نشأ عبد الله بن أنيس في المدينة، وقد أكرمه الله بالسبق في الإسلام، فكان ممن آمن على أيدي من بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، لم يشهد بدرًا، وشهد أحدًا والخندقَ وما بعد ذلك من المشاهد مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وبعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سَرِيَّةً وَحْدَهُ..
عبد الله بن أنيس
وكنت إذا هَمَّ النبي بكافر سبقت إليه باللسان وباليد
على الرغم من كل ما بذلت قريش لتصد عن سبيل الله، إلا أن نفراً من اليثربيين استمعوا للرسول، فما كان منهم إلا أن بادروا بالإسلام، فهم قد سمعوا من يهود عن نبي يرسل بالدين الحنيف، وكانوا يتوعدونهم به، فكان من همتهم وفطنتهم، ومما أكرمهم الله به، أن سبقوا إليه وآمنوا به، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواعدوه الموسم من العام المقبل، يلقونه فيه، وقد دعوا قومهم إلى الإيمان، وجاؤوا بغيرهم لمبايعة رسول الإسلام.
دخول عبد الله بن أنيس في الإسلام
وعاد المؤمنون إلى المدينة، ونشطوا بالدعوة للدين الحنيف، ولاقوا من أهل المدينة الاستجابة الحسنة، وبادر الكثير من الشباب إلى الإيمان بالإسلام، وكان من بين هؤلاء الشباب عبد الله بن أنيس.
ونما المجتمع الإسلامي في المدينة نمواً سريعاً، وكان عبد الله بن أنيس واحداً ممن عملوا على نمو الجماعة المسلمة بما بذله من جهد وما أبداه من نشاط في الدعوة إلى الله، لقد خالطت بشاشة الإسلام قلبه، وملكت عليه لبه، فلم يعد في حياته غير هذا الدين وحبه، وغير هذا الرسول وربه، فمضى بشبابه الوثاب يبني لبنة في صرحه، ويساهم في إرساء أسسه.
ودار العام، وتهيأ المسلمون سراً لموسم الحج، ونظموا من بينهم جماعة لتلقى الرسول وتؤكد البيعة. وكم كانت فرحة ابن أنيس عندما اختاروه من بين أفراد الوفد، فهو لم ير الرسول بعد، وكم تمنى أن يراه ويسمعه، بل كم طاف به خياله، فانتقل به إلى مكة وحوم به حول الكعبة يبحث عن الرسول الحبيب، فكان هذا يزيده شوقاً إلى شوق ولهفة إلى لهفة!
الحرص على الخير
وبدأ العمل لبناء المجتمع الإسلامي الأول، وعبد الله بن أنيس يساهم في هذا البناء بكل ما أوتي من جهد وطاقة، لا يكل ولا يمل، فهو دائب الحركة، دائم العمل ولكن بُعدَ منزله من قلب المدينة كان يشق عليه، خاصة وأنه كان حريصاً على القرب من منبع الهداية والنور والخير، فقد تابع حضور مجالس الرسول نهاراً، ولكن الذي كان يؤوده حضورها ليلاً، خاصة في رمضان الخير، وقد أحب أن يكون حاضراً ليلة القدر من كل رمضان ما دام لا يستطيع أن يحضر كل لياليه، فأتى الرسول وقال له: يا رسول الله، إني شاسع الدار، فمرني بليلة أنزل لها.
فقال – عليه السلام -: انزل ليلة ثلاث وعشرين.
فكان عبد الله حريصاً على هذه الليلة، لا يفوته النزول لها، ولا يشغله عن ذلك شيء مهما بلغ، وكان يرى أنها ليلة القدر.
عبد الله بن أنيس يقتل عدو الله سلام بن حقيق
وبدأ الصدام بين الدولة الإسلامية الناشئة وبين من وقفوا في وجهها، وجاهروها بالعداء، فكانت الوقائع مع قريش الكفر، وكانت الصدامات مع يهود، وكان عبد الله بن أنيس حاضراً لهذه الأحداث، لا يغيب عنها، إلا ما كان من غيابه عن بدر لعذر عند رسول الله مقبول.
