التفريط في توجيه الأبناء وتربيتهم أعظم الظلم للأبناء، حيث ينشؤون في جاهلية جهلاء، في بيوت لا تعرف لله حقا ولا مكان للأخلاق فيها، فيسهل عليهم سلوك سبيل الفساد والرذيلة.
ظلم النفس بوقوعها في مظالم العباد
وهذا النوع من الظلم أخف من الشرك في كونه لا يخلد صاحبه في النار لو دخلها، ولكن الخطير فيه أن إثمه وعقوبته لا تزول إلا برد المظالم إلى أهلها، أو استباحتهم منها؛ وإلا كان القصاص يوم القيامة ، بالحسنات والسيئات وليس بالدينار والدرهم؛ وكفى بهذا حاجزا عن الظلم، وكفى به رادعا وواعظا للعبد المسلم في أن يتخفف من حقوق العباد ويخرج من هذه الدنيا سالما لا يطلبه أحد من العباد بمظلمة في دین أو نفس1(1) والعقل داخل في النفس، والاعتداء على الناس في هذه المقاصد الخمسة التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها – يعد ظلما وعدوانا . أو مال أو عرض. هذه الأمور التي لا تكاد تخرج مظالم العباد عنها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ( … فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)2(2) صحيح البخاري (7078). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه)3(3) أخرجه البخاري (2449) بنحوه، والترمذي (2419)، وأحمد (9613) باختلاف يسير..
ويخلص لنا من هذا أن الذي يظلم الناس إنما هو في حقيقة الأمر ظالم لنفسه.
وظلم الناس إنما ينشأ من الإضرار بهم في دينهم أو دنياهم، ويكون ذلك بأمرين:
(1) إما بمنعهم حقوقهم
(2) أو بفعل ما يضر بهم.
وهذا ما يشير إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: (وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس ؛ فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض، ثم هو نوعان:
أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق، وهو التفريط. الثاني : فعل ما يضر به وهو العدوان)4(4) مجموع الفتاوی 10/373 ..
ويقول في موطن آخر: (والظلم نوعان: تفريط في الحق، وتعد للحد. فالأول: ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون، وسائر الأمانات، وغيرها من الأموال . والثاني: الاعتداء عليه، مثل القتل، وأخذ المال، وكلاهما ظلم…)5(5) مجموع الفتاوی 28/ 183..
وتحصل لدينا من هذه القاعدة النافعة أن أي إضرار يقع على الناس في أديانهم، أو أنفسهم، أو أموالهم، أو أعراضهم – سواء بمنع ما يجب لهم من الحقوق في ذلك أو العدوان عليهم في هذه المقاصد – إنما هو ظلم لهم، ولا تخرج مظالم العباد عن هذا.
وفي ضوء ما تقدم من أنواع الظلم الواقع على العباد يمكننا الآن التعرف على بعض صور الظلم المختلفة وبخاصة في زماننا اليوم، وأسوقها هنا نصحا لنفسي ولإخواني المسلمين؛ فكم يتلبس الواحد منا ببعض هذه الصور وهو يشعر أو لا يشعر – نسأل الله العافية والسلامة – ومن هذه الصور ما يلي:
ظلم الوالدين لأولادهم
وهذه الصورة من صور الظلم تقابل الصورة السابقة -ظلم الأولاد لآبائهم-، فكما أن الظلم يمكن وقوعه من الولد لوالده فكذلك الحال في ظلم الوالد لولده، فمهما تعاظم حق الوالد على الولد فلا يعني هذا فتح الباب للوالد ليفعل مع ولده ما يشاء؛ لأن للولد حقوقا على أبيه وحدودا إذا تجاوزها الوالد مع ولده فإن ذلك يعد ظلما له. وبالتالي يدخل تحت طائلة الإثم والعقوبة للظالمين في الدنيا والآخرة .
وقد ذكر الله عز وجل لنا مشهدا عظيما مروعا من مشاهد يوم القيامة، وهو كفيل بإيقاظ القلوب الحية، ورادعا لها عن تحمل حقوق الناس ومظالمهم ولو كانوا أقرب قريب . قال الله عز وجل: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: 33 – 37].
ولماذا يفر المرء من أقرب الناس إليه؟ إن فراره ذلك إنما هو لخشيته من مطالبتهم له بحسنة من حسناته أو حق من حقوقهم عليه. وما أكثر الحقوق التي تكون بين الأقارب، وما أكثر المظالم التي تقع بينهم بحكم العشرة الطويلة والإقامة المستمرة معهم في الدنيا بخلاف غيرهم ممن لا يلتقي بهم إلا في المناسبات المتباعدة.
