العبرة بمناط الإعانة على الحق والعدل، أو الباطل والظلم؛ ومن هناك يتحدد الحكم الشرعي في كل الأعمال والمواقف، فكل من أعان على إقامة الحق وإزالة الظلم أو التخفيف منه فهو مأجور؛ وكل من أعان الباطل وشايع الظلم فهو شريك في الإثم.
نقد فتيا الشيخ مصطفى بن العدوى المتعلقة بإباحة الإعانة على بناء السجون لنظام السيسي القمعي
هذا المقال هو تتمة المقال السابق [عندما يحضر العلم وتغيب السياسة الشرعية (1)] والذي ناقشنا فيه الفتوى التي تجيز المشاركة في بناء سجون الطواغيت…
قياس مسألة بناء السجون على مسألة الاختلاط في الأموال قياس مغلوط
وأيضا كأن الشيخ العدوي قاس هذه المسألة على مسألة الاختلاط في الأموال حيث ذهب فريق إلى إباحة قبول هدية من كان ماله مختلطا حلاله بحرامه، ثم لم يحرموا إجابة دعوته إلى نحو وليمة؛ ولكن في مسألتنا يجري عكس حكم مسألة اختلاط الأموال أي أننا هنا نحتاط لحرمة المسلم فإن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق كما نحتاط في أمر الفروج إذا اختلط حلالها بحرامها كما لو اختلطت أخته بأجنبية ولم يمكن التمييز فنمنع منهما جميعا لأن ترك الحرام لا يتم إلا بذلك، وما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب.
عقوبة السجن عقوبة غير شرعية
وأيضا لو قدر أن المساجين جنائيون فإن عقوبتهم ليست السجن فإن هذا عقاب بغير عقوبة الشريعة فهو باطل. ومعلوم أن تغيير العقوبات هو كتغيير التعبدات لأن كثيرا منها حدود وقصاص قدرها الشارع الحكيم ولا يرجع فيها إلى تقدير الحاكم بل واجب الحاكم فيها هو مجرد التنفيذ، لذلك اشتد النكير على أبي زهرة وغيره ممن أسقطوا حد الرجم في حق الزاني المحصن وعدوه عقوبة يهودية، وعلى أمثال القرضاوي ممن جعلوا رجم المحصن تعزيرا لا حدا، فإن هذا تبديل لشرع الله وتحريف للأحكام وخروج عن الإجماع المقطوع فيه بنفي المنازع.
المفتي لا يفتي بما يقوي الجاهلية ويوهن دين الإسلام
وأيضا فإن هدي السلف هو على لزوم إعمال القرائن والأمارات فضلا عن الأدلة القاطعة المعلومة بضرورة المشاهدة الواقعية فلا ينبغي للمفتي أن يعين المجرمين ويظاهر الظالمين ويفتي بما يقوي الجاهلية ويوهن دين الإسلام فإن في هذا أعظم المناقضة لمقصود الشارع.
قال شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية: (لا يعين المفتي على التحليل ولا على المكر، وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل فيغر الناس، ويكذب على الله ورسوله، ويغير دينه، ويحرم ما لم يحرمه الله، ويوجب ما لم يوجبه الله ..يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب، أو تحليل محرم، أو مكر، أو خداع، أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرا فطنا فقيها بأحوال الناس وأمورهم، يوازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ)1(1) إعلام الموقعين (4/176)..
حديث العرنيين وقول أنس “ما ندمت على شيء ما ندمت على حديث حدثت به الحجاج”
وتأمل كيف نحا الحسن باللائمة والعتب على أنس رضي الله عنه حين أفتى الحجاج بحديث العرنيين.
فقد أخرج أبو نعيم بسنده عن الحسن قال: دعا الحجاج أنس بن مالك، فقال له: ما أعظم عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ فحدثه بالذين قطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ولم يحسمهم، وألقاهم بالحرة، ولم يطعمهم، ولم يسقهم حتى ماتوا، فلما حدثه بهذا، قال الحجاج: وأين هؤلاء من الذين يعيبون علينا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عاقب بهذا؟ فبلغ ذلك الحسن فقال: إن أنسا يعمد إلى شيطان يلهب فيحدثه به2(2) حلية الأولياء [6/131]..
وحديث العرنيين أخرجه البخاري عن سلام بن مسكين أبي نوح البصري حدثنا ثابت عن أنس: (أن ناسا كان بهم سقم قالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا. فلما صحوا قالوا: إن المدينة وخمة. فأنزلهم الحرة في ذود له، فقال: “اشربوا من ألبانها”. فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا ذوده. فبعث في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت). قال سلام: (فبلغني أن الحجاج قال لأنس: حدثني بأشد عقوبة عاقب به النبي صلى الله عليه وسلم ، فحدثه بهذا، فبلغ الحسن. فقال: وددت أنه لم يحدثه)3(3) رواه البخاري (233) ، ومسلم (1671)..