وكشر يهود عن أنيابهم، وسلوا سيوفهم في وجه الإسلام وأهله، وبذلوا أموالهم – وهم أضن الناس بها – للقضاء على الإسلام في المدينة، وكان من أشد الناس عداوة لله ورسوله والمؤمنين، ملك يهود في خيبر أبو رافع سلام بن أبي الحقيق فهو قد حرّض إخوانه يهود بني النضير على قتل الرسول غيلة، وقد استمعوا إليه، وحاولوا، ولكن الله منع رسوله ونجّاه، وكان سلام – على حرصه وشحه – يبذل ماله للأعراب يحرضهم على غزو المدينة وانتهابها، وكان على رأس الوفد الذي أتى مكة مخططاً لغزو المدينة، ثم كان مندوب الأحزاب إلى قبائل غطفان يحرضهم ويدُعُّهم إلى حرب الإسلام ممنياً إياهم بالنصر والغنم الكبير.
وفي مجلس الرسول الكريم تذاكر المسلمون عداء سلام ابن أبي الحقيق لله ورسوله، ورأوا أنه لا يكف عن الكيد للإسلام والمسلمين حتى يكف قلبه عن الخفقان، وأن ما فعله بالمسلمين وما يكنه لهم من حسد وحقد جدير بأن ينفذ المسلمون به حكم الموت.
وكان هذا ما قرره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانتدب من أصحابه لهذه المهمة من يجيدها فاختار عبد الله بن عتيك لرئاسة المجموعة الفدائية وذلك لأنه كان متقناً للغة يهود واختار معه جماعة من أجرأ الرجال من بينهم عبد الله بن أنيس.
اجتمعت هذه الجماعة ورتبت أمورها وأعدت خطتها ثم عرضتها على رسول الله فأقرها وزود الجماعة بتوجيهاته وتوصياته، وأمرهم بالانطلاق على بركة الله.
وفي ليلة النصف من جمادى الآخرة سنة ست من هجرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطلقت المجموعة إلى هدفها، وكانت حريصة على تنفيذ توصيات الرسول في كتمان أمرهم وتعمية خطتهم عن عدوهم. فكانوا يسيرون الليل ويكتمون النهار إلى أن وصلوا مشارف خيبر وأطلوا على حصونها المتعددة، فقصدوا واحداً منها هو بغيتهم ومقصدهم، حصن سلام ابن أبي الحقيق، عدو الله وعدو رسوله.
فاتخذ الفدائيون الصحابة ركناً من الحصن يتوارون فيه بانتظار رقدة القوم. ولبثوا في مكمنهم إلى منتصف الليل، ولما سكنت الأصوات واطمأنوا إلى هجعة القوم قاموا من مكمنهم وتقدموا إلى هدفهم، أبي رافع سلام ابن أبي الحقيق الذي يرقد في القصر الذي يقابلهم.
كانت غرفته في علية بالقصر، يصعد إليها بدرج متعرج يمر على غرف متعددة. فحرص الفدائيون على أن لا يحدثوا نأمة (الصوت الضعيف) ، فتتابعوا يصعدون الدرج بخفة وسرعة، وعندما وصلوا غرفة الطاغية تنبهت امرأته فتقدم منها واحد من المجموعة ورفع عليها السيف، مهدداً متوعداً، ذاكراً وصية رسول الله أن لا يقتلوا سوى أبي رافع إن استطاعوا، فلاذت بالصمت وانكمشت في مكانها وهي ترتعد من الخوف، وتقدم الآخرون من فراش أبي رافع والظلمة الحالكة تلف المكان، فلا يكادون يتبينون موضعه، ولكنهم تناوشوا جسده بالسيوف، فكانت ضرباتهم بين ضربة طائشة وأخرى غير قاتلة. وتقدم عبد الله بن أنيس بثبات إلى الجسد المسجى أمامه وقد سالت دماؤه وارتفع صوته بالنجدة والغوث، فغرس فيه سيفه حتى أنفذه.
