إن سنة الله تعالى في نصر المؤمنين سنة ماضية لا تتخلَّف أبداً، وإنها تتحقق كلما تحققت شروطها وانتفت موانعها. وإن على المسلمين إن تاقت نفوسهم إلى النصر أن يوفروا شروطه ويتلافوا موانعه.
مقدمة
إن العوائق والتحديات التي تعترض سبيل الدعوة اليوم كثيرة جدا بعضها أخطر من بعض ، وقد أدت هذه العوائق ببعض النفوس إلى داء خطير إذا حل في النفوس حطمها وأذلها ، ألا وهو اليأس أو الهزيمة النفسية من الداخل ، وهذا الداء هو في حد ذاته من أكبر العوائق .
وقد حذر الله عز وجل من هذا الداء أن يتسرب إلى نفوس المؤمنين به سبحانه ؛ لأن بمجرد دخول الإيمان إلى القلوب فإنه ينفي الهوان والذلة والضعف عنها، ويورثها القوة والعزة والكرامة مهما كانت الظروف التي تعيشها هذه القلوب المؤمنة من تشريد أو سجن أو تعذيب . فغاية ما يملکه المتسلطون هو الجسد فقط ، أما القلب المعمور بالإيمان ففيه قوة الإيمان التي تستعلي على كل ابتلاء وهزيمة واستضعاف.
والله سبحانه يقول للمؤمنين وقد أصابهم القرح في أحد: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]، فلا يجتمع الوهن والاستكانة مع الإيمان الحقيقي أبدا .
وقال أيضا في هذا المقام: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 146-147].
فتأمل وصفه تعالى للربيين عند حلول المصيبة بأنهم ما ضعفوا .. وما استكانوا .. وما وهنوا .. فكيف بعد هذا للهوان أو اليأس أن يتطرق إلى قلوب المؤمنين في أي ظرف من الظروف وهم يملكون الإيمان الذي يرفعهم على كل هزيمة وكيد ومكر؟
أهم عوائق النصر
وبعد هذه التوطئة التي لا بد منها نعود إلى ذكر أهم هذه العوائق التي تقف في طريق النصر والتي يمكن إجمالها في :
1- العوائق الخارجية .
2- العوائق الداخلية .
أولا: العوائق الخارجية
ويقصد بها تلك العوائق والتحديات الواردة من خارج الصف الإسلامي وذلك من أعداء هذا الدين والمتمثلين فيما يلي :
1- الكفار الصرحاء الذين أسفروا عن عدائهم وحقدهم على الإسلام وأهله كاليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم .
2- المنافقون المظهرون للإسلام والمبطنون للكفر والزندقة ، وهؤلاء من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا كما هو الحال من العلمانيين والباطنيين الذين يكيدون لهذا الدين ويوالون أعداءه من اليهود والنصاری .
3- الأنظمة الحاكمة في أكثر بلدان المسلمين التي وجهت عداءها وكيدها على شعوبها المسلمة باسم مكافحة التطرف والإرهاب فأكثروا في الأرض الفساد ووقفوا في وجه كل حركة إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
ثانيا: العوائق الداخلية
ويقصد بها العوائق التي توجد داخل الصف المسلم من الانحراف الموجود في الفهم أو القصد ، وهذه العوائق تتمثل فيما يلي :
1- عوائق داخل الصف الإسلامي للدعاة تتمثل في الفرقة المشينة والاختلاف والشحناء والبغضاء .
2- عوائق داخل نفوس أفراد الدعوة من أمراض وأدران وركون إلى الدنيا وتحاسد ورياء وكبر .. إلخ .
وبمقارنة العوائق الواردة من الخارج بالعوائق الواردة من داخل الصف الإسلامي يظهر لنا خطورة العوائق الداخلية وأثرها في تأخر نصر الله عز وجل ، ولو لم توجد العوائق الداخلية لما كان للعوائق الواردة من الخارج أن تؤثر بكيدها ومكرها في الصف الإسلامي والمجتمع المسلم.
قال تعالى: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120] ففي هذه الآية الكريمة يعلمنا الله عز وجل أن كيد العدو الخارجي لا يضر المؤمنين شيئا إذا اتصفوا بالصبر والتقوى ؛ لأن الله عز وجل محيط بعمل الكفار وتخطيطهم ، وهم في قبضته والعكس بالعكس؛ فمتى ظهر کید الكفار في الصف المسلم فإن هذا دليل على ضعف الصبر والتقوى ، ويؤكد هذا المعنى أيضا قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
مما سبق يتبين لنا خطورة العوائق الداخلية وأن التغيير المنشود في الأرض يبدأ من التغيير في النفس وتفقدها سواء في سلامة الفهم والمعتقد أو في سلامة المقصد والنوايا ، وأن أي خلل في الفهم والقصد يظهر أثره في تسلط الأعداء وتأخر نصر الله عز وجل .
إنه بدلا من أن نسقط أسباب ضعفنا ومهانتنا على عدونا الخارجي؛ يجب علينا أن نرجع إلى أنفسنا ونتوجه إلى إصلاحها وإصلاح ذات بيننا حتى نكون أهلا لنصر الله عز وجل وحتى يغير الله ما بنا .
إن إصلاح النفوس وإقامة حكم الله فيها عقيدة وعبادة وسلوك هو الطريق إلى إقامة حكم الله في الأرض .. وإلا فما قيمة المطالبة بإقامة حكم الله في الأرض واستعجال نصر الله تعالى ، ولما تستقم النفوس على منهج الله تعالی وتنقد له؟!
وما أحسن مقولة من قال: (أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم على أرضكم).
