الإخلاص، أن تكون الحياة لله، وأن يكون الخضوع والطاعة لله، وأن يكون الحب والولاء في الله والبغض في الله، وأن تكون الصلاة لله، وأن يكون النسك والعبادة كلها خالصة لوجه الله، لا تُصرف لأحدٍ، ولا لبشر، ولا لحجر، ولا لبقر، ولا لطاغوت، ولا لوثن، ولا لأحد من الناس كائناً من كان.
صفة القلب السليم
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أركان التسليم الأربعة، حيث قال: (اعلم أن التسليم هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر، أو شهوة تعارض الأمر، أو إرادة تعارض الإخلاص، أو اعتراض يعارض القدر والشرع، وصاحب هذا التخلص: هو صاحب القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتي الله به)1(1) مدارج السالكين 2/ 147..
وقد سبق الكلام عن الركن الأول والثاني في مقالين سابقين، وفي هذا المقال إن شاء الله تعالى أتناول الحديث عن الركن الثالث من أركان التسليم الأربعة الذي هو تجريد الإخلاص لله عز وجل في جميع الأقوال والأعمال والأحوال، وتسليم العبودية والإرادة لوجهه الكريم، والذي عبر عنه ابن القيم بقوله: (والخلاص من أي إرادة تعارض الإخلاص) و تحول دون تحقيقه.
معنى الإخلاص وحقيقته
يراد من الإخلاص معنيان:
الأول: الإخلاص المضاد للشرك، وهو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: ۲ – ۳]. وبانتفاء هذا الإخلاص ينتفي أصل الإيمان. وهذه الآيات وأمثالها تشمل الإخلاص بنوعيه.
الثاني: الإخلاص المضاد للرياء: وهو إخلاص العمل الصالح لله عز وجل، بحيث لا يريد فاعله لذلك عرضا من أعراض الدنيا: کالمديح، وطلب الشهرة أو المناصب، أو أي عرض من أعراض الدنيا الفانية، فإن شاب هذا النوع من الإخلاص شيء من الرياء فإن صاحبه لا يكفر بذلك ما دام محققا للإخلاص المنافي للشرك الأكبر، وإنما هو على خطر عظيم، لارتكابه الرياء الذي هو من الشرك الأصغر، وهذا المعنى هو المشهور عند السلف، والعباد الذين يحرصون على تنقية أعمالهم من كل ما يشوبها من طلب التزين في قلوب الخلق وطلب مديحهم والهرب من ذمهم وطلب تعظيمهم أو أموالهم أو خدمتهم وقضاء حوائجهم من الخلق أو غير ذلك من العلل والشوائب التي أصلها إرادة غير الله عز وجل بالعمل كائنا ما كان، ولا يتحقق الإخلاص الذي هو من أركان التسليم لله عز وجل إلا بالتخلص من كل ما يضاد الإخلاص بمعنییه: المضاد للشرك، والمضاد للرياء.
حب المدح وطلب ثناء الناس ينافي الإخلاص
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى علاجا لحب المدح وثناء الناس، فقال: (لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فاقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس واقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذلك الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص.
فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئا سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ویشين إلا الله وحده)2(2) الفوائد: (150)..
علامات الإخلاص
والإخلاص عمل قلبي باعثه تجريد المحبة والخوف والرجاء لله وحده، فمتى ما تعرضت
المحبة أو الخوف أو الرجاء للشركة أصاب الخلل الإخلاص، وشابه شوائب الرياء والعجب وحب الشهرة والظهور، والحرص على ثناء الناس والخوف من ذمهم، وللإخلاص علامات منها:
1- ابتغاء وجه الله عز وجل والخلوص من الرياء.
2- الحرص على إخفاء الأعمال الصالحة قدر الإمكان، والسعي لعمل الخلوة.
3- استواء السريرة والعلانية والظاهر والباطن في القول والعمل.
4- الزهد في ثناء الناس ومديحهم، بل كراهية ذلك.
5- الخوف على الأعمال الصالحة من أن ترد ولا تقبل.
6- الحذر من العجب، وترك تزكية النفس.
7- مجاهدة هوى النفس، والانقياد للحق إذا بان، مهما كان مصدره.
8- العدل والإنصاف و محبة الخير لكل مسلم، والتخلص من الحسد والأحقاد.
الولاء والبراء وعلاقتهما بالإخلاص
ومما له علاقة وثيقة بالإخلاص (عقيدة الولاء والبراء والحب والبغض)، فما دام أن من التسليم لله عز وجل أن يسلم القلب من كل إرادة تعارض الإخلاص، فإن مما يعارض الإخلاص توجيه إرادة الحب والبغض والولاء والمعاداة لأمور من هذه الدنيا. فمن كان ولاؤه أو عداوته أو حبه أو بغضه لغير الله تعالى، وإنما لأجل هذه الدنيا ومتاعها الزائل، فإنه بذلك لم يحقق الإخلاص لله تعالى، وعليه فإن هذا يعد من الشوائب القلبية، التي تدل على ضعف التسليم لله عز وجل ولشرعه الحكيم، بل قد تدل على انتفاء التسليم من أساسه.
ومن أجل عقيدة الولاء والبراء التي حققها إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام، ودعا إليها استحق من ربه سبحانه هذا الوصف العظيم والوسام الشريف، وذلك في قوله سبحانه: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ۸۳ – 84]، وهذا القلب السليم من إبراهيم عليه السلام قد تحقق فيه الإخلاص التام في حبه لله سبحانه، وحب ما يحب ومن يحب، وبغض ما يبغض ومن يبغض، وسلم من كل ما يضاد هذا الإخلاص من أي إرادة ومحبة تزاحم إرادة الله عز وجل ومحبته. وقد جاء في القرآن الكريم ذكر هذه الميزة لإبراهيم عليه االسلام في أكثر من آية، منها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ۲6 – ۲۸]، وقوله سبحانه: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 4].
ومن ذلك ابتلاؤه بذبح ابنه، ليظهر إخلاصه لربه سبحانه في تقديم مراد الله عز وجل ومحبته على مراد النفس ومحبتها.
الهوامش
(1) مدارج السالكين 2/ 147.
(2) الفوائد: (150).
اقرأ أيضا
الإخلاص والصدق من علامات صلاح السريرة
من علامات الإخلاص: أعمال الخلوة والخبيئة الصالحة