وانتظرت المجموعة في مكمنها تراقب الحصن لتتأكد من موت عدو الله، فلم تمر ساعة حتى نادى مناد: ” لقد هلك سيد خيبر، لقد مات ملك يهود، أبو رافع سلام ابن أبي الحقيق “.
لقد نزلت هذه الكلمات على صدورهم نزول الماء على الأرض العطشى، فانطلقوا والفرحة تغمرهم عائدين إلى مدينة الرسول، يستحثون ركابهم وهم في شوق غامر لمقابلة الرسول لينهوا إليه النبأ ويزفوا البشرى، لقد انتهى عدو الله، سلام بن أبي الحقيق.
واقترب الركب من مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعوا صوته يحدث الناس، فأسرعوا إليه فنظر إليهم وهم يقبلون إليه بوجوه تنطق بالسرور، فقال لهم مبتسماً: أفلحت الوجوه! فما أعظمها من كلمة تخرج من فم الرسول الذي لا ينطق عن الهوى: أفلحت الوجوه!
وتسارع الجماعة فترد عليه بصوت واحد: أفلح وجهك يا رسول الله.
نعم، أفلح وجهك يا رسول الله، فما كانت هذه الوجوه لتفلح لولا هديك وإرشادك.
وتحلّق الناس حول العائدين بالفلاح يستمعون إلى حديث مصرع سلام بن أبي الحقيق، وإنه لحديث!
وتنازع الفدائيون عند رسول الله فيمن قتل أبا رافع، وكل واحد يقول: لسيفي هو الذي قتله، وابتسم الرسول لأولئك الذين يتنازعون الشرف العظيم، وإنه لشرف يُتنازع عليه! وأشار الرسول بيده أن اسكتوا، ثم طلب من كل واحد منهم أن يعرض عليه سيفه، فاستعرضها، ثم التفت إليهم وقال: لسيف عبد الله بن أنيس هو الذي قتله، أرى فيه أثر الطعام.
لقد ذهب عبد الله بن أنيس بهذا الشرف الكبير، وإن كان لا يغمط أصحابه ما ساهموا به في هذا العمل الجليل.
اليسير بن رازام زعيم جديد لليهود
لقد كان قتل سلام بن أبي الحقيق ملك يهود حدثاً عظيماً هز خيبر ويهود هزاً عنيفاً، فلم يعودوا آمنين في حصونهم وبين أهلهم، لقد أخذ المسلمون عليهم البلاد، وأحاطوهم بجدار من الرعب، فلم يعد أحدهم يأمن على نفسه في سربه وبين ذويه.
وتنادت يهود لبحث ما جد من أمورها، فاجتمع القوم يبحثون في علاقاتهم مع المسلمين، هل تستمر على ما هي عليه من خصام وعداء، أم يجنحون إلى السلام ويفيئون إلى الوئام؟!
واختار يهود لأنفسهم ملكاً وسيداً “اليسير بن رزام” خليفة سلام المصروع، وتسلم زعامة خيبر!
وكان أول عمل بدأ به اليسير أن شد رحاله وتوجه إلى قبائل غطفان، وأخذ يؤلبها على محمد ويذكرها بيوم الأحزاب، وأنهم كانوا قاب قوسين من النصر لولا عارض الريح الذي جعلهم ينكصون عن القتال، وأخذ يحثهم ويجزل لهم العطاء، ويكثر فيهم البذل، ويمنيهم بالوعود ليكونوا معه إلباً على محمد وعلى المسلمين.
نهاية اليسير بن رازام
وترامت أخباره إلى المدينة، وعلم الرسول بما يدبره اليسير مع غطفان، وتذكر يوم الأحزاب وما لقيه المسلمون من يهود وكيدها وغطفان وعدوانها، فأراد أن يحسم الأمر ويقطع دابر المؤامرة، فاجتمع بنفر من الصحابة، وتدارسوا الأنباء، وعرفوا أن اليسير هو الذي يتولى كبر المؤامرة، وينفخ في نار الفتنة، فقرروا أن يعالجوا أمره بالسياسة والإقناع لعله يرعوي عن غيه ويكف من شره، فيجنب قومه الحرب وبلده الخراب!