وقوله: (وددت أنه لم يحدثه)، وفي رواية بهز عند الإسماعيلي: (فوالله ما انتهى الحجاج حتى قام بها على المنبر، فقال: حدثنا أنس -فذكره- وقال: قطع النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي والأرجل، وسمل الأعين في معصية الله، أفلا نفعل نحن ذلك في معصية الله؟)4(4) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (21/234)..
وأنس بن مالك رضي الله عنه هو من هو حفظا وفهما، ولكن فقه الحسن أشبه في هذه المسألة، لأنه ليس من الفقه (قول حق يستلزم فسادا أعظم من تركه) ، لذلك ساق الإسماعيلي من وجه آخر عن ثابت حدثني أنس قال: (ما ندمت على شيء ما ندمت على حديث حدثت به الحجاج) فذكره. وإنما ندم أنس على ذلك لأن الحجاج كان مسرفا في العقوبة، وكان يتعلق بأدنى شبهة) .
الموازنة بين مفسدة الكتمان ومصلحة التبليغ
وكان مقصود أنس رضي الله عنه تبليغ العلم والسنة، وهو قصد صالح بيقين، ولكنه لم يلتفت فيه إلى المناط الجديد. فإن الذي سينزل هذه العقوبات ليس هو أحد العمرين أو غيرهما من الراشدين الجامعين بين الفقه والورع، والعدل في الرعية، والرحمة بها، بل هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي لا يتورع عن سفك الدماء حتى ولو بلغه النهي عن ذلك في كثرة كاثرة من النصوص القطعية، فسؤاله لم يكن سؤال استرشاد واستعلام عن حكم الله تعالى حتى يلتزمه ويعمل به، فيكون من هذه الجهة مفتقرا إلى معرفة الحكم الشرعي، بل سؤاله كان طلبا للاستظهار بالحكم الشرعي إمتاعا لهوى النفس وإسعافا لها بمطلوبها.
فليس نظره في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه، بل نظر من حكم بالهوى، ثم أتى بالدليل كالشاهد له. فصار الحكم الشرعي بالأمر والنهي، تابعا لمراد نفسه ولذتها، وليس متبوعا كما هو المفترض.
ومعرفة هذا من الحجاج يستغنى فيها عن القرائن والأمارات لوضوح الأدلة وكثرتها، فيكون تبليغه مثل هذه الأحاديث إعانة له على ظلمه وإكسابه الشرعية على غشمه، وهذا ما قصده الحسن بقوله، فهنا يعمل أصل سد الذرائع القاضي بكتمان ما هو حق في نفسه، إذا كانت إذاعته تؤدي إلى مفسدة تربو سيئتها على مصلحة التبليغ، وهو أصل مقدم على أصل نشر العلم وإشاعة الأحكام، وقد استفدنا هذا من أصل الموازنة بين مفسدة الكتمان ومصلحة التبليغ، فكانت سيئة المفسدة تربو على حسنة المصلحة بمراحل شاسعة، فإن مفسدة التبليغ أعظم بكثير من مفسدة الكتمان، فتدرأ أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما. فكيف إذا كانت الفتيا ناكبة عن دلالة الكتاب والميزان وإجماع العلماء وفيها موالاة ومظاهرة أعداء الملة والشرعة على أنصار الشريعة الإسلامية.
ففقه الحسن في هذه المسألة شبيه بفقه الشعبي رحمه الله، فإنه كان يلعب بالشطرنج لما طلبه الحجاج لتولية القضاء، فرأى أن يلعب به ليفسق نفسه، ولا يتولى القضاء للحجاج، ورأى أن يحتمل مثل هذا ليدفع عن نفسه إعانة مثل الحجاج على مظالم المسلمين، وكان هذا أعظم محظورا عنده، ولم يمكنه الاعتذار إلا بمثل ذلك .
تحريم الشيء يقتضي تحريم مقتضياته وطرقه ووسائله
وأيضا فإن أصل اعتبار مآلات التصرفات أصل قطعي معتبر في الشريعة على الجملة، وهو معدود من أهم أصولها، والقول بإباحة إعانة النظام القمعي على بناء السجون التي يسجن فيها العلماء والدعاة المصلحين هو بمنزلة بيعه السلاح ووسائل التعذيب؛ فإباحة مثل هذه الإعانة يؤدي على أقل تقدير إلى مفسدة راجحة وإلا فإننا نقطع بأنه يؤدي إلى مفاسد محققة خالصة .
قال شيخ الإسلام ابن القيم: (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها. فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها. فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه، لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك)5(5) إعلام الموقعين (3/108)..
تحريم بناء السجون سدا لذريعة الإعانة على المعصية
ومن ذلك النهي عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوز هذا البيع ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تعين على معصية الله، كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يفسق به، أو يؤاجره لذلك، أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، وبيع الشموع أو إجارته لمن يعصي الله عليه، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه. ومن هذا عصر العنب لمن يتخذه خمرا، وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والمعتصر معًا ، ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر، وأن يجوّز له أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول القصد غير معتبر في العقد، والذرائع غير معتبرة ونحن مطالبون في الظواهر، والله يتولى السرائر وقد صرّحوا بهذا، ولا ريب في التنافي بين هذا وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بناء السجون وتحقق مآلاته الفاسدة يقينا
فالمآل في قضية الإعانة على بناء السجون ومراكز التعذيب للأنظمة اللادينية القمعية متحقق الوقوع وليس غالب الوقوع أو كثير الوقوع وهذا النوع محل وفاق بين أهل العلم حتى الظاهرية منهم.
قال ابن حزم: (ولا يحل بيع شيء ممن يوقن أنه يعصي الله به أو فيه، وهو مفسوخ أبدا، كبيع كل شيء ينبذ أو يعصر ممن يوقن أنه يعمله خمرا، وكبيع الدراهم الرديئة ممن يوقن أنه يدلس بها، وكبيع الغلمان ممن يوقن أنه يفسق بهم أو يخصيهم، وكبيع المملوك ممن يوقن أنه يسيء ملكته، أو كبيع السلاح أو الخيل ممن يوقن أنه يعدو بها على المسلمين، أو كبيع الحرير ممن يوقن أنه يلبسه، وهكذا في كل شيء لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة : 2]، والبيوع التي ذكرنا تعاون ظاهر على الإثم والعدوان بلا تطويل، وفسخها تعاون على البر والتقوى، فإن لم يوقن بشيء من ذلك، فالبيع صحيح لأنه لم يعن على إثم)6(6) المحلى لابن حزم (7/522). .
بل حتى لو اعتبرنا الإعانة على بناء السجون محل البحث مما يغلب على الظن وقوع مآلاته الفاسدة فهو معتبر أيضا، فالغالب كالمتحقق، وقد أجراهما العلماء على نسق واحد.
اعتبار ما يغلب وقوعه من المآلات في الشرع
ومن الأدلة على اعتبار ما يغلب وقوعه من المآلات حديث: “إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: “يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه”7(7) أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (90) باختلاف يسير..
قال الصنعاني: (في الحديث دليل على أنه يعمل بالغالب، لأن الذي يسب أبا الرجل قد لا يجازيه بالسب، لكن الغالب هو المجازاة)8(8) سبل السلام (2/535)..
بل إذا كان وقوع المآل كثيرا وليس غالبا، فالجمهور على اعتباره. فكثرة وقوع الفعل مظنة لقصده، وقرينة تثير ظنا قويا على قصد المآل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والفعل إذا اشتمل كثيرا على ذلك [أي المفاسد والشرور] وكانت الطباع تقتضيه، ولم يكن فيه مصلحة راجحة حرمه الشارع قطعا. فكيف إذا اشتمل على ذلك غالبا؟ .. فكل فعل أفضى إلى المحرم كثيرا، كان سببا للشر والفساد، فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية، وكانت مفسدته راجحة نهي عنه. بل كل سبب يفضي إلى الفساد نهي عنه، إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة. فكيف بما كثر إفضاؤه إلى الفساد؟ ولهذا نهي عن الخلوة بالأجنبية)9(9) الفتاوى الكبرى (4/465)..
لماذا كره الإمام أحمد لبس السواد وخياطته؟
وقد ذهب الإمام أحمد إلى كراهة لباس السواد في وقته، حيث كان شعارا للولاة والجند على ما كانوا فيه من الظلم والكبرياء وإرهاب المسلمين وترويعهم، رغم صحة الآثار بجواز لبسه، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس السواد ، فكان شعار الولاء للنظام السياسي وقتئذ، حتى إنه يظن بمن لم يلبسه بأنه خارج عن طاعة السلطان، فكان أحمد يفتي بالمنع من لبسه وخياطته، لا سيما للجند لأن في ذلك إعانة لهم على الظلم، وعلى ترويع المسلمين .
