ينتشر في زماننا هذا ما يطلق عليه: البرامج الحوارية، أو: برامج التوك شو، والتي تروج لما يطلق عليه: الرأي والرأي الآخر، ويعنون بذلك أن لكل شخص قناعاته، ولا يضير عندهم هذا الاختلاف -إلا إذا كان رأيًا إسلاميًّا لا يعجبهم؛ فحينها ينقضُّون على قاعدتـهم هذه متهمين من يتبنى ذلك بالإرهاب والتطرف والتخلف-..
مبدأ احترام القناعات عند الآخرين
مبدأ احترام قناعات الآخرين مهما كانت هو مما يؤصله اللادينيون، فهم يدعون إلى حق الإنسان في اختيار مبادئه وعقائده وقناعاته والتعبير عنها بحرية دون خوف من الملاحقة أو المحاكمة أو التخوين..
وهذه النظرة تشمل جميع البشر بما فيهم المتدينين..
ومن الأمثلة على ذلك:
دفاع الرابطة العالمية للادينيين والملحدين (IBKA) عن حق المسلمين ببناء مسجد في مدينة كولن الألمانية أمام تصاعد الأصوات المعارضة لهذا البناء…
وأيضًا: وَصفُ اللادينيين لمقترح اليمين المتطرف بمنع بناء المآذن في سويسرا بأنه قرار رجعي يعمل على زيادة صدام الحضارات، ويتنكر للمطالبة العالمية بحياة أفضل في القرن الحادي والعشرين… ذلك مع استمرارهم في إدانة ما يصفونه بانتهاك الإسلام السياسي لحقوق الإنسان كالتمييز مثلًا ضد المرتدين والمفكرين الأحرار وتهديدهم بالقتل…
موقف الإسلام من اختلاف القناعات
وأما في ديننا اختلاف القناعات لا إشكال فيه إذا كان مبنيًّا على أسس علمية صحيحة فيما يسع فيه الخلاف..
وأما ما لا يسع فيه الخلاف -وهي الجمل الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع- فقد قال الله تعالى في شأنها: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:36].
يقول الطبري: يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدي والرشاد1(1) [جامع البيان (20/271)]..
أين تتوقف حرية الرأي في الإسلام؟
فأصول التوحيد وأصول العبادات والحلال والحرام والحدود ونحو ذلك ليست خاضعة في دين الإسلام لحرية الرأي، وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على عروة عندما احتج بفعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيما ظنه أنهما فعلا ما يخالف فعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في حج التمتع؛ قال عروة لابن عباس: ألا تتقي الله، ترخص في المتعة؟ فقال ابن عباس: سل أمك يا عُريَّة. فقال عروة: أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا. فقال ابن عباس: “والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، نحدثكم عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتحدثونا عن أبي بكر وعمر…”2(2) [رواه عبد الرزاق (10066) وغيره بسند صحيح]..
وعن سالم قال: سُئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها، فقيل له: إنك تخالف أباك. قال: إن أبي لم يقل الذي تقولون، إنما قال: أفردوا العمرة من الحج، أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدي، وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج، فجعلتموها أنتم حرامًا وعاقبتم الناس عليها وقد أحلها الله عزَّ وجلَّ وعمل بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. قال: فإذا أكثروا عليه قال: “أفكتاب الله عزَّ وجلَّ أحق أن يتبع أم عمر”3(3) [رواه البيهقي (9135) بسند حسن]..
قال ابن تيمية -تعليقًا على هاتين الروايتين-: … مع علم الناس أنَّ أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس. ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في أمته، وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[التوبة:31]4(4) [مجموع الفتاوى (20/216)]..
مع الانتباه إلى أن ابن عباس وابن عمر لم يكونا أصحاب رأي في هذه المسألة، وإنما كانا أصحاب رواية، وأصحاب الرواية إذا كانت صحيحة فليس علينا إلا اتباع روايتهم، بخلاف أصحاب الرأي؛ فإنهم إما أن يؤيدوا رأيهم بالدليل وإما أن يظل رأيهم مردودًا أو متوقَّف فيه.
الرويبضة.. الرأي والرأي الآخر
وانتشار ظاهرة الرأي والرأي الآخر بهذه الصورة قد أخبر عنه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنها ستأتي على الناس سِنُون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة» قيل: وما الرويبضة؟ قال: «السفيه يتكلم في أمر العامة» 5(5) [رواه أحمد (7912) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (1887)]..
وها نحن نرى الناس يُبرزون الإعلاميين ويصدقونهم، مع أنَّ كثيرًا منهم جهلة كذبة، والعكس تمامًا يفعلونه مع أهل العلم..
الإسلام يرفض المراء ويتوعد الـمُمارين
وحتى فيما يسع فيه الاختلاف بين أهل العلم فعلينا ترك المحاورة إذا وصلت لدرجة المراء -وإن كان المحاور على حق- فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» 6(6) [رواه أبو داود (4802) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (273)]..
ما ينبغي أن يتحلى به المتحاورون
وجاء في موسوعة نضرة النعيم -في بيان ما ينبغي أن يتحلى به المتحاورون-:
وإذا كان الإسلام قد رفض المراء وتوعد الـمُمارين فإنه أمر بالحوار سبيلًا للوصول إلى الحق وتبين الرأي السديد؛ لأن ذلك كما يقول الإمام الغزالي: تعاون على طلب الحق -وهو من الدين- شريطة أن يتحلَّى المتحاورون بما يلي:
- ألَّا يشتغل به -وهو من فروض الكفايات- من لم يتفرغ من فروض الأعيان.
- ألَّا يرى المناظر (أو المحاور) فرض كفاية آخر أهم منه في وقته ومكانه.
- أن يكون المحاور أو المناظر يفتي برأيه لا بمذهب فلان أو فلان.
- أن يكون الحوار أو المناظرة في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما تشاوروا إلا فيما تجدد من الوقائع أو ما يغلب وقوعه.
- أن تكون المناظرة (الحوار) في الخلوة أحب إليه وأهم من المحافل وبين أظهر الأكابر والسلاطين؛ لأن في حضور الجمع ما يحرك دواعي الرياء ويوجب الحرص على أن ينصر كل واحد نفسه محقًّا كان أو مبطلًا.
- أن يكون الحوار في طلب الحق، وذلك كناشد ضالة لا يُفرِّق بين أن تظهر الضالة على يديه أو على يد من يعاونه.
- أن يرى محاوره معينًا له لا خصمًا، وأن يشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق.
- ألَّا يمنع مناظره أو محاوره من الانتقال من حجة إلى حجة ومن دليل إلى دليل، ومَن تفحَّص مشاورات الصحابة رضوان الله عليهم ومفاوضات السلف وجدها من هذا الجنس، إذ كانوا يذكرون كل ما يخطر لهم وينظرون فيه.
- ألَّا يناظر أو يحاور إلا من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم7(7) [نضرة النعيم (2/151- 151)]..
فلو طبقنا هذه الأسس في حواراتنا لاستفاد الناس، ولـمَا أضاعوا نفائس أوقاتهم في متابعة جهلة متعالمين..
اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
الهوامش
(1) [جامع البيان (20/271)].
(2) [رواه عبد الرزاق (10066) وغيره بسند صحيح].
(3) [رواه البيهقي (9135) بسند حسن].
(4) [مجموع الفتاوى (20/216)].
(5) [رواه أحمد (7912) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (1887)].
(6) [رواه أبو داود (4802) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (273)].
(7) [نضرة النعيم (2/151- 151)].
اقرأ أيضا