إن الدعوة إلى الانفراد وعيش العزلة وعمل المسلمين اليوم بهذا هو الذي أقعدهم عن الأعمال المجيدة وأفقدهم ثمرات الحياة التي يتطلب قطفها تأسيس جماعات وتوحيد قوى كثيرة لأن الأعمال الجسيمة لا يمكن للفرد الواحد من البشر أن يقوم بها وحده مهما كان قويا.

الفهم الصحيح لحديث «عليك بخويصة نفسك»

هذه فقرة من كلام سيد المرسلين طالما تكررت على الألسنة كضرب مثل يرمي إلى أن يجعل المؤمن في معتزل عن أبناء دينه وأمته خلاف حكمة الباري تعالى خلقه وخلاف تعاليم الشرائع السماوية ولقد استطاعت الدسائس أن تجعل العامة وكثيرا من الخاصة تحفظها وتفهم لها معنى لم يرده الله ورسوله وأراده أعداء المسلمين.

نعم لم يرده الله تعالى ورسوله لأن الشريعة الإسلامية اعتبرت المسلمين كجسد واحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، غير أنه مهما بلغت أمة من كمال الصلاح والتقى فلابد من وجود أشرار فيها مذبذبين يحيدون عن سبيل الصواب ويسلكون طريق الغواية فكان حديث «عليك بخويصة نفسك» تسلية لصالحي المؤمنين بأنه لا يضرهم من ضل من المسلمين ولم يقبل سلوك طريقهم إذا اهتدوا وساروا على جادة الحق والهدى، لكن لا يخفى أن الهداية هي قبول الدين الإسلامي بكل ما جاء به ثابتا عن الله ورسوله وأن مما جاء في الشريعة المطهرة بل هو ركنها الوطيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أصاب العرب والإسلام ما أصابهما لم يكن إلا بسبب تركهم لهما.

عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فقد روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم».

وروى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن أول ما دخل النقص في بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فكما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قرأ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)» ثم قال: «كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا» أي تقهرونه وتلزمونه على الحق قهرا.

النجاة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وكيف يتخلى المسلمون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم في سفينة الحياة سائرون لو أطلقوا العنان لأدوات الفساد لهلك الجميع غرقى وذلك هو المثل الذي رواه البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» على أن الشريعة الإسلامية لاحظت الأيدي التي ستعبث في الإسلام باسم الدين فحالت دون ذلك، لو أن المسلمين التفتوا قليلا إلى السنة النبوية التي هي تفسير للقرآن ولاحظوا ما تشتمل عليه آيات الفرقان من الحكم والدقائق.

روى الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن حبان في صحيحه عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإني سمعت رسول الله يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده».

فمن هذا تعلم أن حديث «عليك بخويصة نفسك» وآية (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قد أخرجوهما عن المراد للشارع وجعلوهما ألسنة لإفساد الأمة وإيجاد الوهن في عزيمتها حتى نهجت الأمة خطة الفرق والجبن التي أورثتها الذل والجهل والانحطاط بعد أن كانت الآية الكريمة نزلت للقوة و … و …

على أن كثيرا من علماء المسلمين قد نبهوا على خطأ فهم الناس لهما وأنهم شوهوا معناهما ودونك نص عبارة النووي في شرح مسلم تفسيرا للآية، قال: (لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا فعله ولم يمتثله المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه فإن عليه الأمر والنهي لا القبول والله أعلم) ا ه.

«عليك بخويصة نفسك» أرادوا بها الانفراد وعيش العزلة

فالدعوة إلى الانفراد وعيش العزلة وعمل المسلمين اليوم بهذا هو الذي أقعدهم عن الأعمال المجيدة وأفقدهم ثمرات الحياة التي يتطلب قطفها تأسيس جماعات وتوحيد قوى كثيرة لأن الأعمال الجسيمة لا يمكن للفرد الواحد من البشر أن يقوم بها وحده مهما كان قويا.

وقد بلغ من تغلغل هذا المثل في نفوسنا ومشاعرنا أن أصبح دستورا لمعظم أعمالنا الاجتماعية مع أنه القاصم المهلك ولهذا تجد المشاريع الخيرية عندنا مفقودة وإن وجدت لا تنجح لأن كل فرد منا نسي كلمة (مصلحة الأمة) و (فرض الدين) ولكنه حفظ كلمة «عليك بخويصة نفسك» التي فهمها على غير وجهها ورددها كثيرا حتى امتزجت بدمه واختلطت بعظمه ولحمه.

كثيرا ما تجد الناس يتساءلون لم لا تؤسس الجمعيات عندنا وإن قمنا بجمعية ولو صغيرة فإن النجاح لا يوافقها، فكأنهم لا يعملون ولا يشعرون.

فالجواب هو كلمة «عليك بخويصة نفسك» التي تكررونها في غير محلها فصرفتكم عن المصالح العامة وأورثت فسادا في الأخلاق وطمعا أخل بالنظام الاجتماعي لعدم ائتلافه بسببها مع العدل وحقوق الأمة.

الشريعة المطهرة تدعو لتحقيق المصلحة العامة

لا شك أنه لا يمكننا القيام بالمشاريع الخيرية إلا بعد التحقق بآية: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وبالحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمنون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسه اشتكى كله وإذا اشتكى عينه اشتكى كله» والذي رواه البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» ثم شبك بين أصابعه، ومن قواعد الديانة الإسلامية أنه يجب على المؤمن أن يعد منفعة أخيه المؤمن منفعة لنفسه ويعتقد أن المال الذي بيده هو مال المسلمين جميعا وإن كان تحت تصرفه وإرادته.

