إن الذي يضع خطة الرحلة للطريق كُله هو الذى يُدرك الطريق كلهُ والإنسان محجوب عن رؤية هذا الطريق بل هو محجوب عن اللحظة التالية ودونه ودونها ستراً مُسبل لا يُباح لبشر أن يطلع وراءه ، فأنى للإنسان أن يضع الخطة لقطع الطريق المجهول؟
الخبط والضلال والشرود في اتباع غير منهج الله
إنه إما الخبط والضلال والشرود وإما العودة إلى المنهج المُستمد من خالق الوجود .. فليس لأحد من خلق الله أن يُشٌرع غير ما شرّعهُ الله وأذن به كائناً من كان . فالله وحده هو الذى يُشرع لعباده بما أنه سبحانه هو مُبدع هذا الكون كُله ومُدّبره بالنواميس الكُلية الكُبرى التى اختارها له ، والحياة البشرية إن هى إلا ترس صغير فى عجلة هذا الكون الكبير فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس ولا يتحقق هذا إلا حين يُشرع لهذا المحيط بتلك النواميس وكل من هو عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة .
فإن الكثير يجادلون فيها أو لا يقتنعون بها وهم يجرأون على استمداد التشريع من غير ما شرّع الله زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذى يُنشئونه من عند أنفسهم كأنما هُم أعلم من الله وأحكم من الله أو كأنما لهم شركاء من دون الله يُشرّعون لهم ما لم يأذن به الله وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:21] .
شريعة الله: الثابت والمتغير
لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سُبحانه أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاوُن فيما بينها والتعاوُن كذلك مع القوى الكونية الكُبرى ، شرّع فى هذا كله أصولاً وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة فى حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة ، فإذا ما اختلف البشر فى شىء من هذا ردوه إلى الله ورجعوا به إلى تلك الأصول الكُلية التى شرّعها للناس لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشرّيع جزئى وكل تطبيق .. بذلك يتوحّد مصدر التشريع ويكون الحُكم لله وحده وهو خيرُ الحاكمين وما عدا هذا المنهج فهو خروج على شريعة الله وعلى دين الله لذلك لابُد من الأمر بالمعروف وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة والنهي عن المنكر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة وبعد إقامة الأساس الذى يمكن أن يُقام البنيان فلتوفر الجهود المبعثرة إذن ولتُحشد كلها فى جبهة واحدة لإقامة الأساس الذى عليه وحده يقام البنيان.
مدلول كلمة الدين
ليس الدين كما يُحدده سُبحانه ويُريده ويرضاه .. هو كُل اعتقاد فى الله .. إنما هى صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه سبحانه ، صورة التوحيد المُطلق الناصع القاطع: توحيد الألوهية التى يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق فى الكون بالعبودية وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كُله فلا يقوم شىء إلا بالله تعالى ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى ، ومن ثم يكون الدين الذى يقبله الله من عباده هو الإسلام ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[آل عمران:19] .. فالإسلام هو الدين وهو فى هذه الحالة: الاستسلام المُطلق للقوامة الإلهية والتلقي من هذا المصدر وحده فى كل شىء من شئون الحياة والتحاكُم إلى كتاب الله المُنزّل من هذا المصدر فهو ليس مُجرد دعوى وليس مُجرد راية وليس مُجرد كلمة تُقال باللسان ولا حتى تصوراً يشتمل على القلب فى سكون ولا شعائر فردية يؤديها الأفراد فى الصلاة والحج والصيام .. لا .. فهذا ليس بالإسلام الذى لا يرضى الله من الناس ديناً سواه (إنما الإسلام: الاستسلام) .
الدين: النظام والشريعة
الإسلام: الطاعة والإتباع ، الإسلام تحكيّم الله فى أمور العباد وإن هذا النص القُرآنى ليُحدد مدلول كلمة الدين تحديداً دقيقاً ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ إنه يعنى نظام الملك وشرعه وبهذا يعبُر القرآن عن النظام والشريعة بأنها الدين .. هذا المدلول القُرآني الواضح هو الذى يغيب فى جاهلية القرن العشرين عن أكثر الناس سواء منهم من يدّعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهلين ، إنهم يقُصرون مدلول الدين على الاعتقاد والشعائر ويعدون كل من يعتقد وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ويؤدي الشعائر المكتوبة داخلاً في دين الله مهما تكُن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المُتفرقة .. بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول (دينُ الملك) بأنه نظام الملك وشريعته وكذلك (دينُ الله) فهو نظامه وشريعته .. إن مدلول دين الله قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر ولكنه لم يكُن كذلك يوم جاء هذا الدين مُنذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين ، ولقد كان يُعنى دائماً: الدينونة لله وحده ورفض ما يُشرّعه غيره وإفراده سبحانه بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء وتقريّر ربوبيته وحده للناس: أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره .. وكان مُفترق الطريق دائماً بين من هم في (دين الله) ومن هم في (دين الملك) إن الأوليين يدينون بدين نظام الله وشرعه وحده وإن الآخرين يدينون نظام الملك وشرعه أو يُشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر ويدينون لغير الله في النظام والشرائع . وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماماً .
الجهل بحقيقة الدين لا يعفي من المسئولية
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلّمسوّن لهُم عُذراً في أنهم يجهلون مدلول كلمة (دين الله) وهم من ثم لا يُصرون ولا يُحاولون تحكيّم شريعة الله وحدها بوصفها هي الدين وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يَعفيهم من أن يكونوا جاهلين مُشركين .. وأنا لا أتصور كيف جهل الناس ابتداءاً بحقيقة هذا الدين يجعلهم فى دائرة هذا الدين ، إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون مُعتنقين لها؟ وكيف يُحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداءاً مدلولها .
إن هذا الجهل قد يُعفيهم من حساب الآخرة أو يُخفف عنهم العذاب فيها ويُلقى بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يُعلّمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرُها إلى الله والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل وليس هو الذي يَعنينا نحن البشر الذين ندعوا إلى الإسلام في الأرض .. إن الذي يَعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم إنه ليس دين الله قطعاً ، فدينُ الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة ، فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في (دين الله) ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في (دين الملك) ولا جدال فى هذا ، والذين يجهلون مدلول الدين لا يُمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين لأن الجهل هُنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية ، والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلاً وواقعاً أن يكون معتقداً به .. إذً الاعتقاد فرع من الإدراك والمعرفة وهذه بديهية .
وخير لنا أن نُدافع عن الناس وهُم في غير دين الله ونلتمس لهم المعاذير ونُحاول أن نكون بهم أرحم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول (دين الله) ليدخلوا فيه أو يرفضوه .. هذا خير لنا وللناس أيضاً ، خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين الذي ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة ، وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه وأنهم في دين الملك لا في دين الله قد تهزُهم هزة من الجاهلية إلى الإسلام من دين الملك إلى دين الله كذلك فعل الرسُل عليهم صلوات الله وسلامه .. وكذلك ينبغي أن يفعل الدُعاة إلى الله فى مواجهة الجاهلين فى كل زمان ومكان .
إما شريعة الله وإما أهواء الذين لا يعلمون
وأن الدين الإسلامى يُحكّم شريعة الله في الناس لا أهواء البشر وهكذا يتمحص الأمر .. فإما شريعة الله وإما أهواء الذين لا يعلمون .. وليس هناك من فرض ثالث ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة وما يترُك أحد شريعة الله إلا ليُحكّم الأهواء ، فكُل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية:18] إنها شريعة واحدة التي تستحق الاتباع وما عداها أهواء مُتبعة الجهل وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها ويدع الأهواء كلها ، وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء ، وأصحاب الأهواء يتساندون فيما بينهُم ضد صاحب الشريعة .. فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة لهم أو جنحاً عن الهوى الذي يربُط بينهم برباطه .. إن هذا الدين جد وقد جاء ليحكُم الحياة جاء ليُعبّد الناس لله وحده وينتزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان فيرد الأمر كلهُ إلى شريعة الله لا إلى شرع أحد سواه .
الدين: منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة (لا إله إلا الله)
وجاءت هذه الشريعة لتحكُم الحياة كُلها ولتواجَه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها ، ولتُدلي بحُكم الله في الواقعة حين تُقدّر بقدر حجمها وشكلها وملابساتها ، ولم يجيء هذا الدين ليكون مُجرّد شارة أو شعار ولا لتكون شريعته موضع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة .. إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشقات .. إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة (لا إله إلا الله) وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء وتأمين الحق والعدل للناس جميعاً وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها وخان بعهده الذي عاهد الله عليه ونقض بيعته التى بايع بها رسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال:27] ..
المصدر
كتاب “طريق الدعوة في ظلال القرآن” ج1،ص15-20.
اقرأ أيضا
“المحكمات” في أمور العقيدة والشريعة، وسياسات الحرب والسلم
الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة