهات وضغوط الواقع، وأخذهم بالرخص الواهية، وتتبع شذوذات بعض العلماء في ترك العمل بالنصوص الشرعية الصحيحة، بحجة التيسير ورفع المشقة، ولا علاج لمثل هذه الظاهرة إلا بالتذكير بهذا الأصل العظيم، ألا وهو التسليم لأحكام الله، وتعظيم نصوص الوحيين، وإن خالفت أهواء الناس.

إسقاط التستر بالثابت والمتغير وغيره من الاصطلاحات

كثرة ما يطرحه من يسمون أنفسهم بالعصرانيين أو التنويريين، متأثرين بالمنافقين العلمانيين، بما يسمى بالثابت والمتغير، وما يسمى بتجديد الخطاب الديني، أو ما ينادون به من إعادة لقراءة نصوص الوحيين، حسب متطلبات العصر ـ زعموا ـ حتى أصبح حِمی الشريعة ونصوصها حِمىً مستباحا لكل جاهل أو صاحب هوى، وذلك بضعف تعظيم الله عز وجل وتعظيم أخبار الله وأوامره ونواهيه في نفوسهم، فكان لزاما على المعظِمين لنصوص الوحيين أن يقفوا لهؤلاء بالمرصاد، وأن يعظوهم، ويحذّروا الناس من باطلهم، وأن يبينوا لهم أن منشأ كل هذه المواقف المريضة، إنما هو من ضعف التسليم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهوان نصوص الكتاب والسنة في نفوسهم.

تجريد حدود التسليم

العلم بحدود هذا التسليم وأحكامه، فلا يدخل في التسليم ما ليس منه، فيكون سببا لإضعاف أصل التسليم، كما هو شأن المنهج الصوفي الذي يلغي العقل، ويقدم الذوق والوجد على النصوص الشرعية، ويُدخلون في التسليم ما ليس منه من الخرافات والخزعبلات، التي لم يدل عليها دليل شرعي، ويرفضها العقل الصریح، بحجة التسليم..!

خاتمة

ما سعد امرؤ ولا استقام حاله إلا بالاستسلام لربه وترك منازعة العقل والشهوة والهوى، والتسليم المطلق لله تعالى إيمانا ويقينا بعلمه وحكمته، وعدله ورحمته.

ولا تستقيم المجتمعات ـ وخصوصا مجتمعاتنا اليوم ـ إلا بتوطيد هذا الأصل وترسيخه؛ حتى لا يجترئ سفيه على حِمى دين الله، ولا ترتاب النفوس لغثٍّ من الشبهات تُلقى ولا رديء من الشهوات تلقاه.

………………………..

الهوامش:

  1. الصواعق المرسلة ت: علي الدخيل الله، دار العاصمة – الرياض. (4/ 1560).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة