ينتفش الباطل حينا فيؤذي الخلق والحياة والأحياء ويظهر للناس قبحه، ويذوقون ثمرته البشعة. ويأتي الحق ليُظهر عوار الباطل ويُبطل حجته ويواجهه مواجهة مكافئة في جميع مجالات وجوده؛ فيواجه حجته الداحضة بالحجة الحق، ويواجه جنده المخذولين بجند الله الظاهرين.

المحتويات

بعض الآيات الدالة على حتمية الصراع بين الحق والباطل والحكمة من ذلك

الآية الأولى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: 112].

يقول الإمام ابن کثیر رحمه الله عند هذه الآية: (يقول تعالى: وكما جعلنا لك – يا محمد – أعداء يخالفونك، ويعادونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يهيبنك ذلك، كما قال تعالى: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ) [آل عمران:184]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) [الأنعام: 34]، وقال تعالى: (مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) [فصلت:43]، وقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [الفرقان:31]. وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي». وقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) أي: وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء)1(1) «تفسير ابن كثير» (3/318، 319)، ط دار طيبة، تحقیق سامي السلامة ..

الصراع مع الباطل يجلي الحق ويظهره

ويقول الشيخ السعدي في تفسير الآية: (يقول الله – مسليا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وکما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك ويحاربونك، ويحسدونك، فهذه سنتنا أن نجعل لكل نبی نرسله إلى الخلق أعداء من شياطين الإنس والجن يقومون بضد ما جاءت به الرسل.

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) أي: يزين بعضهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل، ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة، ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات المموهة، فيعتقدون الحق باطلا والباطل حقا، ولهذا قال تعالى: (وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ) أي: ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف، (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة، يحملهم على ذلك، (وَلِيَرْضَوْهُ) بعد أن يصغوا إليه، فيصغون إليه أولا فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة رضوه، وزین في قلوبهم، وصار عقيدة راسخة، وصفة لازمة، ثم ينتج من ذلك أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ما هم مقترفون، أي: يأتون من الكذب بالقول والفعل، ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة…. ومن حكمة الله تعالى في جعله للأنبياء أعداء، وللباطل أنصارا قائمين بالدعوة إليه، أن يحصل لعباده الابتلاء والامتحان، ليتميز الصادق من الكاذب، والعاقل من الجاهل، والبصير من الأعمى.

ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق، وتوضيحا له، فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه. فإنه -حينئذ- يتبين من أدلة الحق، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته، ومن فساد الباطل وبطلانه ، ما هو أكبر المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون)2(2) «تفسير السعدي» (1/269-270)..

مشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ

ويقول سید قطب رحمه الله عن هذه الآية: (والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى؛ ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة.. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة:

إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون.. شياطين الإنس والجن.. تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة.. هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه.. خطة مقررة فيها وسائلها.. (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا).. يمد بعضهم بعضا بوسائل الخداع والغواية؛ وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله.. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم؛ ويعين بعضهم بعضا على الضلال أيضا! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبدا. ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلا!

ولكن هذا الكيد كله ليس طليقا.. إنه محاط به بمشيئة الله وقدره.. لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره. ومن هنا يبدو هذا الكيد – على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه – مقيدا مغلولا! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط. ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع، كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم.. كلا! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله. وقدرتهم محدودة بقدر الله. وما يضرون أولياء الله بشيء إلا ما أراده الله – في حدود الابتلاء – ومرد الأمر كله إلى الله.

ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق؛ ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها.. ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أو لا يريده الشياطين! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم. أما عداوة الشياطين، وكيد الشياطين، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ))3(3) «في ظلال القرآن» (3/ 128)..

الآية الثانية: (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ …) الآية [محمد:4].

يقول الإمام الطبري رحمه الله عند هذه الآية: (.. ولو يشاء ربکم ويريد لانتصر من هؤلاء المشركين، الذين بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه لهم عاجلة، وكفاكم ذلك كله، ولكنه تعالى ذكره کره الانتصار منهم، وعقوبتهم عاجلا إلا بأيديكم أيها المؤمنون (لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) يقول: ليختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منکم والصابرين، ويبلوهم بکم، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم، ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأیدیکم من شاء منهم، حتى ينيب إلى الحق)4(4) «تفسير الطبري» (22/158)..

بعض الحكم من البلاء

ويقول سيد قطب رحمه عن هذه الآية: (إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين، الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء، إن هؤلاء جميعا حفنة من الخلق، تعيش على ظهر هذا الكوكب الصغير المسمى بالأرض.

فلا يبلغ هؤلاء ومن ورائهم من الأتباع، بل لا يبلغ أهل الأرض كلها، أن يكونوا نمالا صغيرة. لا بل إنهم لا يبلغون أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات. لا بل إنهم لا يبلغون شيئا أصلا حين يقفون أمام قوة الله.

إنما يتخذ الله المؤمنين – حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم- إنما يتخذهم سبحانه سببا من الأسباب الظاهرة . ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة. كما انتصر من بعضهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم. بل لانتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير. وهو يبتليهم، ويربيهم، ويصلحهم، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار.

يريد ليبتليهم، وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات. فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به، حتى تجاهد في سبيله، فتقتل وتقتل، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه، ولا تستطيع الحياة بدونه، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله.

ويريد ليربيهم، فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية، مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه. ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف، ويكمل كل نقص، وينفي كل زغل ودخل، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة، وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد، والتطلع إلى وجه الله ورضاه، فترجح هذه وتشيل تلك، ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت، وأنها تربت فعرفت، وأنها لا تندفع بلا وعي، ولكنها تقدر وتختار.