ومعلوم أن المظالم والحقوق تكثر في الغالب بين من يعيشون في مكان واحد ولفترة زمنية طويلة، كالوالد مع ولده، وکالزوج مع زوجته وكالأخ مع أخيه، وهم المذكورون في الآية الكريمة .
فالواجب الحذر الشديد من المظالم عامة، ومظالم الأقارب بخاصة؛ لكثرتها وشدة إثمها، ويوم القيامة لا ينفع الفرار ولا التنصل فلا ملجأ من الله إلا إليه كما قال تعالى: ﴿يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ [القيامة: 10 – 12] .
بعض الصور التي تعد من ظلم الوالدين لأولادهم
حرص الوالد وبخله على ولده
– ترك النفقة الواجبة لهم أو التقصير فيها؛ فالنفقة والكسوة والسكن وغير ذلك من الضروريات تعد من الحقوق التي تجب للاولاد على الوالد في حالة عجز الولد وقدرة الوالد، والتقصير في ذلك يعد ظلما لهم.
وكل ذلك يكون حسب القدرة والسعة كما قال تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق :7]، وهذه الحقوق التي للأولاد تبدأ منذ ولادتهم كحق الرضاعة و الحضانة وغيرها .
تفضيل بعض الأبناء على بعض في الأعطيات والهبات
– عدم العدل بين الأولاد في الأعطيات والهبات والمعاملة . هذا من الوالد جور وظلم كما جاء ذلك في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما حيث يقول: (أعطاني أبی عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرض حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله . قال: (أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟) قال: لا. قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). قال فرجع فرد عطيته)6(6) البخاري ( 2587) [فتح5/211]..
وفوق ما فيه من الظلم والجور ففيه أيضا باب إلى الأحقاد والضغائن والقطيعة بين الأولاد بعضهم مع بعض وبينهم وبين والدهم. والنهي الوارد هنا يتعلق بالأعطيات العامة التي يملك فيها بعض الأولاد دون بعضهم. أما لو أعطي أحد الأولاد نفقة زائدة على غيره لحاجته وفقره واستغناء إخوانه عن ذلك فلا بأس بهذا كما قرره الفقهاء في هذا الباب .
إهمال تعليمهم الدين وعدم تربيتهم على الأخلاق الحسنة والسجايا الكريمة
– عدم تعليمهم دين الله عز وجل وبخاصة ما يتعلق بالفقه الواجب الذي يجب على كل مسلم معرفته كالشهادتين ومعناهما، والصلاة وشروطها وواجباتها وغير ذلك من فروض الأعيان، وإن ترك الأولاد على جهلهم دون تعليم ورعاية وتنشئة صالحة يعد ذلك ظلما لهم ومنعا لهم من حقوقهم التي أوجبها الله عز وجل على الوالدين ويندرج تحت ذلك تعليمهم الآداب الإسلامية كآداب الاستئذان والطعام، وتدريبهم على العبادة حتى تسهل عليهم إذا بلغوا سن التكليف، ويخص البنات بآداب الحشمة والحجاب والحياء.
– إهمال تربيتهم وتركهم لجلساء السوء وأهل الفسق والمجون يروحون معهم ويغدون في الفسق واللهو والفساد من غير إنكار ولا سؤال ولا حساب ، فهذا من الظلم لهم والخيانة للأمانة.
وأظلم من هذا من يسعى بنفسه ويسافر بأولاده إلى دول الكفر والرذيلة فيسرحون هناك ويمرحون بلا رقيب، وكذلك من يسعى بجلب آلات اللهو والفساد إلى بيته بنفسه فيتربى عليها الصغير والكبير والذكر والأنثى؛ فيحمل هذا المسكين الظالم لنفسه وزر هذه الآثام ووزر من عمل بها وتأثر بها من أولاده وغيرهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا. فيجمع هذا الظالم بين ظلمه لنفسه بإحضاره أدوات الفساد، وظلمه لأولاده بأن تسبب في إضلالهم وإفساد دينهم وأخلاقهم وإحراق بيته ومن فيه من الذرية بيده الآثمة الظالمة.
ويدخل في ذلك كل ما من شأنه إفساد الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وكل ذلك مجتمع في أجهزة التلفاز والفيديو الموجه للفساد، والبث المباشر، والمجلات الخليعة، والقصص الماجنة، والكتب المضللة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 27-28]. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن مات وهو غاش لرعيته: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)7(7) مسلم في الإيمان (142) 1/125..