وهل يظهر بيع اللباس وخياطته للظالمين أمام إعانتهم على بناء السجون ومراكز التعذيب والمعتقلات؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلما كان معونة على الظلم والشر وإيذاء المسلمين، صارت خياطته وبيعه بمنزلة بيع السلاح في الفتنة، وكره أن يلبسه الرجل إذ ذاك، لأنه من تشبه بقوم فهو منهم، ولأنه يصير بذلك من أعوان الظلمة، أو يخاف عليه أن يدخل في أعوانهم، وفي معنى هذا، كل شعار وعلامة يدخل بها المرء في زمرة من تكره طريقته، بحيث يبقى كالسيما عليه، فإنه ينبغي اجتنابها وإبعادها. وكل لباس يغلب على الظن أن يستعان بلبسه على معصية، فلا يجوز بيعه وخياطته لمن يستعين به على المعصية والظلم. ولهذا كره بيع الخبز واللحم لمن يعلم أنه يشرب عليه، وبيع الرياحين لمن يعلم أنه يستعين به على الخمر والفاحشة، وكذلك كل مباح في الأصل، علم أنه يستعان به على معصية، وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأوقات والأحوال، فهذه كراهة لسبب عارض)10(10) شرح العمدة في الفقه – لابن تيمية – تحقيق د/ سعود صالح العطيشان (4/ 385 – 386)..
فبيع الخبز واللحم مباح في الأصل، ولكن لما صار يستعان به على مجالس الخمر والفحش والخنا حرم بيعه لمن يستعين به على ذلك.
كل ما أعان على الإثم والعدوان فهو ممنوع
وفتوى الإمام أحمد مبنية على النظر في روح النصوص، وفي حقيقة الواقع، وهو الذي نسميه السياسة الشرعية وهو الوعي المطلوب توفره في المفتين والمصلحين. أما روح النصوص، فإنه أمر محكم قاض بالمنع من التعاون على الإثم والعدوان، فكل ما أعان على الإثم والعدوان فهو ممنوع، ولا فرق مؤثرا بين بيع السلاح للظالم، أو خياطة ثيابه وبيعه ما يستعين به على الظلم، أو إعانته على بناء مراكز التعذيب والسجون والمعتقلات. وأما روح الواقع فهو برهان المشاهدة الذي لا يكتفي بظاهر التصرفات، بل ينظر في مآلاتها، فرب مباح يصير بالنظر في مآله محرما، وذلك إذا كان فيه إعانة على الظلم وترويع الآمنين.
فالإمام أحمد _ وهو إمام أهل السنة والحديث_ يمنع من الإعانة على الظلم بكل صوره القريبة والبعيدة، بخلاف فقهاء الرأي الذين لم يلتفتوا إلى مناط الإعانة على الإثم والعدوان.
فمعلوم أن إجارة البيت على المنفعة المحرمة لا يجوز، كأن يؤجر بيته لمن يبيع فيه الخمر أو يتخذه كنيسة، وحتى الشافعي لم يخالف هنا، لأن الإجارة كانت على نفس المنفعة المحرمة، وكانت صريحة في العقد، فهذا كما لو آجر أمته للفجور.
وجوب النظر في روح النصوص، وفي حقيقة الواقع
ومع وضوح القصد إلا أن فقهاء الرأي جوزوا الإجارة على المنفعة المحرمة .
قال أبو بكر الرازي: (لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيه الخمر، وبين ألا يشترط، لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر، أن الإجارة تصح، ومأخذه في ذلك أنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط له ألا يبيع فيها الخمر ولا يتخذها كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء، كان ذكرها وترك ذكرها سواء، كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك، وكذلك يقول فيما إذا استأجر رجلا لحمل خمر أو خنزير: إنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمل عليه بدله عصيرا استحق الأجرة، فهذا التقييد عنده لغو، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزة، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا .
وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض، وهي منفعة محرمة، وإن جاز للمستأجر أن يقيم مثله مقامه؛ وألزموه ما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا، فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارة.
ونازعه كثير من الفقهاء في المقدمة الثانية، وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة له، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها؛ والعاصر إنما يعصر عصيرا، لكن إذا رأى أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا أو عصيرا استحق اللعنة)11(11) اقتضاء الصراط المستقيم ص236-237..
