إنّ بعثته صلى الله عليه وسلم وشخصه العظيم، وتعاليمه السامية الخالدة أفاضت على الإنسانيّة مسحة جديدة من الحياة والنشاط، وكانت السبب المباشر في شفائها من أسقامها وعلّاتها، وفي حلّ معضلاتها، ونهاية آلامها وأحزانها، وهطول أمطار الرحمة والبركة، واليمن والسعادة، والخير والفلاح على أرضها المجدبة القاحلة.

1- إعلان فريد في تاريخ الرسالات والديانات

قال الله تعالى مخاطبا لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء: 107] ، هذا إعلان فريد من نوعه، جاء في كتاب خالد قدّر الله سبحانه وتعالى له أن يتلى في كلّ مكان وزمان، ويبلغ عدد قرائه ملايين الملايين، وقال عنه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر: 9] .

إنّ سعة هذا الإعلان، وإطاره الكبير، ومساحته بحساب الزمان والمكان، تجعلان هذا الإعلان خارقا للعادة، لا يمكن أن يمرّ به الإنسان الواعي مرورا عابرا سريعا، فإنّ مساحته الزمنيّة تحوي جميع الأجيال، والأدوار التاريخيّة التي تتلو البعثة المحمدية، ومساحته المكانيّة تسع العالم كلّه، فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يقل: إنّنا أرسلناك رحمة لجزيرة العرب، أو للشرق أو الغرب أو لقارّة مثل آسيا مثلا، بل إنّه قال: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء: 107] .

الحقّ أنّ سعة هذا الإعلان وشموله، وعظمته وسموّه، واستمراره وخلوده، كلّ ذلك يقتضي أن يقف عنده مؤرّخو العالم وفلاسفته، ونوابغه وأذكياؤه حيارى مشدوهين، بل يقف أمامه الفكر الإنسانيّ كلّه حائرا مشدوها، وينقطع إليه كلّيا- ردحة من الزمان- يبحث في مدى صدق هذا الإعلان، أو صحة هذا الواقع، لأنّنا لم نجد في تاريخ الأديان والنّحل، وفي تاريخ الحضارات والفلسفات وتاريخ الحركات الإصلاحيّة والمحاولات الثوريّة، بل في تاريخ العالم كلّه، وفي المكتبة الإنسانيّة بأسرها مثل هذا الإعلان المحيط بالكون كلّه، والأجيال البشريّة كلّها، والأدوار التاريخيّة بأجمعها، حول أيّ شخصيّة من شخصيّات العالم، حتّى إنّ خلاصة تعاليم الأنبياء السابقين، ونبذة من أحوالهم وسيرتهم الّتي وصلت إلينا هي أيضا مجرّدة عن مثل هذا الإعلان.

أمّا اليهوديّة- وهي ديانة قديمة مشهورة- فإنّها تنظر إلى الله كربّ بني إسرائيل، وإله بني إسرائيل في الغالب.

إنّ صحف العهد القديم، والكتب المقدسة الدينيّة عند اليهود تخلو عن ذكر الله كربّ العالمين، وربّ الكون بتاتا، ولذلك فالبحث في سيرة نبيّ من أنبيائهم، مثل موسى وهارون، أو داود وسليمان، عن مثل هذا الإعلان، عبث وإضاعة وقت، فإنّ هذه الديانة لم تكن- في أيّ مرحلة من مراحلها- رسالة رحمة ومساواة للجيل الإنسانيّ كلّه من غير تمييز عنصريّ ولم تشجّع فيها الدعوة إلى هذه الديانة خارج شعب إسرائيل أبدا1(1) انظر للتوسع والتفصيل في هذا الموضوع كتاب المهتدية الأمريكية الفاضلة مريم جميلة.) Islam Versus Ahl -El -Kitab ,Past Present 22 -32:  .