إن المسلم العارف لسنن الله عز وجل في التغيير ليتألم من حالنا وواقعنا وما حل بيننا من فرقة وشحناء وأهواء، ويتساءل بمرارة كيف يأتي نصر الله عز وجل في هذه الظروف والله عز وجل يقول: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46]؛ هذا على مستوى الدعاة والجماعات ؟!!
أما إذا جئنا إلى نفوس الدعاة كأفراد فإن المراقب لواقعنا وأخلاقنا واهتماماتنا لا ينقضي عجبه وهو يرى ذلك التناقض بين ما يدعو إليه الداعية وبين سلوكياته وأخلاقه ، وبالتالي يتكرر نفس السؤال المطروح آنفا ، كيف ينزل نصر الله عز وجل على أناس هذه أخلاقهم وتلك تضحياتهم وهذه مقاصدهم ؟!!
يقول الدكتور محمد أمين المصري – رحمه الله تعالى – حول هذا الموضوع:
(إن الأعداء في الخارج يرقبون حركات المسلمين ويتربصون بهم الدوائر ويكيدون لهم کيدا ، ويمكرون بهم مكر الليل والنهار ، ومرجع هذا الصراع إلى عصور مترامية تمتد إلى الحين الذي دكت فيه عروش القياصرة والأكاسرة وامتد حكم الإسلام إلى أطراف العالم ؛ فهنالك الحركة الصليبية، وهنالك الصهيونية والاستعمار الغربي والشرقي، وهؤلاء جميعا يختلفون فيما بينهم ولكنهم يصطلحون على حرب المسلمين ، ويجمعون أمرهم كيلا تقوم للمسلمين قائمة ولا تجتمع لهم كلمة . ويعتبر هذا الجانب خارجيا ، وهو –وإن بلغ ذروة الكيد. ليس أكبر الجانبين أهمية بل هو – كما سنری – نتيجة تابعة للعامل الثاني الذي هو الجانب الداخلي وهو المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون ، وهنا نجد عقبات في الأفراد أنفسهم وفي تنشئتهم وتربيتهم .
وليس من شك في أن أكبر الأخطار التي تواجه المسلمين اليوم كامنة في النقص في تربية أفراد المسلمين أنفسهم، والضعف الذي أصيب به شبابهم .
وأكبر المصائب أن يصاب الفرد بنفسه ؛ ذلك لأن معالجة أي خطر ممكنة ميسرة حينما تكون تربية الأفراد تربية قوية تستطيع أن تجابه المصاعب وتصمد للحوادث.
ومن عادة الضعيف أن يلقي بأسباب ضعفه على عوامل خارجية يدعي أنه لا يملك التصرف فيها ليسوغ لنفسه ما هو فيه، ولقد اعتدنا أن نفعل ذلك وأن نلقي تبعات ما نحن فيه من ضعف وتقصير على الاستعمار أولا ، وعلى الماضي ثانيا ، وعلى مجتمعنا ثالثا ، ولا يخطر ببال أحدنا أن يجعل نفسه مركز الاتهام بينما يجعل القرآن العامل الأساسي فيما يصيب الإنسان من مصيبة هو نفسه ، قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165]
يبين الله تعالی بشأن بني النضير حين غلبهم المسلمون أنهم أتوا من حيث لم يحتسبوا وكان ذلك من قبل أنفسهم . قال تعالى: ﴿مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2].
لم يؤت هؤلاء من نقص في ذخيرتهم أو عددهم أو حصونهم ، ولكنهم أتوا من قبل أنفسهم ، أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن . قالوا: وما الوهن یا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»11-أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم (4297). وهو في صحيح سنن أبي داود (3610) ..
الحديث الكريم يخبر عن سنة عميقة من سنن الاجتماع تبين ما تنتهي إليه الجماعة حين تفسد فطرتها وتملأ الدنيا قلوب أفرادها ، ولقد كشف هذه الحقيقة الباحثون المحدثون لدراسة الجماعات وعوامل انحطاطها. قال أحد هؤلاء: إن الأسباب الحقيقية لكل انحطاط داخلية لا خارجية . وليس علينا أن نلوم العواصف حين تحطم شجرة نخرة في أصولها ، إنما اللوم على الشجرة النخرة نفسها .
والقرآن الكريم يهدي إلى هذه السنة ويبين للناس بأن ما يقع على الأمم من ظلم واضطهاد مرجعه إلى الناس أنفسهم وما كسبت أيديهم ، ولذا نجد التعبير بظلم النفس يتكرر في مواطن كثيرة في القرآن الكريم يقول تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: 118].
والأمة التي تصاب بأبنائها هي التي تتعرض للمصائب والنكبات وتصبح عرضة لغزو العدو .
فهي إذن عوامل ثلاثة تعمل معا: عدو خارجي متربص، ومجتمع، وأفراد. والمكانة التي تشغلها الأمة من محصلة هذه العوامل الثلاثة ، فقد تكون بسبب ضعفها الداخلي مغزوة من الخارج، وقد تكون بسبب قوتها الداخلية وتماسك مجتمعها غازية في الخارج.
وليست الحياة إلا صراعا تقاوم فيه الصعوبات التي تتحدى الفرد والجماعة ثم تكون الغلبة والانتصار أو الاستسلام والهزيمة؛ تلك سنة الله منذ بدء الخليقة) 22- من كتاب المسئولية. الدكتور / محمد امين المصري، ص13..
الهوامش
1-أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم (4297). وهو في صحيح سنن أبي داود (3610) .
2- من كتاب المسئولية. الدكتور / محمد امين المصري، ص13.
اقرأ أيضا
لماذا يتأخر النصر؟ ومن يستأهله؟
سنن النصر .. حتى يغيروا ما بأنفسهم