متى يكون من حكامنا مثل ألب أرسلان في شجاعته، ومن وزرائنا كنظام الملك في همته وغيرته، والواجب اليوم يتأكد على العلماء والدعاة أن يدافعوا عن الكتاب والسنة، ويوظفوا الوسائل الحديثة في بث عقائد الإسلام الصحيحة..
جهود العلماء والأمراء في حفظ هوية الأمة
لقد مرَّت الأمة في تاريخها بمراحل عصيبة من المدِّ الباطني والرافضي الذي اجتاح الأمَّة في القرن الرابع الهجري، إضافة إلى الغزو الصليبي والتتري الذي ضرب بلاد الإسلام في أواخر القرن الرابع وامتدَّ إلى القرن الخامس الهجري -وما بعده-، وكادت الأمة أن تفقد هويتها السنِّية لولا حفظ الله تعالى الذي تكفَّل بحفظ هذا الدين، ثم جهود العلماء والمصلحين من الأمراء الذين كان لهم جهد كبير في حفظ هوية الأمة من خلال المشاريع الإصلاحية على المستوى العسكري والعلمي والفكري، والتي شكلت الدرع الحصين الذي تهاوت أمامه مخططات أعداء الملة من الباطنيين واليهود والنصارى.
تجربة الإصلاح الإسلامي التي قام بها نظام الملك
ولْنستعرض في هذا المقال شيئًا من تلك التجارب المباركة التي مرَّت بأمَّتنا الإسلامية حتى نُفيد منها في علاج واقعنا المعاصر الذي ثقل حمله على الأمة الإسلامية نسأل الله أن يجعل لنا فرجًا ومخرجًا منه إنه سميع مجيب..
حال الأمة الإسلامية في عهد البويهيين
ففي القرن الرابع الهجري وبالتحديد من 334هـ إلى 447هـ، بسط البويهيون الإماميُّون سلطانهم على العراق وإيران، وخضعت لهم عاصمة الخلافة العباسية بغداد، وقد كانت الدولة البويهية دولة رافضية عدوَّة للإسلام ولأهل السنة، مجتهدة في نشر الرفض بين المسلمين، فقد ذكر ابن كثير في حوادث 352هـ أفعال هذه الدولة الخبيثة، قال: “في عاشر المحرم من هذه السنة أمر معز الدولة بن بويه قبحه الله أن تغلق الأسواق وأن يلبس النساء المسوح من الشعر وأن يخرجن في الأسواق حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن يلطمن وجوههن يَنُحْنَ على الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يمكن أهل السنة منع ذلك لكثرة الشيعة وظهورهم، وكون السلطان معهم.
وفي ثامن عشر ذي الحجة منها أمر معز الدولة بن بويه بإظهار الزينة في بغداد وأن تفتح الأسواق بالليل كما في الأعياد، وأن تضرب الدبادب والبوقات، وأن تشعل النيران في أبواب الأمراء وعند الشرط، فرحًا بعيد الغدير -غدير خم- فكان وقتًا عجيبًا مشهودًا، وبدعة شنيعة ظاهرة منكرة”1(1) [البداية والنهاية (11/ 276)]..
أما انتشار الرفض وغلبته على السنَّة في عواصم الإسلام فشيء لا يوصف، يقول ابن كثير: “واستقرت يد الفاطميين على دمشق في سنة ستين كما سيأتي وأذن فيها وفي نواحيها بحي على خير العمل أكثر من مائة سنة، وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع بها، وأبواب المساجد، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولم يزل ذلك كذلك حتى أزالت ذلك دولة الأتراك والأكراد”2(2) [البداية والنهاية (11/ 302)]..
الأنشطة المؤسسية لنشر المذهب الرافضي وأفكاره وعقائده
فانظر كيف كانت الأمة الإسلامية في هذه الحقبة نهبًا ومرتعًا للرافضة، بشتى مذاهبهم، وكان الأدهى من التمدد السياسي والعسكري، هو الأنشطة المؤسسية لنشر المذهب الرافضي وأفكاره وعقائده، والتي كانت تسير على قدم وساق وفق مخطط خطير يهدف إلى تغيير الجذور العقدية للأمة، وتغيير المناهج، ومصادر التلقي لدى العامة والخاصة، تمامًا كما يحدث اليوم من رافضة هذا الزمان -وغيرهم- من خلال المنح الدراسية لأبناء المسلمين لكي يتعلموا في إيران وقم، وإنشاء المراكز الشيعية في بلدان أفريقيا وغيرها، وحملة تغيير المناهج التي يقوم بها الحوثيون في اليمن، إنها طريقة أسلافهم في خطف أجيال الأمة والانحراف بهم عن منهج النبوة والخلفاء الراشدين، ففي عام 383هـ أنشأ الوزير البويهي أبو نصر سابور بن أزدشير دار العلم بالكرخ -وهي قرية متصلة ببغداد-، ونقل إليها كتبًا كثيرة فاقت عشرة آلاف مجلد من مختلف العلوم والفنون، ومنها كتب الرفض والتنجيم وعلم الكلام، وبقيت هذه الدار سبعين سنة، وقد فاقت الوصف في تجهيزها وعمارتها وأوقافها وخدماتها.
وبالإضافة إلى المكتبة العظيمة التي بداخلها، فهي أيضًا مجمع للعلماء وطلاب العلم والمعرفة بشتى فنونها، للالتقاء والتدريس والتعلُّم والمناظرات والحوارات الفكرية، وبالتالي فقد كان لها الدور الكبير في نشر الرفض وتطويره فكريًّا، لولا أنَّ الله تعالى قدر عليها الزوال المبكر.
وهذه الدار مثال للمؤسسات العلمية الرافضية التي أسَّسها الشيعة برعاية البويهيين آنذاك.
حال الأمة الإسلامية في عهد العبيديين
وأما العبيديون الإسماعيليون الذين حكموا مصر وأفريقيا وانتشر سلطانهم حتى بلغ الشام والحجاز، فهؤلاء كان أمرهم أعظم وأبعد من البويهيين في العراق وإيران، فقد كان تخطيطهم أكبر وترتيبهم أخطر وتخريجهم للدعاة أوسع انتشارًا في الأقاليم الإسلامية، ومن أمثلة ذلك:
ما فعله وزير المعز العبيدي واسمه ابن كلِّس يعقوب البغدادي، وكان يهوديًّا فأسلم! فقد كان قام بتصنيف كتاب في فقه الشيعة، ثمّ سمعه منه خلقٌ في مجلس عام، وجلس جماعة من العلماء يفتون في جامع مصر بما جاء في ذلك التصنيف الذميم، وكان يحضر عنده العلماء، وتقرأ عليه تواليفه3(3) [انظر سير أعلام النبلاء (16/ 443)]..
وفي عام 395هـ فُتحت دار الحكمة الرافضية بالقاهرة، وجلس فيها الفقهاء، وحُملت الكتب إليها من خزائن القصور المعمورة، ودخل الناس إليها، وجلس فيها القراء، والمنجمون، وأصحاب النحو واللغة، والأطبَّاء، وقد فرشت هذه الدار وزينت بأحسن الزخارف، وأتيحت لكل من يحب القراءة من سائر الناس، وجعل فيها الأوراق والمحابر وكل ما يحتاجه الباحث والقارئ4(4) [انظر خطط المقريزي (2/ 379)]..
من سمات هذا القرن: انتشار الفكر الرافضي ودعم الحركات الباطنية
ومما سبق عرضه يتبين لك كيف عملت الدولتان البويهية والعبيدية على نشر الفكر الرافضي ودعم الحركات الباطنية في البلاد طولًا وعرضًا مثل حركة الحشاشين وغيرها والتي كانت خناجر مسمومة في خاصرة الأمة، وقد أضافت إلى القوة العسكرية القوة الناعمة الفكرية من خلال إنشاء المؤسسات، ونشر الدعاة في الأقاليم، كما هو مبيَّن في تاريخ تلك الحقبة التي يقول عنها الذهبي: “وفي هذه السنين وبعدها كان الرفض يغلي ويفور بمصر والشام، والمغرب والمشرق، لا سيما بالعبيدية الباطنية، قاتلهم الله”5(5) [تاريخ الإسلام (8/ 185)]..