وفي المسيحية فقد صرّح المسيح بأنّه لم يبعث إلا ليرعى خراف بني إسرائيل الضالة

أمّا المسيحيّة التي عرفت بتسامحها وحماسها للدعوة، وعطفها على الإنسانية، فقد جاء في الإنجيل تصريح- والعهدة على الكتاب- بأنّ المسيح صرّح بأنّه لم يبعث إلا ليرعى خراف بني إسرائيل الضالة2(2) إنجيل متى: باب 15، آية 24، وباب 10، آية 6- 7. ، وحين لفت نظره إلى بعض المرضى الذين لم تكن لهم صلة رحم ونسب ببني إسرائيل اعتذر وقال: «إنّي لست ذلك الرجل الذي يعطي خبز الأولاد للكلاب»3(3) متى: باب 15- آية 26..

الدّيانات الشرقيّة والآسيويّة جعلت الناس طبقات وحرمت طبقة المنبوذين من أبسط مبادىء الإنسانيّة

أمّا الدّيانات الشرقيّة والآسيويّة الأخرى، وخاصة الهندوكيّة، فإنّها لا تختلف كثيرا عن النموذج السابق، بل إنّها تسبق الديانات السابقة أحيانا في تقديس النّسب والسلالة، وتوزيع النّاس في طبقات توزيعا ظالما جائرا، لا يعرف اللين والمرونة.

فقد كان المنبوذون في المجتمع الهنديّ محرومين من كلّ نوع من التكريم والشرف والمساواة، ومن أولى حقوق الإنسان، وأبسط مبادىء الإنسانيّة، لا يجوز لهم تحصيل العلم، والتعليم، والتدريس، والتطلّع إلى الهضبة الروحية.

فقد خصّ دراسة «ويدا» وتقديم القرابين، والنذر لآلهتهم وأوثانهم بالبراهمة فحسب4(4) منوشاستر: الباب الأول- 88. ، وكان النظر في كتب «ويدا» ودراستها مقصورا على فئة الشتري والويش5(5) منوشاستر: الباب الأول- آية 89- 90. ، وقد صرّح «منوشاستر» أنّ المنبوذين لم يخلقهم الله إلّا لغرض واحد، وهو خدمة الطبقات الثلاث التي مضى ذكرها6(6) المصدر السابق: الباب الأول- 91. .

إنّ أهل الهند القدامى لم يكونوا يعرفون وراء جبال «هملايا» دنيا، لا صلة لهم بالعالم الخارجيّ، وبالشعوب الأخرى، ولا رغبة لهم في الإطلال عليها، لذلك فإنّ البحث عن مثل هذا الإعلان عن نبيّ أو وليّ أو مصلح فيهم عبث وإضاعة جهد ووقت.

الحقيقة أنّ البحث عن نبيّ يكون رحمة للعالمين في ديانة لا تحمل عقيدة «ربّ العالمين» غير معقول وغير منطقيّ.

2- قيمة الرحمة التي اقترنت بالبعثة المحمديّة كما وكيفا

إنّ لتقدير شيء، ووضعه في محلّه المناسب ومكانه اللائق مقياسين بصورة عامّة:

الأوّل: مقداره وحجمه الذي يعبّر عنه في المصطلح الحديث بالكميّة.

والثاني: جوهره ووصفه الذي يقال له الكيفية.

وهذا الإعلان الذي نادى به القرآن يشمل هذين النوعين، ويجمع بين الناحيتين، فإنّ بعثته صلى الله عليه وسلم وشخصه العظيم، وتعاليمه السامية الخالدة أفاضت على الإنسانيّة مسحة جديدة من الحياة والنشاط، وكانت السبب المباشر في شفائها من أسقامها وعلّاتها، وفي حلّ معضلاتها، ونهاية آلامها وأحزانها، وهطول أمطار الرحمة والبركة، واليمن والسعادة، والخير والفلاح على أرضها المجدبة القاحلة، وكانت هذه المعطيات المحمديّة الغالية منقطعة النظير بحساب السعة والوفرة، والحجم والكميّة وبحساب النفع والإفادة والجوهر والكيفية أيضا.

