تصيب الأممَ والجماعات المصائبُ والنكباتُ، وتحل البلوى والمحن بالأفراد والدول والمجتمعات، وليس ذلك بمستَغرب، فسنة الله ماضية في نكد العيش، ومنغصات هذه الحياة، كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4]. وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]. وقال تعالي: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168].
الربط بين المصائب والذنوب من السنن الربانية
الأمر في هذه القضية لا يحتاج لمزيد أدلة من الكتاب والسنة لإثباته، فواقع الحياة وحال الناس يشهد به.
ولكن الأمر المهم هو تأمل هذه السنة الربانية والتعرف على أسبابها وحكمها، وكيفية الوقاية أو التقليل منها.
والحق أن الناس يتفاوتون في هذا الأمر تفاوتًا كبيرًا، وذلك على قدر علمهم وفقههم، ودرايتهم بكتاب الله وفهم نصوصه.
فهناك من تنزل به المصائب وتحل به المحن صباحًا مساءً، وهو لا يدري شيئًا من أسبابها، ولا يعلم كيف يتخلص منها، فيظل ينتقل من محنة إلى أخرى ومن غم إلى آخر حتى تنقرض حياته، وربما كانت آخرته امتدادًا لشقائه في حياته الدنيا، وهذه حال الذين غفلوا عن ذكر الله، وهم الذين قال الله بشأنهم: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف: 28].
وهذه التعاسة التي يعيشها والمحن التي يلاقيها جزاء معجل له في هذه الحياة بسبب إعراضه عن ذكر الله، ونسيانه آلاءه ونعمه وتأمل قوله تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف:36- 37].
الهداية والتوفيق للخير فضل ومّنةٌ من الله عز وجل
ولا يعني أن هذا الصنف من الناس لا عقول لهم، بل هم في مجال الحياة الدنيا لا ينازعون، وفي سبيل جمع حطامها لا يُسايرون، ولكن أمر الهداية والتوفيق للخير فضل ومّنةٌ من الله، يتفضل به على من عرف صدقه وإخلاصه وإنابته إلى الله، أما الذين رضوا من عقولهم أن تكون مسخَرة لجمع الدرهم والدينار فحسب، ولم يتجاوزوا بها إلى ما ينفعهم في حاضرهم ومستقبلهم، ولم يستخدموها في التفكير في هدف الحياة ومصير الناس، فهؤلاء رضوا من الغنيمة بالإياب، وعليهم أن يصبروا ويتحملوا ما يأتيهم من فتن ومحن ما داموا في غفلتهم يعمهون، وما داموا يسمعون الذكر فلا يستفيدون.
وليتذكروا قول الحق تبارك وتعالى: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126].
كل من عصى الله فهو جاهل
ومهما ادّعى المفرطون والمسرفون على أنفسهم بالسيئات العلم مفلسون بالجهل، ولهذا قال السلف: كل من عصا الله فهو جاهل ..
ولهذا أثبت الله للكفرة العلم في أمور الحياة الدنيا، لكن أخبر أنهم عن الآخرة جهلةٌ غافلون: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7]. يقول أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) [النساء: 17]. فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل، ومن تاب قُبَيل الموت فقد تاب من قريب1(1) الحسنة والسيئة لابن تيمية/ 73. ..
وقال قتادة: أجمع أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنّ كلّ من عصى ربه فهو في جهالة عمدًا كان أو لم يكن، وكل من عصى الله فهو جاهل، وكذلك قال التابعون ومن بعدهم2(2) المصدر نفسه/ 73..
العالم من يخشى الله عز وجل
وإذا كان هذا حال الجهل، فإن حال العلم والعلماء خلاف ذلك، فليس العلم الحقّ حفظ النصوص، ومعرفة المتون فحسب، وليس العالم الرباني هو الذي يستظهر العلوم دون عملٍ بها، بل العلم الحقيقي يكمن في خشية الله والعمل بما علم، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
ولهذا قال رجلٌ للشعبي: أيها العالم، فقال: إنما العالم من يخشى الله، وقال ابن مسعود، رضي الله عنه: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار جهلاً 3(3) الحسنة والسيئة/ 75..
أصل السعادة في أمرين
ومن رحمة الله بعباده، وفضله على بني آدم عامة، أنه تفضل عليهم بأمرين، هما أصل السعادة، فلم يُعَنِّهِمْ في أمر الهداية، ولم يكلفهم ما لا يطيقون:
الأول: أنه فطرهم على الخير، فكل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه- أما الذين يبقون على الإسلام فهم باقون على أصل الفطرة- وكان أبو هريرة، رضي الله عنه، إذا قرأ هذا الحديث يقول: اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الروم: 30] 4(4) رواه البخاري ومسلم..
وفي صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «خلقتُ عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرّمت عليهم ما أحللْتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا»5(5) كتاب الجنة/ 63..
الثاني: من فضل الله على الناس، أنه قد هداهم هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:1-4]. وقال: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:10]. أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر6(6) الحسنة والسيئة/ 79..