ویرید ليصلحهم، ففي معاناة الجهاد في سبيل الله، والتعرض للموت في كل جولة، ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه. وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته، سواء سلم منه أو لاقاه، والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس لحظات الخطر شيئا يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام! وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح.

ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها؛ وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله. ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه.. وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد . ويصبح عزيزة على هذه الأيدي أن تسلم راية القيادة للكفر والضلال والفساد؛ وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله ! ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن أراد الله بهم الحسنی؛ لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب)5(5) «في ظلال القرآن» (6/ 440، 441)..

الآية الثالثة: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان:31].

ويقول سید قطب عن هذه الآية: (ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها؛ ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها، وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعویق، هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوی الزائفة؛ وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم؛ فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة، التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة، تبتغي بها وجه الله تعالى.

ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرزها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلية والفتنة. ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودا، فلا يكافح ويناضل ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع، وأعراض الحياة الدنيا، بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها، ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا، وأشدهم إيمانا، وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس.. عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوی الباطل. وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء، وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، واجتازوا امتحانها وبلاءها، أولئك هم الأمناء عليها، الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته . وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين، وقد علمتهم التجارب والابتلاءات، كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور، وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة، فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء..

وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي، فدعوة الحق إنها تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية، فساد في القلوب، وفساد في النظم، وفساد في الأوضاع، ووراء هذا الفساد یکمن المجرمون، الذي ينشئون الفساد من ناحية، ويستغلونه من ناحية، والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء، والذين يجدون فيه سندا للقيم الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها.. فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعا عن وجودهم، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه. وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن.

وكذلك المجرمون.. فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق، يستميتون في كفاحها. وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية، لأنها تسير مع خط الحياة، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله .. وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)6(6) « في ظلال القرآن » (5/ 215، 216)..

الآية الرابعة: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].

 يقول السعدي رحمه الله عن هذه الآية: (فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لاستولى الكفار على المسلمين فخربوا معابدهم وفتنوهم عن دينهم، فدل هذا أن الجهاد مشروع لأجل دفع الصائل والمؤذي ومقصود لغيره. ودل ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله وعمرت مساجدها، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها من فضائل المجاهدين وببركتهم دفع الله عنها الكافرين. قال الله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:251])7(7) «تفسير السعدي» (1/ 539). .

ويقول سید قطب رحمه الله: (إن كل الأماكن التي يعبد فيها الله تعالى معرضة للهدم رغم قدسيتها ولا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها – کما جاء في سورة الحج- ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرماتها ويتعدون على أهلها.

فالباطل قبيح لا يكف ولا يقف عن العدوان، إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول، ولا يكفي الحق أنه الحق ليوقف عدوان الباطل، بل لابد من قوة تحميه وتدفع عنه، وهي سنة ثابتة وقاعدة كلية لا تتبدل مادام الإنسان هو الإنسان)8(8) «في ظلال القرآن» (4/2425)..

والمدافعة بالقتال يمثل الصورة الأخيرة للتدافع التي تأتي بعد سلسلة من المدافعات، إذ يحتمل التدافع عدة معان وصورا متعددة، فالدعوة والحوار مع أهل الباطل مدافعة، والبيان وإقامة الحجة والإغلاظ في القول مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، والصراع مع الباطل وأهله في ساحات القتال مدافعة، وكل هذه الصور مشروعة، وسنة التدافع مترتبة على سنة الإعداد بكل أنواع القوة لمصارعة الباطل وأهله.

الآية الخامسة: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام:123] .

يقول سيد قطب رحمه الله عن هذه الآية: (إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية -وهي المدينة الكبيرة والعاصمة – نفر من أكابر المجرمين فيها، يقفون موقف العداء من دين الله، ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس، ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس، ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب، ويرد هذا كله إلى الله وحده .. رب الناس.. ملك الناس.. إله الناس.

إنها سنة من أصل الفطرة.. أن يرسل الله رسله بالحق.. بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية. فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله . ثم يمكرون مكرهم في القرى، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى، وفي نشر الباطل والضلال، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي.

إنها سنة جارية، ومعركة محتومة، لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله – وهي رد الحاكمية كلها لله – وبين أطماع المجرمين في القرى. بل بين وجودهم أصلا.. معركة لا مفر للنبي أن يخوضها، فهو لا يملك أن يتقيها، ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها.. والله سبحانه يطمئن أولياءه .. إن كيد أكابر المجرمين – مها ضخم واستطال- لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف. إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليهم فيها، وهو حسبهم، وهو يرد على الكائدین کیدهم: (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)9(9) «في ظلال القرآن» (3/ 140)..

الهوامش

(1) «تفسير ابن كثير» (3/318، 319)، ط دار طيبة، تحقیق سامي السلامة .

(2) «تفسير السعدي» (1/269-270).

(3) «في ظلال القرآن» (3/ 128).

(4) «تفسير الطبري» (22/158).

(5) «في ظلال القرآن» (6/ 440، 441).

(6) « في ظلال القرآن » (5/ 215، 216).

(7) «تفسير السعدي» (1/ 539).

(8) «في ظلال القرآن» (4/2425).

(9) «في ظلال القرآن» (3/ 140).

اقرأ أيضا

سُنة الله في المدافعة بين الحق والباطل

سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل

سُنة “الإملاء” و”الاستدراج” للكافرين والظالمين

 

التعليقات غير متاحة