من مظاهر الرحمة

(الرّحمة) لفظ شاع استعماله في حياتنا اليوميّة، وهو يطلق على كلّ شيء ينال به الإنسان نفعا وراحة، أمّا أنواع الرحمة وأقسامها، ودرجاتها ومدارجها، فلا حصر لها، يقدّم أحدنا الماء البارد إلى أخيه العطشان، ويدلّ المسافر والغريب على الطريق، ويحرّك له المروحة في يوم صائف شديد الحرّ، الأمّ تحنو على طفلها، الأب يربّي ولده ويعلّمه، ويزوّده بحاجيات الحياة، المدرّس يدرّس تلاميذه، ويمنحهم ما عنده من نعمة العلم، وهكذا إطعام الجائع المسكين، وإكرام الضيف، وكساء العريان، كلّ ذلك من مظاهر الرحمة العامة، وألوانها المختلفة الزاهية، وهي تستحقّ منّا كلّ تقدير، واعتراف، وشكر.

ولكنّ أكبر مظهر من مظاهر الرحمة، وأروع صورة من صورها الجميلة أن ينقذ أحدنا أخاه من مخالب الموت، هناك طفل صغير بريء نراه في حالة الاحتضار، كاد يلفظ نفسه الأخير، الأمّ تقف إلى جواره تبكي، قد أظلمت الدّنيا في ناظريها، وانقطع أملها في فلذة كبدها، ومأوى حنانها وحبّها، الأب يسعى هنا وهناك هائما على وجهه، فلا يجد راقيا وأنيسا، هنالك يأتي طبيب حاذق، كما ينزل الملك من السماء ويقول مهلا .. لا داعي للقلق، ولا موجب لليأس، ولا يلقي في فم الطفل قطرات قليلة من الدواء حتّى يفتح عينيه وينشط.

تصوّر ماذا يقال لهذا الطبيب؟ ألا يقال له: أنّه ملك الرحمة، أرسله الله لإنقاذ هذا الطفل، وإعادة الحياة إليه؟ هنالك تتلاشى كلّ هذه الأنواع من الرحمة التي قدمناها أولا، وتذوب أمام هذا المظهر الرائع الأخّاذ من الرحمة، إنها ليست منّة على الطفل فقط، بل على أسرته كلّها.

نرى أعمى يمشي متوكّئا على عصاه، قد شارف هوّة عميقة أو بئرا، قد تكون خطوته التالية خطوة الموت، فيهرول إليه عبد من عباد الله ويأخذ بحجزه، ويمنعه عن الوقوع في هذه الهوّة، أفلا نسمّيه ملك الرحمة؟

هذا شابّ يافع، قرّة عين أبويه، وكفيل عائلته الفقيرة، قد أشرف على الغرق في نهر فائض يحاول أن يطفو على الماء، ولكن بدون جدوى، فيقفز إليه رجل مجازفا بحياته، ويأخذ به إلى ساحل النجاة، فيحمله ربّ الأسرة أو إخوة هذا الشاب على أعناقهم، ويضمّونه إلى صدورهم بحرارة وحبّ، ولا ينسون فضله على أسرتهم الصغيرة مدى الدهر، ترى هل تساوي مظاهر الرحمة الأولى هذه الرحمة العظيمة الغالية؟!!.

3- البعثة المحمدية أنقذت الجيل البشري من الشقاء والهلاك

ولكنّ آخر مظهر من مظاهر الرحمة وقيمتها وذروة سنامها، هي أن ينقذ رجل الإنسانيّة كلّها من الهلاك، وهناك فرق عظيم بين هلاك وهلاك، وبين خطر وخطر، ذلك هلاك محدود سطحيّ، وخطر عابر قد يزول، وهذا هلاك أبديّ، وخطر مستمرّ لا يزول، لذلك فإنّ رحمة الأنبياء بالنوع البشريّ لا تقاس أبدا على هذه الرحمات، رغم أهميّتها وعظمتها.