دور السلاجقة في مواجهة التحدي الفاطمي الباطني
وأمام هذا الواقع المؤلم الذي عمَّ العالم الإسلامي، شاء الله سبحانه وتعالى أن تظهر بادرة الأمل التي أعادت لأهل السنة الحياة شيئًا فشيئًا، وكان ذلك في القرن الخامس الهجري عند ظهور دولة السلاجقة في المشرق، والتي ورثت الدولة الغزنوية والدولة البويهية، ولقد واجهت الدولة السلجوقية ورجالها العظام الخطر الفاطمي الباطني الذي انتشر في مختلف البقاع الإسلامية. ولقد كان للمدارس النظامية وللحركة المباركة التي قادها السلاطين السلاجقة -من أمثال ألب أرسلان- مع العلماء لمواجهة التحدي الفاطمي الرافضي أطيب الأثر في وضع الأمة على الطريق الصحيح الذي سار عليه مِن بعدِهم رجال من القادة السياسيين والعلماء العاملين المخلصين، فكانت لتلك الشجرة الطيبة الكثير من الغصون والثمار التي طابت وأينعت وامتدت ونمت وتفرعت حتى عمَّ خيرها الجميع.
المدارس النظامية وأثرها في نهضة الأمة
وقد بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المدِّ الشيعي الإمامي والإسماعيلي الرافضي عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455هـ فقد استوزر هذا السلطان رجلًا قديرًا وسنيًّا متحمسًا هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي الملقب بنظام الملك، يقول عنه الذهبي: “الوزير الكبير، نظام الملك، قوام الدين، أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، عاقل، سائس، خبير، سعيد، متدين، محتشم، عامر المجلس بالقُرَّاء والفقهاء، أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد، وأخرى بنيسابور، وأخرى بطوس، ورغب في العلم وأدرَّ على الطلبة الصلات، وأملى الحديث”6(6) [سير أعلام النبلاء (19/ 94)]..
اقتران المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية موازية لها
فرأى هذا الوزير أنَّ الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيليَّة الباطنية سياسيًّا لن يُكتب له النجاح إلا إذا وازى هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية، ذلك أنَّ الشيعة إمامية كانوا أو إسماعيلية نشطوا في هذه الفترة وما قبلها إلى الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة كما أسلفنا ذكرَ بعضه، وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلا نشاط سني مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان، فقد كانت الدولة الفاطمية تقوم بإعداد الدعاة من خلال جامع الأزهر الذي جعلوا منه مؤسسة تعليمية تعنى بنشر مذهبهم في عام 378هـ. هذا بالإضافة إلى البرامج التعليمية التي كانت تُعَدُّ بعناية خاصة في عاصمة الدولة الفاطمية لإعداد الدعاة وتثقيفهم ثقافة مذهبية واسعة قبل إرسالهم إلى البلاد الإسلامية لنشر المذهب الإسماعيلي، وكان لذلك أثر في رواج هذا المذهب في بعض مناطق الدعوة، لذلك كله فكَّر نظام الملك في أن يُقاوم النفوذ الشيعي بالأسلوب نفسه الذي ينتشر به.
ومعنى ذلك: رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية أيضًا، من خلال تربية الأمة على كتاب الله وسنة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعقيدة أهل السنة والـجماعة الـمستمدة من الوحيين، لقد أدرك الوزير نظام الـملك -رحمه الله- أنَّ المدارس هي الأسلوب الأمثل لخدمة دين الله في وقته، ولجهاد أعداء الأمة الإسلامية، ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نُسبت إليه؛ لأنه الذي جدَّ في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة واختار لها الأكفاء من الأساتذة، فلذلك نُسبت إليه من دون السلاجقة.
المدارس النظامية تؤتي ثمارها وأهدافها المنشودة
وقد وفق الله نظام الملك توفيقًا قلَّ نظيره في التاريخ السياسي والعلمي والديني، فقد عاشت مدارسه أمدًا طويلًا، وعلى الخصوص نظامية بغداد التي طاولت الزمن زهاء أربعة قرون، حيث زالت في نهاية القرن التاسع الهجري، ولقد كان من نتاج هذا البناء الكبير، أن تصدر العلماء المشهد الاجتماعي والفكري، وأدت هذه المدارس رسالتها من تخريج العلماء على المذهب السُّنِّي الشافعي وزودت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحًا من الزمن وبخاصة دوائر القضاء والحسبة والإفتاء وهي أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الباطنية في مصر وبلغوا الشمال الإفريقي ودعموا الوجود السُّنِّي بها.
المدارس النظامية تمد الأمة بالعلماء والمربين والعاملين والمجاهدين
لقد تخرج من هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم الأهداف التي رسمها نظام الملك فوجدنا كثيرًا من الذين تخرجوا منها يرحلون الى أقاليم أخرى ليقوموا بتدريس الفقه الشافعي والحديث الشريف وينشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار التي انتقلوا إليها، أو يتولوا مجالس القضاء والفتيا، أو يتولوا بعض الوظائف الإدارية الهامة في دواوين الدولة.
المدارس النظامية والمحافظة على الهوية السنية
وكذلك كما استطاعت هذه المدارس أن تصل بتأثيرها إلى العمق التربوي فقد استطاعت أن تتمدد أيضًا أفقيًّا لتصل إلى الأطراف لتحافظ على الهوية الإسلامية السنِّية، يقول أبو إسحاق الشيرازي -أول مدرس بنظامية بغداد-: “خرجت إلى خراسان فما بلغت بلدة ولا قرية إلا كان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي”7(7) [سير أعلام النبلاء (18/ 463)]. ، وقد ساهمت هذه المدارس كذلك في إعادة دور منهج السنة في حياة الأمة بقوة، وكان أبرز آثارها أيضًا تقلص نفوذ الفكر الشيعي، وخاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدراس من أمثال الغزالي والجيلاني والبغوي رحمهم الله.
المدارس النظامية وتخريج القادة والحكام
وكما رفدت المدارس النظامية الأمة بالعلماء والمربين والعاملين والمجاهدين، فقد مهدت كذلك السبيل ويسرته أمام مشروع نهضة الأمة، على مستوى رأس الهرم من القادة والحكام، فقد كان عماد الدين زنكي وابنه نور الدين زنكي من نتاج ذلك الغراس المبارك، ومِن بعدِهم صلاح الدين الأيوبي الذي توَّج هذا المشروع السني العظيم بإنهاء الدولة العبيدية وإعادة مصر إلى حاضنة السنَّة، وتحرير بيت المقدس من الصليبيين ودحرهم عن بلاد المسلمين، فانظر إلى آثار هذا الغراس المبارك، وهذا المشروع الفذ الذي أنقذ الله به الأمة من انتكاسة ساحقة كانت ستهوي بها في هاوية البدع والضلالات، والذل والهوان، لولا أن قيَّض الله لها هؤلاء الرجال الصادقين أمثال نظام الملك، ومن بعده آل زنكي الذي ساروا على طريقته في إنشاء المدارس السنية في حلب والموصل وما حولها، ثم سار على نهجهم صلاح الدين الأيوبي الذي بنى المدارس الناصرية في مصر والشام، لتصل الأمة بعدها إلى جني ثمار العزِّ والتمكين بفضل الله تعالى.
ما أشبه اليوم بالبارحة
إنَّ الأمة اليوم تواجه أخطر تحالف بغيض يهدد عقيدتها ووحدتها وهو التحالف الصليبي الصهيوني الباطني ومن ورائهم المنافقون المتنفذون في بلاد الإسلام، الذين جعلوا كتاب الله وراء ظهورهم، وأقبلوا على أعداء الأمة يوالونهم ويتقربون إليهم بإذلال شعوبهم، ومحاربة دينهم، والنيل من ثوابتهم ومقدساتهم.
إنَّ هذا الخطر الداهم الذي يواجه الأمة اليوم ليشبه إلى حد كبير ذلك الخطر الذي واجهته الأمة في القرن الرابع الهجري والذي استعرضنا طرفًا منه آنفًا، وإنَّ لله سُننًا في التغيير لا تتبدل ولا تتحول، والتاريخ يعيد نفسه، ومتى تكررت الأسباب تكررت النتائج، قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران:137].
وقال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح:23].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11].