وفي محاولة لتلافي أخطار الحرب أرسل الرسول عليه السلام جماعة من الصحابة برئاسة عبد الله بن رواحة – رضي الله عنه – ومن بينهم عبد الله بن أنيس، مهمتهم الأولى إقناع اليسير بالسلام، وأن يكف عن الغدر والخداع.
وانطلق الركب إلى خيبر يحدوهم أمل بإقناع سيد يهود بما يحملونه له ولقومه من سلام وأمان، وفي الوقت نفسه يستعدون لما يتوقعونه من عناد يهود وإصرارهم على العداوة والبغضاء، غير غافلين عما يمكن أن يلاقوه منهم من غدر عرفوا به، فأصبح لهم سمة لا تريم عنهم ولا تزول!
ووصلوا خيبر هذه المرة معلنين، وطلبوا مقابلة اليسير فاستقبلهم في مجلسه متجهم الوجه عابسه، يريهم من نفسه قوة وصلابة وجلداً، فجلسوا إليه وكلموا فيما جاءوا من أجله وذكروه نتائج الغدر وما جره على يهود من ذل وقتل وسباء، والرجل مطرق يستمع. وبعد أن انتهوا رفع رأسه وقال: ماذا تريدون مني؟ لقد قتلتم قومي، وشردتم أبناء ديني، واستوليتم على أموالنا وأرضنا ومتاعنا، وقد ندبني قومي للانتقام لما أصابهم، والانتصاف منكم!
فقالوا له: لقد أصابكم ما أصابكم جزاء ما اقترفت أيديكم، فأنتم الذين غدرتم فعاد غدركم عليكم، وأنتم الذين نكثتم العهود والعقود، فكان ذلك وبالاً عليكم ودماراً، فهل تنوون أن تستمروا على ما أنتم عليه؟ فوالله إنها للحالقة هذه المرة، وقد أنذرناكم، وما نرى لك يا ابن رزام إلا أن تأتي رسول الله وتأخذ منه لنفسك وقومك ما يجنبكم الفناء، وقد نصحنا لكم، فأنتم وما ترون.
فقال اليسير: وما لي عند محمد إن أنا سالمت وهادنت؟
قالوا: إنك إن قدمت على رسول الله استعملك وأكرمك.
قال: أمهلوني إلى غد لأرى رأيي وأستشير قومي. .
واختار اليسير مجموعة من شباب يهود ليرافقوه في رحلته إلى المدينة، وعلى الرغم من تردده في الذهاب إلا أن أهل خيبر آثروا أن يذهب ليرى ما عند محمد، وبعد ذلك يقررون ماذا سيكون من أمرهم معه.
وحرص المسلمون في عودتهم أن يأخذوا حذرهم، فيهود لا تكف عن الغدر، فهو يجري منها مجرى الدم، فوزعوا أنفسهم بين يهود حتى يكونوا مستعدين لكل طارىء، أما اليسير فقد أردفه عبد الله بن أنيس على بعيره، وكان عبد الله حذراً أشد ما يكون الحذر، متنبهاً أشد ما يكون التنبه
يراقب اليسير ويعد عليه حركاته وسكناته ويحصي عليه أنفاسه، لا يدع شيئاً من أمره يغيب عنه، وعبد الله رجل شديد العارضة ذكي الفؤاد، سريع البديهة لا يهاب الرجال.
وسار الركب واليسير يجيل الأمر في نفسه ويدبر للخلاص من هذا المأزق الذي هو فيه قبل أن يبتعدوا عن خيبر. . . إنهم الآن على ستة أميال منها في مكان يقال له ” القرقرة ” واليسير على بعير واحد مع عبد الله بن أنيس. . ويتلفت اليسير إلى عبد الله وعينه تلحظ السيف الذي يتدلى إلى جنبه، وقرر أن يستل هذا السيف ويفتك بصاحبه ثم يولي على بعيره عائداً إلى خيبر. . أما أصحابه فليفعلوا فعله وهم لا شك فاعلون إن رأوه ابتدأهم بذلك ..