إنّ أمامنا بحرا هائجا مائجا من الحياة لم يلتقم الأفراد والآحاد فحسب، بل إنّه ابتلع الأمم والبلاد، وهضم الحضارات والمدنيّات، ترتفع أمواجه العاتية الهائلة، كأفواه التماسيح الفاغرة، وتنقضّ على الجماعات البشريّة كالأسد الضاري، والمشكلة أنّه كيف نعبر هذا البحر الهادر الزاخر الذي لا يعرف الرحمة؟، وكيف ننزل بسفينة الإنسانية على برّ الأمان؟.

ولا يكون صاحب الفضل الأكبر في هذا المجال، ولا يعتبر أكبر منقذ للإنسانيّة، وصاحب المنّة عليها، والإحسان إليها، إلّا من يجدّف هذه السفينة، التي تلعب بها العواصف الهوجاء والأمواج الهائلة كالجبال، والتي غاصت بركّابها، وغاب الملّاح والرّبّان، ثمّ يوصلها بسلامة إلى ساحل النجاة؟!!

إنّ النوع البشريّ شاكر لهؤلاء الذين منحوه هدية العلم، ويشكر هؤلاء الذين جمعوا له هذه الأكداس من المعلومات، ويشكر الذين هيّؤوا له كلّ هذه التسهيلات، وزوّدوه بوسائل الراحة والرخاء، وذلّلوا صعاب الحياة، واقتحموا عقباتها وشعابها، إنّه لا يبخس حقّ أحد من هؤلاء، ولا ينكر فضلهم عليه، ولكنّ قضيّته الكبرى، ومشكلته الأولى هي أنّه كيف ينقذ نفسه من أعدائه الذين وقفوا له بالمرصاد، وأحاطوا به من كلّ جانب، وكيف يصل بسفينته إلى برّ السلامة والأمان؟!.

فما هي أمواج هذا البحر، وما هي تماسيحه الضّارية الشّرسة؟

إنّها الجهل عن خالق هذا الكون وربّ العالمين، وعن صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، والوقوع في حبائل الشرك والوثنيّة، وعبادة الأصنام، والاسترسال مع الخرافات والأوهام، إنّها بلادة حسّ الإنسانيّة، وذهولها عن نفسها، وغفلتها عن خالقها وبارئها.

إنّها عبادة المادّة والمعدة، وتعدّي الحدود، وانتهاك الحرمات، وسورة النفس الأمارة بالسوء، والتهرّب من أداء الواجبات والحقوق، والإصرار على المنافع والحظوظ.

إنّ أكبر خطر على الإنسانيّة أن يحدث في بنائها خلل، وتحيد لبنتها الأساسيّة عن مكانها الصحيح، فينسى الإنسان قيمته ومداركه، وغاية حياته، ويظنّ نفسه ذئبا مفترسا، أو أفعى، أو ثعبانا، فحين يذهل الإنسان عن هذه الحقائق الكبرى يتحوّل بحر هذه الحياة إلى نار متأجّجة، ولهب مرتفع، هنالك يزدري الإنسان أخاه، ويفترسه، ولا يحتاج إلى الثعابين، والعقارب، والذئاب، والفهود.. فقد ينقلب الإنسان أكبر ذئب في هذه الغابة الإنسانية.. تخجل أمامه الذئاب، ويتحوّل شيطانا ماردا، تستحي منه الشياطين، هنالك يحترق الإنسان، ويشوى في ناره التي أشعلها بنفسه، ولا يحتاج إلى أن يستوردها من الخارج.

في هذه الفترة الرهيبة المظلمة تهبّ نفحة من نفحات الرحمة الإلهيّة، وتنتعش رفات الإنسانيّة الخامدة الهامدة، وتزوّدها بملّاحين يجدّفون سفينتها بنجاح ومهارة.

4- مهمّة النبوة ودورها في الإنقاذ والإسعاد وطبيعة عمل الأنبياء

وأضرب- لتوضيح مهمّة النبوّة، وطبيعة عمل الأنبياء- مثلا سوف نفهم به مهمّة النبوّة وموقفها من غير دلائل فلسفية دقيقة.