وهذا يجعل المسؤولية كبيرة أمام العلماء والدعاة والمصلحين في إدارة معركة الأمة ضد أعدائها من الصليبيين والصهاينة والباطنيين والمنافقين.
فمتى يكون من حكامنا مثل ألب أرسلان في شجاعته، ومن وزرائنا كنظام الملك في همته وغيرته، والواجب اليوم يتأكد على العلماء والدعاة أن يدافعوا عن الكتاب والسنة، ويوظفوا الوسائل الحديثة في بث عقائد الإسلام الصحيحة..
وبعد استعراض نموذج المدارس النظامية وأثرها في نهضة الأمة، نشير إلى وقفات من أهمها:
أمة الإسلام أمة منصورة
- هذه الأمة أمة منصورة، قد تكفل الله لها بحفظ دينها وبقاء عقيدتها، وهي إن مرضت في بعض الأزمان، فإنَّ لها وثبة وجولة في الحق تقضي على ما بناه أهل الباطل في سنوات، وإنك حينما ترى ما وصلت إليه الأمة في القرن الرابع الهجري من تسلط الأعداء عليها وهوان أمرها لتعجب كيف تغير الحال بعد مائة سنة أو أكثر قليلًا، وخرج من الأمة المستضعفة قادة مثل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وبيبرس وقلاوون الذين دحروا المد الصليبي والباطني ومن بعدهم المغولي، ورفع الله بهم شأن الأمة عاليًا. وصدق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين قال: «إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»8(8) [انظر السلسلة الصحيحة (599)].. فعلى الدعاة والعلماء أن لا ييأسوا من حال الأمة اليوم، وأن لا يقعدهم ما يرونه من تسلط العدو عن واجبهم في القيام بالدعوة إلى الله والجهاد بالكلمة والبيان، حتى يأتي الله بأمره، وتنهض الأمة من جديد، وعليهم أن لا يستعجلوا النتائج، بل عليهم بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر كما أمر الله تعالى بقوله: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:1-3]. وهناك تجارب ناجحة في العصر الحديث في الحفاظ على هوية الأمة وتجديد دينها، مثل مدرسة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وجمعية علماء الجزائر، وحركة طالبان في أفغانستان..
طريق النهوض..إحياء الوعي وحماية الثوابت
2- إنَّ على حملة المشروع الإسلامي اليوم أن يضعوا في حسابهم أن الطريق الأمثل للنهوض بهذه الأمة هو سبيل إحياء الوعي، ونشر العلم في أوساط الناس -وخصوصًا الناشئة-، وحماية ثوابت الديانة في قلوبهم ضد التجريف الحاصل اليوم في القنوات والوسائل الإعلامية المختلفة، ولن يتم لهم ذلك إلا بتخطيط استراتيجي طويل الأمد، يكون مبنيًّا على سياسة تعليمية واضحة، ومنهجية علمية راسخة، يقوم بها أكفاء من العلماء والمربين، كما حدث في المدارس النظامية، ومن ذلك العناية التامة بإنشاء المراكز والمعاهد العلمية، والدورات التأهيلية والتربوية المستمرة والموسمية، وإنشاء المدارس على كافة المراحل والاهتمام بحلقات حفظ القرآن وتعليمه، والتي يكون للتربية والتوجيه فيها نصيب كبير إلى جانب المناهج التعليمية، ومن متطلبات نجاح هذه المدارس والمعاهد اختيار الكادر التعليمي المتمكن في التعليم والتربية، لتؤتي هذه المدارس ثمارها على الوجه الأكمل في المستقبل.