أما عبد الله بن أنيس فإن عينه لم تغفل وقلبه لم ينم منذ فصلوا عن خيبر، فهو متيقظ أبداً لصاحبه، واليسير قد قرر، والركب يسير جاداً إلى هدفه يخيم على رجاله الصمت والحذر، وفجأة علا صوت اليسير: يا لثارات يهود وانقض على سيف عبد الله بن أنيس يريد أن يستله، وتدرك البديهة عبد الله فيقتحم بالجمل فلا يمكّن اليسير من السيف، بل يسله ويضرب به رجل عدو الله، فيسرع هذا إلى عمود من خشب كان معه فيضرب به رأس عبد الله فيشدخه، ولكن عبد الله يتمالك نفسه، ويكرّ على عدوه الغادر فيجز رأسه، فيقع مضرجاً بدم العار والخيانة.
أما بقية يهود، فما إن سمعوا نداء سيدهم حتى بادر كل منهم صاحبه من المسلمين يريد أن يفتك به، ولكن المسلمين كانوا على حذر، فأجهز كل منهم على عدوه، إلا ما كان من رجل منهم فر عائداً إلى خيبر يحمل لقومه خبر أصحابهم ونتائج غدرهم.
الخطر الجديد
لم تكن الأحداث لتدع المسلمين يركنون إلى الراحة يوماً، فما إن ينتهوا من القضاء على خطر أو عدو حتى يواجههم خطر آخر ويبرز لهم عدو جديد. فقد وصلت أخبار إلى المدينة بأن واحداً من زعماء هذيل يدعى خالد بن سفيان الهذلي. . يجمع الجموع ويعد العدة لغزو المدينة، وأنه جعل من ” نخلة ” القريبة من المدينة مكاناً يجتمع فيه رجاله.
وهذيل قبيلة كبيرة العدد، متعددة الأفخاذ والبطون، تسكن المنطقة الممتدة بين مكة والمدينة، وهي تعيش حياة الغزو والصعلكة. ويكثر فيها الرجال الذؤبان الذين يعتمدون في معاشهم على السلب والنهب. وكثيراً ما ألجأها شظف العيش وقسوة الحياة لأن يقاتل بعضها بعضاً، وهم بسبب من هذه الحياة يعيشون حياة اجتماعية فاسدة، وتنتشر بينهم العادات الرذيلة، وهم قد ألفوا هذه العادات حتى لم تعد تلاقي لدى أي منهم اعتراضاً أو استنكاراً أو استهجاناً، وقد بلغت بهم هذه العادات حداً من الألفة جعلتهم يشترطون على رسول الله عندما أتوه مسلمين أن يحل لهم الفاحشة؟
وقد قذفهم حسان – رضي الله عنه – بنيران شعره عندما سمعهم يطلبون هذا المطلب الدنيء ووسمهم بميسم العار الذي تندى له الجباه، فقال فيهم:
سألت هذيل رسول الله فاحشة
ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
سالوا رسولهم ما ليس معطيهم
حتى الممات، وكانوا سُبّه العرب
هذه هي قبائل هذيل التي أخذت تتجمع تحت قيادة خالد بن سفيان لغزو المدينة ونهبها، وقد انضم إليها حثالة القبائل وأوباشها.
مَنْ لِي بِخَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ؟
وأهمت هذه الجموع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأى أن يحسم أمرها قبل أن يكتمل جمعها وقبل أن تتحرك إلى المدينة، ورأى عليه السلام أن هذه القبائل تتجمع حول خالد بن سفيان، فإذا قتل خالد تفرقت بدداً وانتهى أمرها، وزال خطرها.
وفكر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن ينتدبه لهذه المهمة، فقتل زعيم كبير وسيد مطاع يتحلق حوله ألوف من أشداء الرجال يحتاج إلى رجل حديد القلب، ثابت الجنان ذي تجربة في مثل هذه الأمور.