فأنت ترى أن فتوى أبي حنيفة تسير في اتجاه معاكس للأصول والمقاصد والكليات فيجوز عنده أن تأذن الشريعة التي كلها عدل وخير وحكمة ومصلحة، في عقد الإجارة على المنافع المحرمة، وهذا أمر تنزه عنه حكمة العقلاء، فكيف ينسب إلى الله تعالى الحكيم العليم الذي يأمر بالعدل والإحسان والخير، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؟
فأين من يمنع من المباح الذي ربما كان ثابتا في السنة، إذا كان فيه إعانة على الإثم والعدوان، ممن يبيح التعاون الصريح على الإثم والعدوان المنهي عنه بالنص الصريح؟
شروط الكلام بعلم وعدل
وفي ختام هذه الكلمة، ندعو الله تعالى لنا ولسائر إخواننا لاسيما المشتغلين بالشأن العلمي أن يرزقنا البصيرة النافذة عند ورود الشبهات والقوة على الدعوة والثبات، فإن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم القائمون بالدين علما وعملا ودعوة وولاء وبراء، وأن يجعلنا من أهل الصبر واليقين فإن الإمامة في الدين لا تنال إلا بذلك قال تعالى: (وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون) [سُورَة السَّجْدَة 24]
كما نتمنى على الشيخ مصطفى وغيره ممن انتسبوا إلى السنة والجماعة ومنهج سلف الأمة أن يلقحوا علمهم بالسنة بالتبحر في علم الأصول والاطلاع على مقاصد الشريعة وكلياتها وأن يحتفلوا بعلم الأمارات والقرائن وعلم الأولويات والموازنات، فإنه روح العلم فليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين ليحصل الترجيح على مراد الله تعالى. ومن فاته هذا الميزان المبارك فلم يحسن المقابلة بين ما في الأفعال والتروك من المصالح والمفاسد فإنه يوقع الأحكام على غير مناطاتها فيترك الواجبات تعبدا ويفعل المحرمات تعبدا ويوالي من أمرت الشريعة بمعاداته ويعادي من أمرت الشريعة بموالاته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: (لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم)12(12) مجموع الفتاوى (19/ 203)..
فقه الواقع وتأثيره على الفتاوى الشرعية
كما نتمنى عليهم ألا يتعجلوا في الفتيا لا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي وأن يراعوا الاقتضاءات التبعية والضمائم والإضافات، فإن من شأنها تغيير الحكم، فإن بعض من انتحلوا طريقة السلف صاروا ينكرون فقه الواقع وتأثيره على الفتاوى الشرعية، رغم أنه في حقيقته ليس إلا النظر في مآلات الأفعال، ولا يخرج عن قانون السياسة الشرعية، كما بسطنا القول فيه في موطن آخر، بل إن منهم من ينكر الفكر الإسلامي دون تفصيل بشأنه، علاوة على إنكارهم لضرورة الوعي السياسي الإسلامي؛ فهم يريدون الانكباب على العلم وحده بقطع النظر عن مقاصد الشارع منه، فإن العلم لم يمدح لذاته كما قال جمع من السلف، وإنما مدح للعمل وإصلاح الواقع، ورأس العمل هو مغالبة الوثنية والجاهلية به كما قال تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52] أي جاهدهم بالقرآن الذي هو مصدر العلم النافع، فالعمل به خاص وعام، أي ما يتعلق بالفرد وما يتعلق بالأمة، أو إن شئت قلت: منه ما يتعلق بالفروض العينية، ومنه ما يتعلق بالفروض الكفائية التي تأثم الأمة عن بكرة أبيها إذا ضيعتها، ومن أهم فروض الكفاية تحكيم الشريعة والسنة وإبطال التزام اللادينية وأحكام الجاهلية في كل المجلات، ولكن للأسف الشديد فإن من القوم من يصحح ولاية اللادينية ويظاهرها ويقف للمصلحين بكل صراط. والأمر كما ترى؟.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الهوامش
(1) إعلام الموقعين (4/176).
(2) حلية الأولياء [6/131].
(3) رواه البخاري (233) ، ومسلم (1671).
(4) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (21/234).
(5) إعلام الموقعين (3/108).
(6) المحلى لابن حزم (7/522).
(7) أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (90) باختلاف يسير.
(8) سبل السلام (2/535).
(9) الفتاوى الكبرى (4/465).
(10) شرح العمدة في الفقه – لابن تيمية – تحقيق د/ سعود صالح العطيشان (4/ 385 – 386).
(11) اقتضاء الصراط المستقيم ص236-237.
(12) مجموع الفتاوى (19/ 203).
المصدر
صفحة الدكتور سليم سرار
اقرأ أيضا
عندما يحضر العلم وتغيب السياسة الشرعية (1)
إلى علماء الأمة ودعاتها .. اتقوا اللَّهَ وكونوا مع الصّادقين