وما يعقلها إلا العالمون
إذا تقرر هذا فليعلم أن هناك صنفًا من عباد الله يعرفون أسباب المحن ودواعي الفتن، ويعلمون أسباب رفعها وطريق الخلاص منها، أولئك الذين ينظرون بنور الله، وأولئك الذين يقرؤون كتاب الله فيجدون من بين آياته قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
قال عكرمة: (ما من نكبة أصابت عبدًا فما فوقها إلا بذنبٍ لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينالَ درجةٍ لم يكن لِيُوصلَه إليها إلا بها)7(7) تفسير القرطبي 16/ 31.. وهكذا تفهم العارفون أمور الحياة والأحياء.
هل نتعامل فيما يصيبنا وما ينزل بنا من مصائب في هذه الحياة الدنيا، بهذا الأسلوب الإيماني الرفيع، وهل نتأدب بهذا الأدب القرآني الكريم؟
لاشك أن ذلك يخفف مصابنا، ويقضي بنا على أسباب المحن، ويصل بنا – بمشيئة الله – إلى تجاوز المواقف الصعبة والمحرجة في هذه الحياة الدنيا … (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43].
البحث عن أسباب الخطأ وعلاجه
يسيرٌ على النفس أن تُعلق أخطاءها على غيرها، ومرغوبٌ عندنا أن نبحث في أي مشكلة تواجهنا عن عنصر آخر خارج محيطنا لنلصق به التهمة .. ذلك ضعف فينا، وقصور في إرادتنا، وعجزٌ عن مواجهة أنفسنا بأنفسنا، ولو أن كل واحد منا تحمل أخطاءه بنفسه، وبحث في سيرته عن أسباب ما أصابه، وعالج الخطأ، وأناب إلى الصواب، لصلحت الحياة بنا، وصلحت أحوالنا.
تذكر نعم الله عز وجل
ومشكلةٌ أخرى لدينا، هي أننا ننسى- أحيانًا- ما يأتينا من خير من الله، ومن نعمة الصحة، والولد، والمال وغيرها .. وهي كثيرةٌ، لا تعد ولا تُحصى. (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [النحل: 18]. وفي المقابل نتألم لأي نازلة تنزل بنا، ونتضايق عند وقوع أي مصيبة فينا، حتى ولو كانت صغيرة إلى جانب نعم الله علينا، فهل ذلك من العدل والإنصاف، أم إن ذلك سببه تقصيرنا في طاعة الله، وفي سلوك، وفي أداء فرائضه؟ وهذا يذكرنا بقوله تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المعارج:19 – 26] .. الآيات.
أينا الذي وقف عند تفسير قوله تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء: 123].
المؤمن يجازى بعمله السوء بنكبات الدنيا
والمصيبة الثالثة: إننا نخطئ كثيرًا، ونظلم أنفسنا ونظلم الناس من حولنا، وقد نشعر بهذا أو لا نشعر .. المهم أننا لا نهتم بذلك، فإذا ما أُصِبنا أو لحق بنا ضرر في أنفسنا أو في أهلينا أو أموالنا، عجبنا واستغربنا. وكرهنا وفزعنا، فهل، ذلك من العدل والإنصاف؟ وأينا الذي وقف عند قوله تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) [النساء:123] قال جمهور السلف: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء، وأما مجازاة الكافر فالنار لأن كفره أوبقه وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: (مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ). بلغت المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال: اللهم أصلح أحوالنا، وبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، واجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها»8(8) صحيح مسلم..
وكان ممن فزع لهذه الآية أبو بكر الصديق رضي الله عنه- وهو في الفضل والبر والإيمان- فجاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا؟ كل شيء عملنا جزينا به؟ فقال غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى، قال: فذلك مما تجزون به9(9) تفسير القرطبي 5/ 396 – 398. ..
أقصر الطرق لرفع المحن والمصائب
هل نعي هذه المعاني، وتكون نبراسًا يضيء لنا الطريق في هذه الحياة، وهل نربط بين المصائب والذنوب والمعاصي، وهل نتجرد في إصلاح ذواتنا ومعرفة أقصر الطرق لرفع المحن والمصائب عنا، وعن أمتنا .. أو نستمر في الخطأ، ونرتكس في أوحال الخطيئة، فننتقل من بلية إلى أخرى، ومن وضع مُردٍ إلى آخر أسوأ منه؟ ذلك خياره بأيدينا .. لكن لنثق أن الله تعالى لن يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11]. وسوف تستمر تجاربنا الخاطئة حتى نهتدي إلى صراط الله المستقيم. وسنظل نتخبط في الظلمات، حتى نفيء إلى أنفسنا ونبصر نور الله، والمصيبة أن الشقاوة لا تنتهي في هذه الحياة الدنيا، فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ومن يضلل الله فما له من هاد.
الهوامش
(1) الحسنة والسيئة لابن تيمية/ 73.
(2) المصدر نفسه/ 73.
(3) الحسنة والسيئة/ 75.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) كتاب الجنة/ 63.
(6) الحسنة والسيئة/ 79.
(7) تفسير القرطبي 16/ 31.
(8) صحيح مسلم.
(9) تفسير القرطبي 5/ 396 – 398.
المصدر
كتاب: “شعاع من المحراب” ، د. سليمان بن حمد العودة (2/205-213).