يحكى أنّ فريقا من تلاميذ المدارس ركبوا سفينة للنزهة في البحر، أو للوصول إلى البرّ، وكان في النفس نشاط وفي الوقت سعة، وكان الملّاح المجدّف الأميّ خير موضوع للدعابة والتّندّر، وخير وسيلة للتلهّي، وترويح النفس، فخاطبه تلميذ ذكيّ جريء، وقال: يا عمّ، ماذا درست من العلوم؟ قال الملّاح: لا شيء يا عزيزي!

قال: أما درست العلوم الطبيعيّة يا عمّي؟

قال: كلّا وما سمعت بها.

وتكلّم أحد التلاميذ، فقال: ولكنّك لا بدّ درست الأقليدس والجبر والمقابلة!

قال: وهذا أغرب، وتصدّقون أنّي أوّل مرّة أسمع هذه الأسماء الهائلة الغريبة.

وتكلّم ثالث «شاطر» فقال: ولكنّي متأكّد من أنّك درست الجغرافية والتاريخ؟

فقال: هل هما اسمان لبلدين، أو علمان لشخصين؟

وهنا لم يملك الشباب نفوسهم المرحة، وعلا صوتهم بالقهقهة، وقالوا: ما سنّك يا عمّ؟

قال: أنا في الأربعين من سنّي.

قالوا: ضيّعت نصف عمرك يا عمّنا.

وسكت الملّاح الأمّيّ على غصص ومضض، وبقي ينتظر دوره والزمان دوّار.

وهاج البحر وماج، وارتفعت الأمواج، وبدأت السفينة تضطرب والأمواج فاغرة أفواهها لتبتلعها، واضطرب الشباب في السفينة- وكانت أوّل تجربتهم في البحر- وأشرفت السفينة على الغرق.

وجاء دور الملّاح الأميّ، فقال في هدوء ووقار: ما هي العلوم التي درستموها يا شباب؟

وبدأ الشباب يتلون قائمة طويلة للعلوم والآداب التي درسوها في الكليّة، ويتوسّعون فيها في الجامعة، من غير أن يفطنوا لغرض الملّاح الجاهل، الحكيم، ولمّا انتهوا من عدّ العلوم المرعبة أسماؤها، قال في وقار تمزجه نشوة الانتصار: لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة، فهل درستم علم السّباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت هذه السفينة- لا قدّر الله- كيف تسبحون وتصلون إلى الساحل بسلام؟

قالوا: لا والله يا عمّ، هو العلم الوحيد الذي فاتتنا دراسته والإلمام به.

هنالك ضحك الملّاح وقال: إذا كنت ضيّعت نصف عمري، فقد أتلفتم عمركم كلّه، لأنّ هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان، إنّما كان ينجدكم العلم الوحيد، هو علم السباحة الذي تجهلونه7(7) القصة مقتبسة من كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» ص (24) من الطبعة السابعة لدار القلم بدمشق..

هذه مهمّة النبوّة ودورها في إنقاذ البشريّة المشرفة على الغرق، وهذه طبيعة عمل الأنبياء والرسل، وامتيازه عن سائر أصناف التعليم والتربية، والترويح والتسلية، يمنحون الجيل البشريّ «علم النجاة» ويعلمونه فنّ السباحة، وتجديف سفينة الحياة.

إنّ التاريخ الإنسانيّ يدلّ دلالة واضحة على أنّه لما غرقت سفينة الحياة لفساد أخلاق الناس، وسيّئات أعمالهم، غرقت بكلّ ما فيها من مجموعة بشرية، ورصيد حضاريّ، ومحصول فكريّ، وإنتاج علميّ وفلسفيّ، وبكلّ ما فيها من روائع الشعر والأدب والبيان، وأنّ هذه السفينة لم تغرق أبدا من أجل الانحطاط الأدبيّ، وقلّة المدارس والجامعات، وفقدان التعليم العالي، أو من قلّة المال وانخفاض مستوى المعيشة، إنّها غرقت لأنّ الإنسان أعدّ نفسه للانتحار، إنّه صار معولا هداما لذلك البناء الذي فيه متاعه وأهله.

