إن الكثرة النافعة في ميزان الله تعالى هي الكثرة من الأعمال الصالحة، وأما الكثرة من الدنيا فهي في ميزان الله تعالى قلة وخسران.
ميزان الغنى والفقر عند الله عز وجل
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنی غنی النفس»1(1) البخاري (6446).. في هذا الحديث المختصر بیان لميزان الغنى عند الله عز وجل، وميزانه عند الناس ؛ حيث إن الغنى في ميزان الله عز وجل هو غنى النفس، وعند الناس هو كثرة الأموال والعروض.
قال في فتح الباري: “والعرض هو كل ما ينتفع به من متاع الدنيا .. والعرض بتحريك الراء: الواحد من العروض التي يتجر فيها … وقال أبو عبيدة: “العروض” الأمتعة؛ وهي ما سوى الحيوان والعقار، وما لا يدخله كيل ولا وزن… وقال فارس: العرض بالسكون كل ما كان من المال غير نقد، وجمعه عروض، وأما بالفتح فما يصيبه الإنسان من حظه في الدنيا ؛ قال الله تعالى: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) [الأنفال: 67] وقال سبحانه: (وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) [الأعراف: 169]. وروى ابن حبان – رحمه الله تعالی – حديثا في معنى الحديث السابق عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم . قال: وترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب»2(2) صحیح ابن حبان (685) وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في الإحسان 2/461..
الغنى النافع: غنى النفس
وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي، ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني، وقال القرطبي: معنى الحديث: إن الغنى النافع، أو العظيم، أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه: أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع، فعزت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه ؛ فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقیر، وأذل من كل ذلیل والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب ولا يلحف في السؤال بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجد أبدا، والمتصف بفقر النفس على الضد منه ولكونه لا يقنع بما أعطي، بل هو أبدا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه ، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف، فكأنه فقير من المال، لأنه لم يستغن بما أعطي، فكأنه ليس بغني. ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالی والتسليم لأمره، علما بأن الذي عند الله خير وأبقى، فهو معرض عن الحرص والطلب، وما أحسن قول القائل:
غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة …. فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا”3(3) فتح الباري 11/ 277..
وبهذا يتضح لنا من الحديث السابق وشرحه الميزان الإلهي للغنی والفقر، وما يقابله من موازين البشر، وإتماما للفائدة أذكر بعض السمات لميزان الله عز وجل المستقيم، وبعض سمات موازين البشر المعوجة.
أولا: من سمات الميزان الإلهي للغنى والفقر
أولا: إن الغنى الحقيقي في ميزان الله تعالى هو غنى القلب والنفس.
وحقيقة ذلك: استغناء العبد بربه عز وجل؛ وذلك بما بقوم في القلب من صدق العبودية له سبحانه، والمحبة والإخلاص، والخضوع والتذلل والافتقار إليه عز وجل، الأمر الذي يغنيه عن الخلق، والتعلق بهم، وخوفهم ورجائهم، وهذا هو الغنى الذي ورد ذكره في الحديثين السابقين: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس»، وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الغنى غنى القلب».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح والدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه ، وشتت عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، وكان الله بكل خير إليه أسرع»4(4) الترمذي في القيامة 4/ 2465، وصځحه الألباني في السلسلة الصحيحة (949-950)..
وهذا هو الغنى الذي سماه الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالی – بالغنى العالي، حيث يقول في وصفه: “واعلم أن الغنى على الحقيقة لا يكون إلا بالله الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر، كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع، وكما أن كونه مخلوقا أمر ذاتي له، فكونه فقيرا أمر ذاتي له كما تقدم بيانه، وغناه أمر نسبي إضافي عارض له؛ فإنه إنما استغنى بأمر خارج عن ذاته، فهو غني به فقير إليه، ولا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا من غناه من لوازم ذاته ؛ فهو الغني بذاته عما سواه، وهو الأحد الصمد الغني الحميد .
الغنى قسمان: غنى سافل، وغنی عال.
فالغنى السافل: الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وهذا أضعف الغنى؛ فإنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إلى أربابها، فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها، وكأن الغنى بها كان حلما فانقضى، ولا همة أضعف من همة من رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل. وهذا غنی أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإياه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أحب إلى الشيطان وأبعد عن الرحمن من قلب من يحب هذا الغنى والخوف من فقده.