ومن غير عبد الله بن أنيس لهذه المهمة؟
واستدعى رسول الله صاحبه عبد الله بن أنيس وأجلسه بجانبه، وأوجز له المهمة التي ينتدبه لها، فقال عليه السلام: إنه قد بلغني أن ابن سفيان يجمع لي الناس ليغزوني وهو بنخلة فأته فاقتله.
إنها مهمة واضحة محددة بقدر ما هي كبيرة وخطيرة، إن الذي يجمع الناس لقتال الرسول هو ابن سفيان، ولولاه لما اجتمع الناس، والمكان الذي ينزله هذا العدو هو ” نخلة ” والمهمة التي أسندت للفدائي الصحابي هي القضاء على رأس الفتنة وموقد نارها: خالد بن سفيان الهذلي.
وعى الجندي أمر القائد، ولكن المهمة خطيرة فالعدو محاط بآلاف الرجال ولا بد من طريقة للوصول إليه، وليس هناك من سبيل غير أن يخدعه، ولا بد لكي تنجح الخدعة أن يتقول له، والإسلام حرم ذلك على المؤمنين فلا بد أن يستأذن الرسول بذلك لعله يسمح له به أو يشير بما هو أفضل منه. . فقال عبد الله: يا رسول الله لا بد لي في مهمتي هذه أن أقول! فأشار عليه الرسول أن يقول ما بدا له فالحرب خدعة.
قتل الزعيم خالد بن سفيان الهذلي
وانطلق عبد الله إلى مهمته متوشحاً سيفه، ووصل ” نخلة ” عصراً وقد وجبت الصلاة، ونظر حوله فرأى جمعاً هائلاً وحركة كبيرة والتفت يبحث عن بغيته فرآه مع مجموعة من نسائه يرتاد لهم موضعاً ينصب فيه أخبيتهم فكانت فرصة قد لا تواتي مرة أخرى، وأجال عبد الله خطته في ذهنه وخشي أن تفوته الفرصة وخشي على صلاة العصر أن تفوته، إذ قد يشتبك مع عدوه في مصاولة ومبارزة، فصلى إيماء وهو يمشي نحو عدوه.
وانتهى عبد الله إلى خالد، فلما رأه خالد قال له: من الرجل؟
قال عبد الله: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك.
قال خالد: أجل إني لفي ذلك وما أظنه سيثبت لي ومعي هذا الحشد من الرجال، وإن هي إلا أيام وتكون المدينة وما فيها نهباً لرجالي، فأهلً بك معنا يا أخا العرب!
وترك خالد نساءه ومشى يحدث عبد الله بما أجمع عليه وما يأمل الحصول عليه من ثمار المدينة وخيراتها، وسار ابن أنيس يزين له فعله ويحبب إليه مقصده، وكان عبد الله حسن الحديث لطيف العبارة، فأنس به خالد وأمنه على نفسه، وظل عبد الله يجاذبه الحديث وهو ينتظر فرصته فلما واتته اقتنصها فاستل سيفه وضرب به رأس عدو الله فأطاحه ووقع جسده على الأرض فأحدث ضجة نبهت نساءه فالتفتن نحوها فرأين رأس خالد يتدحرج بعيداً عن جسده، فصرخن صرخة الموت فاندفع عبد الله ينجو بنفسه واندفع نساء خالد ورجاله إليه، وأخذتهم المفاجأة وشغلهم هولها عن عبد الله وانصرفوا إلى صاحبهم يندبونه وعندما أفاق فريق منهم من هول المفاجأة وفكروا في اللحاق بالقاتل كان هذا قد أعجزهم وفاتهم منه ما يطلبون.
وما إن انتهى القوم من مواراة قتيلهم التراب حتى بدأ جمعهم يتفكك، وما إن أصبح الصباح حتى كانت “نخلة” قد لفظتهم فلم يبق منهم أحد، وكفى الله رسوله والمؤمنين القتال.
أما الفدائي الصحابي عبد الله بن أنيس فقد امتلأ قلبه غبطة وسروراً، لقد أنجز المهمة كما أرادها رسول الله لقد خلص المسلمين من شر مستطير وخطر عقيم!