إنّ التاريخ يدلّنا على أنّ الفكر الإنسانيّ أصيب في كثير من الأحيان بنوبات عصبيّة دفعته إلى التدمير والإبادة، بدلا من التعمير والبناء، فقد رأينا مستغربين مأخوذين بالحيرة والدهشة، ورأينا بأمّ أعيننا، ونحن لا نكاد نصدّق هذا الواقع لهول المنظر وبشاعة الوضع، أنّ الإنسان قام يهدم أساسه بكلّ قوّة وحماس، ذلك الأساس الذي قام عليه صرحه الحضاريّ والفكريّ العظيم، وظلّ مشتغلا بهذه العمليّة المجنونة بكلّ شوق ورغبة، كأنّها عملية بنّاءة ومأثرة إنسانية رائعة، وخدمة ممتازة، وصار يلحّ على الوقوع في خندق الموت، وقد تملّكته السامة من الحياة، واستبدّ به الشوق إلى الهلاك، كأنّ الحياة عذاب وجحيم، والهلاك جنة ونعيم.

5- تصوير العصر الجاهلي وتهيؤه للانهيار والانتحار

ذلك هو الوضع الذي ساد على العالم في القرن السادس المسيحيّ، فإننا نجد هناك استعدادات عامة للانتحار الاجتماعيّ العام، لم يكن النوع البشريّ في ذلك الزمان راضيا بالانتحار فحسب، بل كان يتساقط عليه، ويتهالك فيه، كأنّه نذر به وحلف، فيريد أن يفي بنذره ولا يحنث في قسمه، ولقد صوّر القرآن العظيم هذا المنظر وهذا الوضع تصويرا دقيقا، لا يصوّره أيّ رسّام أو أديب، أو روائيّ أو مؤرّخ:

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران: 103] .

رحم الله المؤرّخين، فإنّهم لم يصوّروا الجاهلية حين سردوا لنا وقائع البعثة المحمديّة تصويرا دقيقا، وهم معذورون ومأجورون، مثابون ومشكورون، فإنّ ذخيرة الأدب واللغة لا تسعفهم كلّ الإسعاف، الحقيقة أنّ هذا الوضع في قمّة من الهيبة والفظاعة، وفي منتهى الدّقة والتعقيد، لا يمكن وصفه بريشة قلم، والتعبير عنه بأيّ قدرة بيانيّة، وصلاحيّة لغوية.

هل كان العصر الجاهليّ- الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم- قضية انحطاط اجتماعيّ أو خلقيّ، هل إنّه كان قضية وثنيّة مجردة، أو قضيّة خمر وقمار، وعبث واستهتار، أو ظلم واستبداد، قضية قوانين اقتصادية جائرة، وتعسف الحكام الغاشمين، هل إنّه كان قضية وأد البنات، كلّا، إنّه كان قضية وأد الإنسانية كلّها.

لقد انتهى هذا الدور، وانقرض هذا الجيل، وغاب هذا التصوير البشع عن أعين الناس، فكيف نعيده ونمثّله، ونجعله حسّيا شاخصا تراه الأبصار، وتلمسه البنان، وجلّ ما نستطيع أن نقول: إنّه عصر جاهليّ لا يفهمه حقّ الفهم إلّا من عاش فيه واكتوى بناره، ولو كان لمصوّر يحاول التصوير يمكن أن يمثّل البشرية في صورة إنسان في غاية الجمال والصّحة، والأناقة وحسن الهندام، الإنسان الذي هو نموذج بديع فريد لصنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي هو محسود الملائكة، وغاية الخلق، الذي كلّله الله بتاج خلافته، فصار زينة الوجود، ولبّ لباب الحقيقة والعرفان، وبه تحوّلت هذه الأرض الخراب اليباب إلى روضة غنّاء، وحديقة فيحاء، ثمّ يصوّر هذا الإنسان يريد أن يقفز في خندق عظيم هائل ترتفع منه ألسنة اللهب، وقد تحفّز واستجمع قواه، وجمع ثيابه، ورفع رجله في الفضاء فعلا، وكاد يقع فيه، وما هي إلا دقائق وثوان حتّى يغيب في هذا الظلام المهيب، ظلام الموت، فلعلّ هذا التصوير يصوّر بعض الجانب من العصر الجاهليّ عند بعثة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة، فقال في إيجاز وفي إعجاز: (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران: 103] ، وذلك ما شرحه لسان النبوّة بمثال رائع بليغ، فقال عليه الصلاة والسلام: «مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلمّا أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدوابّ التي تقع في النّار يقعن فيها، وجعل يحجزهنّ ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها» ، وقال في آخرها: «فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار هلمّ عن النار، هلمّ عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها» 8(8) متفق عليه..