إحياء الأمة وبعثها والصبر على البلاء ومدافعة الأعداء
3- أنْ يعلم الدعاة والمربون أنَّ طريق التغيير ليست هينة، بل هي طريق الصبر على البلاء، ومدافعة الأعداء، فحينما أراد بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار أن يبني المدرسة الزُّجَاجِيَّة الشافعية بحلب، وهي أول مدرسة سُنِّية في حلب، لم يـُمَكِّنه الحلبيون من إنشائها في البداية؛ لغلبة نزعة التشيع فيهم، فكان كلما بنى فيها شيئًا في النهار خربوه ليلًا إلى أن أعياه ذلك، فأحضر الشريف زهرة بن علي الحُسَيني وأوكل إليه أمر الإشراف على بنائها ليكفَّ عنه الشيعة، فلازم الشريف زهرة بناء تلك المدرسة حتى تم الانتهاء منها. فانظر كيف كان عزمهم وصبرهم على تثبيت دعائم السنة في البلاد، ومداراتهم للعوام والجهلة والمفسدين من الرافضة، حتى استكملوا بناء تلك المدرسة التي كان لها عظيم الأثر بعد ذلك في نشر السنَّة ودحر الرافضة في حلب. وكذلك فإنَّ الوزير نظام الملك نفسه قد دفع ثمن مناهضته للتشيع بأن تم اغتياله من قبل الباطنيين، ومثله عماد الدين زنكي وأبوه قسيم الدولة، وغيرهم من القادة العلماء من أهل السنَّة الذين اغتالتهم الميليشيات الباطنية، إنه أسلوب قذر يتبعه الروافض قديمًا وحديثًا وهو تصفية رموز أهل السنَّة، يبغون بذلك إطفاء نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
الوعي بالواقع واختيار الأنسب من المنهاج
4- إنه ينبغي لحملة المشروع الإسلامي أن يدرسوا واقعهم جيدًا، وأن يبنوا دراساتهم وخططهم وفقًا لما يقتضيه واقع الحال، وبما يكون أرفق للناس وأقرب لتأليف قلوبهم من غير زيغ عن الحق أو تفريط في الثوابت، وهذا ما نلاحظه في اختيار نظام الملك المذهب الشافعي ليكون المنهج الدراسي في المدارس النظامية، حيث أن الشافعي يعتبر من أقرب الأئمة الأربعة لبيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فهو قرشي وقريب من النسب النبوي، حيث أن من أهداف المدارس النظامية تقويض المذهب الشيعي الباطني الذي تبنته الدولة الفاطمية والتي يزعم مؤسسوها بأنهم من أهل البيت وأنهم أحق بالخلافة من غيرهم، كما أنَّ لمكانة الإمام الشافعي في المذاهب السنية سببًا في اختيار تراثه وفقهه؛ حيث أن المالكية يفتخرون به لكونه من تلاميذ الإمام مالك، والإمام أحمد يجله ويعتبره من شيوخه، كما أن الشافعي تتلمذ على محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، فهو واسطة العقد بين المذاهب السنية الأربعة الشهيرة، كما أن نزعته النقلية وانتصاره للدليل وحدة ذكائه واستخدامه للعقل في إقامة الحجة على الخصوم وما تميزت به كتابته في أصول الفقه.. ربما كانت من أسباب اعتماد تراثه في المدارس النظامية.
تعظيم الاستفادة من التجارب الإصلاحية الناجحة
وختامًا نوصي الدعاة والمربين بالاستفادة من التاريخ الإسلامي والتجارب الناجحة في مواجهة المد الباطني والعلماني المعاصر، وأن يستنهضوا الهمم لاستخراج الفوائد واستخلاص المشاريع للعمل لهذا الدين والقيام بواجب البلاغ المبين حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد، فإن من أعظم وسائل مواجهة الأعداء اليوم، هي المواجهة الفكرية بالإعداد الإيماني والعلمي لأجيال المسلمين، وإن المدارس الشرعية والمعاهد العلمية لهي الحصون المنيعة التي تحمي تراث الأمة وعقيدتها، لا سيما إذا حملت تلك المدارس على عاتقها تعليم المنهج الصحيح، على أيدي العلماء الربانيين، الذين يحملون عقيدة أهل السنة والجماعة، علمًا وعملًا وسلوكًا..
قال الله -جلَّ جلاله-: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج:40-41].
الهوامش
(1) [البداية والنهاية (11/ 276)].
(2) [البداية والنهاية (11/ 302)].
(3) [انظر سير أعلام النبلاء (16/ 443)].
(4) [انظر خطط المقريزي (2/ 379)].
(5) [تاريخ الإسلام (8/ 185)].
(6) [سير أعلام النبلاء (19/ 94)].
(7) [سير أعلام النبلاء (18/ 463)].
(8) [انظر السلسلة الصحيحة (599)].
اقرأ أيضا
الدعوة الى الله بين الأسلوب والمضمون