إن الجهاد في الإسلام يهدف إلى إنقاذ البشرية مما هي عليه من الكفر والظلم، اللذان هما مصدر الخوف والشقاء، وانعدام الأمن، ويرهب أعداء الله عز وجل الذين هم في الحقيقة أعداء البشرية وأعداء أمنها، ويزيلهم من طريق الحق والأمن والسلام، لينتشر التوحيد في الناس.
الجهاد في سبيل الله عز وجل
الجهاد في سبيل الله تعالى عبادة من العبادات العظيمة التي يتعبد لله تعالى بها، وهو من لوازم القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ التوحيد للناس وإزالة ما يضاده من الشرك.
فما أعظمه وأشرفه من عبادة؛ حيث لا ينحصر نفعها على القائم بها ولكنها تتعداه إلى الناس بهدايتهم إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وإنقاذهم بإذنه تعالى من الشر والشقاء في الدنيا والآخرة.
الغاية من الدعوة والجهاد في سبيل الله
ويمكننا حصر الغاية من الدعوة والجهاد في الأهداف التالية:
تحقيق عبودية: بذل النفس والمال في سبيل الله عز وجل
1- التعبد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة؛ شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فشعور المجاهد أنه عبد لله عز وجل يحب ربه سبحانه، ويحب ما يحبه من الجهاد في سبيله، ويبغض ما يبغضه من الشرك والفساد، ويبغض من يبغضهم الله من أعدائه الكفرة، ويجاهدهم حتى تكون كلمة الله هي العليا و كلمة الذين كفروا السفلى. إن هذا الشعور لمن أعظم الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى. ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجهاده إلا على شعوره بالعبودية لله عز وجل والتلذذ بذلك لكفى بذلك دافعا وغاية عظيمة.
كما أن في مصاحبة شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات المجاهد أكبر الأثر في التربية على الإخلاص وتحري الحق والصواب واللذان هما شرطا قبول العبادة، وعلى العكس من ذلك عندما ينسى أو يغفل المجاهد أنه متعبد لله تعالى بدعوته وجهاده، فإنه بذلك يضعف إخلاصه وتبدأ حظوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، مما ينتج عنه في نهاية الأمر فتور المجاهد أو مزلة قدمه عياذا بالله تعالى.
وإن بذل النفس والمال في سبيل الله عز وجل ليعد من أكبر العلامات على محبة الله تعالى ودينه، وعلى العكس من ذلك فيما لو تقاعس المسلم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وبخل بماله أو نفسه عندما يوجد داعي الجهاد؛ فإن هذا دليل على ضعف المحبة لله تعالى ولدينه.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسی به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله . فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) [التوبة: 24].
إلى قوله: (حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد… والجهاد هو بذل الوسع – وهو القدرة – في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه. ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبا إلا باحتمال المكروهات، سواء كان محبة صالحة أو فاسدة؛ فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة الله)1(1) مجموع الفتاوی: (10/191-193) باختصار..
وقال في موطن آخر: (والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة، وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد. والجهاد دليل المحبة الكاملة… فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له)2(2) مجموع الفتاوی: (10/ 58-57) باختصار..
الفوز بمنزلة الشهداء
2- الفوز برضوان الله تعالى وجنته في الدار الآخرة؛ وهذا هو ثمرة التعبد الله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والمجاهدين في سبيله على بصيرة . ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح المجاهدين في سبيله سبحانه والصابرين على ما أصابهم في سبيله وما أعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم. وعندما ينشد الداعية إلى هذه الغاية وتنجذب نفسه إليها فإنه يستسهل الصعاب ويمضي في طريقه بقوة وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنه بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة ولا ينتظر جزاء عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنما يروض نفسه ويربيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم في دار النعيم المقيم. ولذلك فإن أصحاب هذه النفوس المخلصة لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلوا وتوقفوا.
أما أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأن وقت ومكان توفية الأجر ليس مجاله الدنيا وإنما في الآخرة – دار الحساب والجزاء – ولذلك فهم يعملون ويجاهدون حتى يأتيهم اليقين.
إزالة الحواجز التي تعترض طريق الحق
3- تعبيد الناس لرب العالمين عز وجل، وإنقاذهم – بإذنه تعالى – من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان والمذاهب إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذاب النار يوم القيامة إلى جنات النعيم.
وهذا لا يتأتى إلا بإزالة الشرك وأربابه الذين يحولون بين الناس وبين أن يصل التوحيد إلى قلوبهم، ومن أجل ذلك شرع الجهاد لإزالة هذه الحواجز والعوائق التي تعترض طريق الحق وتمنعه من الوصول إلى قلوب الناس وذلك حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ؛ قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال:39].
وعندما يتذكر المجاهد هذه المهمة الجسيمة وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنه يضاعف من جهده ولا يقر له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الناس والفساد المستطير والظلم العظيم في حياتهم والذي يؤول بهم إلى الشقاء والعنت وكثرة المصائب في الدنيا وإلى العذاب الأليم في الآخرة. ولذلك فلا ترى المجاهد المدرك لهذه الغاية من جهاده إلا خائفا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراه إلا ناصحا للعباد رحيما بهم يريد من دعوته وجهاده هداية الناس وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة.
ولذلك فإن الجهاد في الإسلام إنما شرع رحمة بالناس، ولو كان فيه ما فيه من المشقة وبذل الأرواح والجراحات؛ فإن هذه المشقات والمكاره لا تساوي شيئا في مقابلة ما يترتب على الجهاد من المصالح العظيمة وذلك من نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، وإزالة الفتنة والشرك والظلم عنهم.
وبعد هذا التفصيل في غايات الجهاد يمكن القول بأنها كلها ترجع إلى غاية في الدنيا، وغاية في الآخرة.
فأما غاية الجهاد في الدنيا
فهي نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ورفع الفتنة والشرك عنهم؛ وذلك لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وحده .
وأما الغاية من الجهاد في الآخرة
فهي الفوز بمرضاة الله عز وجل وجنته، والنجاة من سخطه وعذابه .
والغاية من الجهاد في الدنيا إن هي في الحقيقة إلا وسيلة عظيمة لتحقيق الغاية العظمى في الآخرة؛ فعاد الأمر إلى غاية الغايات وهي رضوان الله وجنته .
مقصود الجهاد وغايته
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقصود الجهاد وغايته فيقول: «والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة»3(3) مجموع الفتاوی: (15/170)..
وسواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب فإن المقصود من الجهادين واحد؛ فهو في جهاد الدفع لرفع الفتنة عن المسلمين المعتدى عليهم في ديارهم؛ لأن في استيلاء الكفار على ديار المسلمين تعريضا للمسلمين للفتنة في دينهم وأعراضهم وأموالهم، وفيه علو لكلمة الكفر على كلمة التوحيد. إذا فجهاد الدفع شرع حتى لا تكون فتنة على المسلمين فيكفروا بتسلط الكفار عليهم، وحتى لا تعلو شعائر الكفر في بلد كان يرفع فيه شعار التوحيد.
وأما جهاد الطلب فالأمر فيه واضح وجلي؛ حيث إن مقصود المسلمين في طلبهم للكفار وفتح ديارهم إنما هو لرفع الفتنة – وهي الشرك – عن الناس في بلدانهم وليكون الدين فيها لله عز وجل وليس للكافرين والمشركين والطواغیت الذين يستعبدون الناس ويظلمونهم ويدعونهم إلى عذاب النار.
الهوامش
(1) مجموع الفتاوی: (10/191-193) باختصار.
(2) مجموع الفتاوی: (10/ 58-57) باختصار.
(3) مجموع الفتاوی: (15/170).
اقر أ أيضا
العدل والتوازن في الجهاد في سبيل الله
الجهاد في الإسلام: أحکام وآداب