ألا ترى أن الصبي أو الرجل المبذر السفيه يحجر عليه، ولماذا؟ لأنه يضيع مالا يحق لأمته أن تستفيد منه عند الحاجة، قال تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) فأضاف تعالى مال السفيه للمسلمين باعتبار أنهم جسد واحد.

فإذن لا نجاح للمسلمين إن لم يعتبر كل واحد منا منفعة أمته منفعة له وهذه خطة المسلمين في صدر الإسلام ولكن دسيسة تشويه «عليك بخويصة نفسك» وأمثالها فرقت المسلمين أحزابا وشيعا وجعلت كل فرد منهم معرضا عن المصلحة العامة ولا يفكر إلا في نفسه ومطامعه الذاتية ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كلام اللغويين والفقهاء وكبار شراح الحديث في توجيه معنى «الخويصَّة»

والخويصَّةُ في اللغة: تصغير خاصَّةً.

وأما معناها اللغوي: (قلت: وتصغَّر الخاصّة خُوَيْصَّة. وَفِي الحَدِيث: «خُوَيْصَّة أحدكُم» يَعْنِي المَوْت)1(1) «تهذيب اللغة» للأزهري [6/ 292].. وقال مثله ابن فتوح الحميدي: («خويصَّة أحدكم»: يعني الموتَ الذي يخصُّه، ويمنعه من العملِ إن لم يبادر به قبله)2(2) «تفسير غريب الصحيحين» [ص 336]، ومثله في «غريب الحديث» لابن الجوزي [1/ 281]. ومثله في «مجمع بحار الأنوار» للفتني [2/ 46]، وزاد: («خويصَّة أحدكم»، أي: حادثة الموت التي تخصص كل إنسان، وهي تصغير خاصَّة، لاحتقارها في جنبِ ما بعدها، من البعثِ، والعرْضِ، والحسابِ. ومبادرتُها بها: الانكماش)..

وقال القاضي عياض: (قوله: «بادروا بالإسلام ستًّا»، وذكر: «خويصَّة أحدكم»، يعني: نفسَ. وهو تصغير خاصّة، ويروى: «خاصّة أحدكم». قيلَ: يريد موتَه)3(3) «المشارق» [1/ 243].. ونحى نحو القول الأخير الشهاب التوربشتي حيث قال: (وفُسرت الخويصَّةُ بالموتِ. ولو قيلَ: هي ما يختصُّ به الإنسانُ من الشواغل المقلقَة في نفسِه، وماله، وما يهتمُّ به؛ فله وجْهٌ، بل هو أوجَهُ)4(4) «شرح مصابيح السنة» [4/ 1162]..

وقال القرطبي في «المفهم» [7/ 308]: (قوله: «وخاصَّة أحدكُم» يعني به: الموانع التي تخصه مما يمنعه العمل، كالمرض، والكبَر، والفقر المنسي، والغنى المطْغي، والعيال، والأولاد، والهموم، والأنكاد، والفتن، والمحن إلى غير ذلك مما لا يتمكن الإنسان مع شيء منه من عمل صالح، ولا يسلَّم له. وهذا المعنى هو الذي فصَّله في حديثٍ آخَر، حيث قال: «اغتنم خمساً قبل خمسٍ».

ثم قال: وقوله: «وأمر العامة» يعني: الاشتغالَ بهم فيما لا يتوجَّه على الإنسان فرضُه. فإنهم يفسِدُون من يقصد إصلاحَهم، ويهلكونَ من يريد حياتهم، لا سيما في مثل هذه الأزمانِ التي قد مرجَتْ فيها عهودُهم، وخانت أماناتُهم، وغلبتْ عليهم الجهالاتُ والأهواء، وأعانهم الظلمةُ والسفهاء. وعلى هذا؛ فعلى العامِل: بخويصَّة نفسِه، والإعراضُ عن أبناء جنسِه إلى حلول رمسه، أعاننا الله على ذلك بفضله وكرمه)5(5) «المفهم» [7/ 308]..

الخلاصة من كلام اللغويين والفقهاء وكبار شراح الحديث في توجيه معنى «الخويصَّة». .

أنها تعني:

إما الموت، الذي هو خاصة كل نفس.

أو الاشتغال بخاصة النفس، مما يهمها من كل الشؤون التي تعتري بني البشر.

أو عليك بأمر نفسك وأهلك وأولادك وبطانتك ومن يطيعك وحضهم على التمسك بالدين.

الهوامش

(1) «تهذيب اللغة» للأزهري [6/ 292].

(2) «تفسير غريب الصحيحين» [ص 336]، ومثله في «غريب الحديث» لابن الجوزي [1/ 281]. ومثله في «مجمع بحار الأنوار» للفتني [2/ 46]، وزاد: («خويصَّة أحدكم»، أي: حادثة الموت التي تخصص كل إنسان، وهي تصغير خاصَّة، لاحتقارها في جنبِ ما بعدها، من البعثِ، والعرْضِ، والحسابِ. ومبادرتُها بها: الانكماش).

(3) «المشارق» [1/ 243].

(4) «شرح مصابيح السنة» [4/ 1162].

(5) «المفهم» [7/ 308].

المصدر

جريدة الشريعة النبوية المحمدية العدد: الثالث، بوزيدي الحسن بن بلقاسم.

اقرأ أيضا

لوازم العبادة والتوكل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

العدل والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمة الإسلامية بين أسباب السقوط وعوامل النهوض

التعليقات غير متاحة