ويشتد هذا الظلم إذا كان الولد يرغب في الخير وأهل الخير ومجالس الخير ثم يقف الوالد في طريقه ويحول بينه وبين ذلك.
القسوة والضرب والجفاء وهضم الحقوق
– الغلظة على الأولاد والقسوة عليهم في غير موضعها، ومن ذلك سب الأولاد أو لعنهم أو ضربهم ضربا لا يستحقونه ولم يأذن به الشارع الحكيم، وحتى الضرب المأذون به ينبغي أن لا يكون ضربا مبرحا للتشفي وتنفيس الغيظ، وإنما يكون للتأديب والعلاج، ولا يزيد عن حده المأذون ؛ وإلا صار ذلك ظلما من الوالد لولده، وبعض الآباء هداهم الله يفهم من كونه قيما للبيت وطاعته واجبة على أولاده أن ذلك يسوغ له فعل ما يشاء معهم؛ فيتعدى حدود الله معهم، ويصير تأديبه لهم عذابا وجحيما. وفوق ما في ذلك من الظلم ففيه أيضا نشر للكراهية والبغضاء بين الوالدين وأولادهم.
ويدخل في الغلظة والشدة: حرمان الأولاد من عطف الوالدين وحنانهم، ومعاملتهم بجفاء وفظاظة، وتتبع عثراتهم دقها وجلها؛ مما ينشأ عنه في المقابل قسوة قلوب الأولاد، وغلظتهم على والديهم وأولادهم فيما بعد، فكما أن للوالد حق الطاعة والبر من الولد فكذلك من حق الولد على والده أن يحنو عليه ويشعره بالمحبة والعطف والرحمة.
ويكفي أن نراجع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملته لأولاده وعطفه وحنوه ورحمته لهم لنرى ذلك واضحا جليا؛ ومن ذلك ما حدثته عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم. فقال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة)8(8) البخاري في صحيحه كتاب الأدب (5997) ..
– الجور في الوصية واختصاص بعض الأولاد بها دون بعض وفوق أن الوصية للوارث لا تجوز ولو ساوى فيها بين الأولاد، فإن اختصاص الوالد بها بعض الأولاد دون بعض يكون أشد ظلما وإثما .
– وما يقوم به بعض الآباء من ظلمهم لبناتهم بتأخير زواجهن طمعا فيما عند البنت من مال تكسبه من عملها كما هو الحاصل في زماننا اليوم الذي فتح فيه العمل للمرأة كالتدريس وغيره .
– التحايل على أكل مال الولد بالباطل وإفساده علیه .
– اتهام الوالد لولده بما هو منه براء، والتجسس عليه، وإساءة الظن به دون مسوغ شرعي سوى الوساوس والأوهام.
– غيبة الوالد لولده في المجالس ولمزه وغمزه وتشويه سمعته عند الناس .. ويشتد هذا الظلم إذا كان الولد صالحا وقائما بحقوق والديه .
– السعي بالنميمة بين الأولاد أو بينهم وبين زوجاتهم وأقاربهم مما ينشأ عنه فساد ذات البين وقطيعة الأرحام.
– إيغار صدر الولد على زوجته من قبل الوالدين أحدهما أو کلاهما والضغط عليه ليطلق زوجته التي يحبها أو التي قد رزق منها بنين وبنات كل ذلك دون مبرر شرعي، ولا يخفى ما في ذلك من المفاسد والظلم والعنت على الزوجين وأولادهما.
– تغذية الأولاد بالمال الحرام الذي يجلبه الوالد لهم من المصادر المحرمة كالربا والغصب والسرقات والرشاوي والبيوع المحرمة وغير ذلك مما ينعكس أثره على تربية الأولاد وظلمهم بالسحت الذي تنبت منه أجسامهم.
– إعانة الأولاد على ظلمهم وعدم نهيهم ومنعهم من ظلم الناس، كما يدخل في مقابل ذلك ترك نصرتهم على من ظلمهم بالعدل.
الهوامش
(1) والعقل داخل في النفس، والاعتداء على الناس في هذه المقاصد الخمسة التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها – يعد ظلما وعدوانا .
(2) صحيح البخاري (7078).
(3) أخرجه البخاري (2449) بنحوه، والترمذي (2419)، وأحمد (9613) باختلاف يسير.
(4) مجموع الفتاوی 10/373 .
(5) مجموع الفتاوی 28/ 183.
(6) البخاري ( 2587) [فتح5/211].
(7) مسلم في الإيمان (142) 1/125.
(8) البخاري في صحيحه كتاب الأدب (5997) .
اقرأ أيضا
الظلم .. آثاره وعواقبه في الدنيا