الإنسانية كلّها مدينة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام

لقد كانت القضيّة الكبرى في هذه القصّة كلّها أن تصل سفينة الإنسانيّة بسلامة الله وفي حفظه ورعايته إلى شاطىء النجاة، لأنّه حين يستوي الإنسان ويعتدل طبعه، وتتحلّى الحياة بالاقتصاد والاتزان، تنفعه- إذا- كلّ هذه المشروعات البنائيّة والإنمائيّة، أو الأدبيّة والعلميّة التي أوتي مواهبها كثير من أصدقاء الإنسانية وأنصارها. ومن هنالك، فإنّ الإنسانية كلّها مدينة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام- لأنّهم أنقذوها من تلك الأخطار المحدقة التي سلّطت على رأسها كالسّيف المصلت، ولا يتحرر من منّتهم وفضلهم مشروع علميّ، ولا تخطيط اجتماعيّ، ولا مدرسة فكريّة، أو فلسفيّة.

كما أنّ العالم المعاصر مدين لهم في هذا البقاء والاستمرار، وجدارة الحياة؛ لأنّ الإنسان اعترف- أحيانا كثيرة- بلسان حاله، إن لم يقل بلسان مقاله، أنّه فقد حقّ البقاء في هذه الأرض، وأنّه لا يحمل الآن أيّ رحمة وبركة، وفيض وإفادة، ودعوة رسالة للإنسانية، إنّه رفع الدعوى في المحكمة الإلهيّة ضدّ نفسه، وشهد عليها، لقد كانت ملفّاته مهيأة للحكم العادل الأخير، وقد نصّب الإنسان نفسه لأكبر عقوبة تتصوّر، بل لعقوبة الإعدام.

ولا عجب في ذلك، فحينما تتعدّى المدنية حدودها الطبيعية وتخرج من طورها، وتنسى القيم الخلقيّة كليّا، أو تكفر بها صراحة وعلنا، ويتغافل الإنسان عن كلّ غاية نبيلة، ومقصد شريف، وعن كل واقع وحقيقة غير الحقائق الماديّة، وتحقيق مآربه الجسديّة، وإرواء ظمئه الحيوانيّ، وحينما يحلّ محلّ القلب الإنسانيّ قلب الذئب والنمر والفهد، وتتكوّن في جسمه معدة خياليّة أو صناعية، ونفس أمّارة بالسوء، لا يقرّ لها قرار، ولا يضبطها وازع أو رادع، وحينما تصيب الإنسانيّة نوبة شديدة من الجنون، يبعث الله لها جماعة من الجرّاحين، أو عصابة من السفاحين، وتأتي لأورامها المنتفخة سكاكين من ظهر الغيب تقضي عليها، وتقطع دابرها، وتستأصل شأفتها.