قال بعض السلف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء کفرحهم بثلاثة أشياء: مؤمن قتل مؤمنا، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر. وهذا الغنی محفوف بفقرين: فقر قبله، وفقر بعده ، وهو كالغفوة بينهما، فحقیق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به، ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سببا لغناه الأكبر ووسيلة إليه، ويجعله خادما من خدمه لا مخدوما له، وتكون نفسه أعز عليه من أن يعبدها لغير مولاه الحق، أو يجعلها خادمة لغيره .. فالغني إنما يصير غنيا بحصول ما يسد فاقته ويدفع حاجته . وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلا فوزه بحصول الغنى الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء فكما أنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غني سواه، فالغني به هو الغني في الحقيقة، ولا غني بغيره البته، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوی حسرات، ومن استغنی به زالت عنه كل حسرة، وحضره كل مسرور وفرح، والله المستعان..”5(5) طريق الهجرتين ص34..
ثانيا: ومن علامات الغنى الحقيقي استغناء النفس بهذا الغنى عن التطاول إلى المحرمات، أو التفريط في الواجبات، أو الانجذاب مع هوى النفس وشهواتها.
يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: «وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة ، و التقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة؛ فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضا فتقاعدها عن المطلوب موجب لفقرها إلى الشهوات، فكل منهما موجب لآخر، وترك الأوامر أقوى لها من افتقارها إلى الشهوات ؛ فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة، كما قال تعالي: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت: 45]، وقال تعالي: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج: 38]، وفي القراءة الأخرى: (يدفع)؛ فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه. وإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب، ففاض منه إليها: استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب، وسلمت به من الأمر المسخوط، وبرئت من المراءاة، ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا، ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) [هود: 112]، وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف: 13]”6(6) طريق الهجرتين ص39،40..
ثالثا: ومن علامات الغنى الحقيقي إخلاص العبادة لله تعالى
والزهد في محمدة الناس وثنائهم وطلب الجاه عندهم ، يقول الإمام الهروي – رحمه الله تعالى – في تعريفه لغنى النفس: “إنه استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ، وبراءتها من المراءاة”7(7) المصدر السابق ص39..
ويشرح ابن القيم کلام الهروي فيقول: “يريد استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره، وإيمانا به واحتسابا لثوابه، وخشية من عقابه ، لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربا من ذمهم وازدرائهم، وطلبا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله والبعد منه، وأنه أفقر شيء إلى المخلوق. فسلامة النفس من ذلك واتصاقها بضده دلیل غناها”.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: “فغني النفس الذي لا يستشرف إلى المخلوق ، فإن الحر عبد ما طمع، والعبد حر ما قنع، وقد قيل : أطعت مطامعي فاستعبدتني.
فكره أن يتبع نفسه لما استشرفت له لئلا يبقى في القلب فقر وطمع إلى المخلوق؛ فإنه خلاف التوكل المأمور به ، وخلاف غنى النفس”8(8) مجموع الفتاوی 18 / 328..
رابعا: ومن علامات الغنى الحقيقي إيثار ما عند الله والدار الآخرة على الدنيا
والزهد في كل ما يشغل عن الآخرة، وعدم التنافس مع أهل الدنيا عليها، والنظر إلى أن المكثرين من الدنيا هم في الغالب المقلون المغبونون يوم القيامة. وهذه النظرة تعطينا ميزانا آخر للكثرة والقلة ؛ حيث إن الكثرة النافعة في ميزان الله تعالى هي الكثرة من الأعمال الصالحة، وأما الكثرة من الدنيا فهي في ميزان الله تعالى قلة وخسران يقول الله عز وجل: (قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة: 100]۔
يعلق سيد قطب – رحمه الله تعالى – على هذه الآية فيقول: “والكثرة تأخذ العين وتهول الحس. ولكن تمييز الخبيث من الطيب، وارتفاع النفس حتی تزنه بمیزان الله، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته، وكفة الطيب ترجح على قلته، وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة.. القوامة على البشرية .. تزن لها بمیزان الله، وتقدر لها بقدر الله، وتختار لها الطيب، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث!
وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان .. ذلك حين ينتفش الباطل، فتراه النفوس رابيا، وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته .. ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش فلا تضطرب يده، ولا يزول بصره، ولا يختل ميزانه، ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد ، ولا عدة حوله ولا عدد.. إنما هو الحق.. الحق المجرد إلا من صفته وذاته ، وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته ، وإلا من جماله الذاتي وسلطانه!”9(9) في ظلال القرآن 2/ 984..
ويوضح ذلك الحديث التالي: «عن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده وليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟ قلت: أبو ذر جعلني الله فداءك. قال: يا أبا ذر تعاله. قال: فمشيت معه ساعة فقال: إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة ، إلا من أعطاه الله خيرا فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرا»10(10) البخاري (6443)..
وقد ترجم البخاري – رحمه الله تعالى – لهذا الحديث بقوله: «باب المكثرون هم المقلون». وشرح الإمام ابن حجر – رحمه الله تعالی – هذه الترجمة بقوله: “كذا للأكثر، وللكشميهني «الأقلون». وقد ورد الحديث باللفظين، ووقع في رواية المعرور عن أبي ذر: «الأخسرون» بدل «المقلون»، وهو بمعناه بناء على أن المراد بالقلة في الحديث: قلة الثواب، وكل من قل ثوابه فهو خاسر بالنسبة لمن كثر ثوابه”11(11) فتح الباري 11 / 266..
خامسا: ومن آثار الغنى العالي عند الله عز وجل: إقرار العبد بالإفلاس والضعف
والافتقار إلى الله عز وجل، والتبرؤ من الحول والقوة إلا بالله عز وجل والاستغناء به سبحانه، والاكتفاء به في دفع الشرور وجلب المنافع.
يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: “إقراره بالإفلاس عين الغنى، تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة، اعترافك بالخطأ نفس الإصابة، عرضت سلعة العبودية في سوق البيع، فبذلت الملائكة نقد: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ، فقال آدم: ما عندي إلا فلوس الإفلاس نقشها: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)12(12) بدائع الفوائد 3/755..
سادسا: ومن علامات الغنى العالي: الاستغناء بالعلم النافع إذا استغنى الناس بالمال
فالغنى بالعلم من الغنى العالي المحبوب لله عز وجل، لأنه يورث خشية القلب وغناه بالله ، ويورث الغنى الكامل في الآخرة. يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: “إن غنى العلم أجل من غنى المال ، فإن غني المال غني بأمر خارجي عن حقيقية الإنسان، لو ذهب في ليلة أصبح فقيرا معدما وغني العلم لا يخشى عليه الفقر، بل هو في زيادة أبدا ، فهو الغنى العالي حقيقة كما قيل:
غنيت بلا مال عن الناس كلهم….وإن الغنى العالي عن الشيء لا به13(13) مفتاح دار السعادة 1/131.
ثانيا : من سمات موازين البشر المعوجة للغنى والفقر
جاء ذكر كثير من هذه السمات متفرقة أثناء الكلام عن الميزان الإلهي للغنى والفقر، ولذا سأكتفي بذكر أهم هذه السمات على سبيل الاختصار:
أولا: الاعتبار الأساس للغنى عند كثير من الناس هو كثرة المال
وبسط الدنيا وسعة الرزق، والفقر عندهم قلة ذلك ؛ دون النظر للغنى الحقيقي الذي سبق ذكره في ميزان الشرع : ألا وهو غنى القلب والنفس، وغنى العلم والإيمان، والاستغناء عن الناس وأموالهم، والغنى بالله عز وجل وامتلاء القلب بنوره.
وقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم موازين الجاهلية للغنى والكثرة؛ وذلك في آيات كثيرة منها :
– قوله تعالى: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ: 35].
– وقال عن صاحب الجنتين في سورة الكهف: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) [الكهف:32-36].
– وذكر الله عز وجل عن الملأ من بني إسرائيل – عندما طلبوا الجهاد فبعث الله لهم طالوت ملكا – أنهم وزنوا من يترأس عليهم بكثرة المال فنبههم الله عز وجل إلى الميزان الحقيقي للغنى، ألا وهو الغنى بالعلم والإيمان ، قال سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 247].