أفلح الوجه
وسار عبد الله يقطع الطريق عدواً، يود لو أنها تطوى له، فهو في شوق للقاء رسول الله لينهي إليه خبر الخلاص من عدو الله.
ووصل عبد الله إلى مسجد الرسول ودخل وعيناه تبحثان عن الرسول الكريم فوجده بين أصحابه، فلما أحس به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إليه مبتسماً وبادره بالكلمة الطيبة: أفلح الوجه.
فقال عبد الله: أفلح وجهك يا رسول الله، لقد قتلته.
فقال عليه السلام: صدقت.
عندئذ انطلق عبد الله بن أنيس ينشد 1(1) السيرة النبوية لابن هشام الأنصاري الجزء الرابع ص 197 – 198 نشر دار الجيل – بيروت.:
تركت ابن ثور كالحوار وحوله … نوائح تفري كل جيب مقدد
تناولته والظعن خلفي وخلفه … بأبيض من ماء الحديد المهند
أقول له والسيف يعجم رأسه … أنا ابن أنيس فارساً غير قعدد
وقلت له خذها بضربة ماجد … حنيف، على دين النبي محمد
وكنت إذا هم النبي بكافر … سبقت إليه باللسان وباليد
مكافأة عبد الله بن أنيس
لقد شكر رسول الله لعبد الله بن أنيس جهاده في سبيل الله، وبلاءه في الدفاع عن الإسلام، فقام ممسكاً بيد عبد الله وأدخله بيته وتناول منه عصاً وقدمها إليه وقال له: أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس.
وتناولها عبد الله من يد الرسول، وخرج بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟
فقال: أعطانيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمرني أن أمسكها.
قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله فتسأله عن ذلك؟
فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: لم تعطيني هذه العصا يا رسول الله؟
قال عليه السلام: آية بيني وبينك يوم القيامة.
يا لها من هدية من يد كريمة، ويا لها من آية يلقى بها ربه يوم القيامة، إنها آية جهاده في سبيل الله وإنها آية الرضا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جهاده ما أسعدك بهذه العصا يا ابن أنيس! وما أعظم حظك عندما تقدمها بين يدي أعمالك يوم الدين! إنها آية بينة على حبك لله ورسوله وجهادك الميمون في سبيل دينك.
وتناول عبد الله سيفه وقرن به عصا رسول الله ومشى بها سعيداً فخوراً.
لقاء الأحبة
وعاد عبد الله إلى الشام بعد أن أدركته الشيخوخة وجلس إلى أهله وولده وأخذ يقص عليهم فصولاً من حياته وجهاده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن قبض إلى الرفيق الأعلى ومع أبي بكر إلى أن انتهت فتنة المرتدين، ومع الجيوش الفاتحة إلى أن وصلت شاطىء المحيط. .
ولم يكن عبد الله يمل الحديث عن جهاده، ولم يكن أولاده ومن حضر مجالسه من المسلمين يملون ذلك، بل كانوا يستزيدونه ويطربون لحديثه، فقد كان – رضي الله عنه – حلو الحديث، أنيس المجلس، بليغ العبارة، صادق اللهجة.
وحل العام الرابع والخمسون بعد هجرة الرسول وحلت ساعة اللقاء بمحمد وصحبه، فدعا أهله وولده وأوصاهم فيما أوصاهم به أن يدفنوا معه العصا التي كافأه بها رسول الله لتكون آية ما بينهما يوم القيامة.
وانفضّ الناس عن قبر الصحابي الجليل، وساروا جماعات جماعات كل جماعة تتحدث عن بطولات هذا الصحابي الأنصاري وعن جهاده في سبيل الله.
الهوامش
(1) السيرة النبوية لابن هشام الأنصاري الجزء الرابع ص 197 – 198 نشر دار الجيل – بيروت.
المصدر
كتاب: “فدائيون من عصر الرسول” أحمد عبد اللطيف الجدع، ص 23-56.
اقرأ أيضا
إنجازات عمر بن الخطاب الحضارية .. من بناء المدن الى بناء الشخصية