إنّ فساد المدنيّة وهوسها وجنونها أشدّ من جنون الملكيّة والحكم الشخصيّ، وأوسع منه شرا لأنّه حين يجنّ جنون شخص ضعيف نحيل واحد يقضّ مضاجع أهل الحارة كلّها، وينغّص عيشهم الهادىء. تصور ماذا يحدث في العالم، إذا جنّ جنون النوع البشريّ أجمع، وتنخّر هيكل المدنية وتعفّن، وفسدت طبيعة الإنسانيّة؟ هل له من رقية أو علاج؟

إلّا أنّه لم تفسد المدنيّة فحسب في العصر الجاهليّ، بل تفسّخت جثتها، وتعفّنت، ونشأت فيها ديدان قذرة، وأصبح الإنسان يقتنص الإنسان ويصطاده، ويتلذذ بسكراته وشدائده عند الموت، ويتمتع بحالة الاحتضار، كما يتمتع أحدنا بمنظر البساتين والأشجار والورود والأزهار، ويطرب ويهتزّ لاضطرابه وتقلّبه على الحجر، ويفرح بأنين المصاب والمريض والمنكوب، وصراخه وعويله، كما يفرح بالشراب الهنيء والطعام الشهيّ أو بالمنظر السارّ الجميل.

همجيّة الإنسان وضراوته، ووحشيّته النادرة في حضارة الغرب

سرّح طرفك في تاريخ رومة التي تغنّت أوربة- وما تزال- بفتوحها وبطولاتها، وأمجادها وتشريعها وحضارتها، تجد نموذجا حيّا للقسوة البشريّة التي بلغت قمّتها في هذا العصر، يقول «ليكي» في كتابه «تاريخ أخلاق أوربة» يصوّر جانبا من همجيّة الإنسان وضراوته، ووحشيّته النادرة، يقول:

«إنّ أكثر المناظر سحرا على نفوس أهل رومة، وأعظم تسلية ومتعة لهم، حين كان يسقط الجريح في مبارزة أحد الأبطال من بني جنسه، أو مصارعة سبع ضار يتشحّط في دمه، هنالك كان يفلت الزمام، ويغلب الناس على أمرهم، ويفقدون رشدهم، فيتهالك الحشد الحاشد- وفيه النساء والأطفال والشيوخ العجّز- على الدنوّ من هذا المنظر الرهيب، والإنسان البائس الشقيّ، وهو من بني جلدتهم وأبناء بلادهم، ليمتّعوا نفوسهم بمشاهدة احتضاره، وليرنّ في آذانهم رنين أنينه، فقد كان أجمل من كلّ غناء وموسيقا، وسجع الطيور، وكان رجال الشّرطة الذين كان من واجبهم المحافظة على النظام، يقفون مشدوهين مكتوفي الأيدي أمام هذه الموجة العارمة من المتعة الظالمة الآثمة، لا يملكون من أمرهم شيئا»9(9) راجع «تاريخ أخلاق أوربة» للمؤلف الإنجليزي ليكي، ج 1، ص 230..

لقد كانت قصّة الجاهلية الأولى أنّ حجرها الأساسيّ حاد عن موضعه، بل تحطّم وتهشّم ولم يبق أمل في إصلاحه، ووضعه في محلّه الصحيح، ووقف الإنسان أمام المحكمة الإلهيّة ينتظر الحكم النهائي الأخير في مصيره، هنالك بعث محمد صلى الله عليه وسلم ونادى صوت السماء: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء: 107] .

الهوامش

(1) انظر للتوسع والتفصيل في هذا الموضوع كتاب المهتدية الأمريكية الفاضلة مريم جميلة.) Islam Versus Ahl -El -Kitab ,Past Present 22 -32:

(2) إنجيل متى: باب 15، آية 24، وباب 10، آية 6- 7.

(3) متى: باب 15- آية 26.

(4) منوشاستر: الباب الأول- 88.

(5) منوشاستر: الباب الأول- آية 89- 90.

(6) المصدر السابق: الباب الأول- 91.

(7) القصة مقتبسة من كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» ص (24) من الطبعة السابعة لدار القلم بدمشق.

(8) متفق عليه.

(9) راجع «تاريخ أخلاق أوربة» للمؤلف الإنجليزي ليكي، ج 1، ص 230.

المصدر

كتاب: “السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي” ص607-621.

اقرأ أيضا

الإسلام وأمن البشرية.. (1) رسالة وطريق

الإسلام وأمن البشرية .. (2) جدية وتضحيات

الإسلام وتحرير الإنسان

التعليقات غير متاحة