ثانيا: التعلق بالأسباب والركون إليها
ومن علامات هذا الغنى السافل: التعلق بالأسباب والركون إليها ، وضعف التوكل على الله عز وجل، وإذلال النفس عند الخلق في طلب الحوائج.
ثالثا: ومن علاماته: الحرص الشديد على الأموال
وجمعها من أي مصدر کان، وبأي طريق كان، وجعل ذلك الهم الأكبر في الحياة، ونسیان الآخرة والعمل لها ؛ قال الله عز وجل عن أصحاب هذه الموازين : (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19 – 21]، وقال سبحانه: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر: 19-20]، وقال تعالی: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:6-8].
رابعا: بعد أصحاب هذه الموازين عن الله عز وجل
وعدم شعورهم بالتقصير لفقدهم لغنى القلب، وبالتالي لا يرون إلا معجبين بأنفسهم، مدلين بأعمالهم، ناسين أو متناسين لزلاتهم، وبالجملة فهم لا يشعرون بالتقصير في جنب الله تعالى، ولا بالافتقار إليه ؛ لخلو قلوبهم من الغنی به سبحانه الذي هو الغني على الحقيقة، واستبدالهم بذلك جمعهم للدنيا واستغناؤهم بها عن الله عز وجل. ومثل هؤلاء لا ترى حياتهم إلا نكدا وشقاء واضطرابا؛ ولو هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، وخدمهم المال والبنون.
خامسا: ومن علاماته الغنى بالخلق والافتقار إليهم
من خلا قلبه من الغنى بالله عز وجل والافتقار إليه حل مكان ذلك الغنى بالخلق والافتقار إليهم، وإلى إعاناتهم وثنائهم ومدحهم، وأصبح من هذه حاله لاهثا وراء الخلق ليحمدوه ويمدحوه ويعظموه ، باذلا في ذلك كل وسيلة تحقق له ذلك. وما ذاك إلا من ضعف الغنى بالله ن وتعظيمه وحمده، وإلا فإن غني القلب الفقير إلى الله عز وجل على الحقيقة لا يرى إلا زاهدا في ذلك كله .
سادسا: ومن سمات موازين البشر المعوجة للغنى: انصراف قلوب أصحابها عن العلم النافع
والاستغناء عن ذلك بعلوم الدنيا التي هي مبلغهم من العلم، وامتلاء قلوبهم بها وفرحهم بها، وخلوها من العلم النافع الذي يثمر العمل الصالح المقرب إلى الله عز وجل وجنته ؛ قال الله عز وجل: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7]، وقال سبحانه: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [غافر : 83].
سابعا: ينظر أصحاب الموازين المادية إلى المال بکثرته وزيادته دون اعتبار لبركته وحله وعاقبته في الآخرة
فالربا مثلا في موازين الجاهلية زيادة وكثرة، بينما هو في ميزان الشرع قلة ومحق للبركة ، قال الله عز وجل: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قلة»14(14) أحمد 1/ 424، وصححه شاكر في المسند (4026).، وفي رواية أخرى: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة»15(15) ابن ماجه (2270) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1848) .، أي أن ما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك والشرور أكثر، ولئن كان في الربا زيادة عاجلة في المال إلا أن عاقبته إلى محق وخسارة في الآجل.
الهوامش
(1) البخاري (6446).
(2) صحیح ابن حبان (685) وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في الإحسان 2/461.
(3) فتح الباري 11/ 277.
(4) الترمذي في القيامة 4/ 2465، وصځحه الألباني في السلسلة الصحيحة (949-950).
(5) طريق الهجرتين ص34.
(6) طريق الهجرتين ص39،40.
(7) المصدر السابق ص39.
(8) مجموع الفتاوی 18 / 328.
(9) في ظلال القرآن 2/ 984.
(10) البخاري (6443).
(11) فتح الباري 11 / 266.
(12) بدائع الفوائد 3/755.
(13) مفتاح دار السعادة 1/131.
(14) أحمد 1/ 424، وصححه شاكر في المسند (4026).
(15) ابن ماجه (2270) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1848) .
اقرأ أيضا
الميزان الإلهي للعقل والعقلاء والتنوير