إن إشاعة الفواحش وتيسير وسائلها في بلاد الإسلام ولاسيما بلاد الحرمين الشريفين واستقدام أئمة الفساد من أهل الفن الهابط بقصد إفساد دين الأمة، فيه من المعاندة والإذلال والإهانة وترك الالتزام ما لا يخفى على منصف.
الاستعلان بالمعصیة وإجراؤھا مجرى المباحات مع الاستھتار بعظمة الخالق كفر وحراب
فتحدي المسلمين ومقدساتهم ومعاندة الشريعة والاستهتار بعظمة الخالق والإعلان بالمحرمات وإجراؤها مجرى المباحات هو من أعظم الكفر والحراب ولا شك أنه يؤثر على وصف الدار فتصير دار فسق. وقد تنازع الناس في حكم الهجرة منها إلى دار الطاعة والسنة والصلاح. ومهما يكن فإنه لا نزاع في استحباب الهجرة إلى دار الطاعة والنصرة بدليل حديث قاتل المائة فقد دله المفتي العالم على الانتقال من دار الفسق إلى دار الطاعة والصلاح فإن ذلك مما يعينه على إصلاح دينه لوجود الرفقة الصالحة .
وقد أجمعوا على وجوب قتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة لذلك كفروا مانعي الزكاة إذا قاتلوا لأجل منعها فكان منع الزكاة عند هؤلاء العلماء غير مكفر بنفسه حتى ضم إليه قتالهم على منعها فكان هذا منهم تحد وعناد واستهتار واستحلال وجحود بخلاف من منعها ولم يقاتل عليها فهذا يعاقب وتؤخذ منه عنوة ولكن لا يكفر بذلك عندهم وهذا هو السر في قتال الصحابة لمانعي الزكاة وتسميتهم مرتدين ومعاملتهم معاملة المرتدين. فلاح أن منع الزكاة على ضربين منع من غير تحد ولا عناد. ومنع بتحد وعناد واستهتار بعظمة الخالق وهذا ينقل عن الملة.
حكم إشاعة الفواحش وتیسیر وسائلھا في بلاد الحرمین
إن إشاعة الفواحش وتيسير وسائلها في بلاد الإسلام ولاسيما بلاد الحرمين الشريفين واستقدام أئمة الفساد من أهل الفن الهابط بقصد إفساد دين الأمة، فيه من المعاندة والإذلال والإهانة وترك الالتزام ما لا يخفى على منصف، لأنه يحدث تنفيذا لخطط ومؤامرات تستهدف إفساد عقائد المسلمين وأعمالهم ومقدساتهم في أشرف بقعة لهم وهذا ينافي الإيمان منافاة الضد للضد.
فعمليات الفساد الممنهجة والمدروسة والممولة والمحروسة التي تسهر عليها الدولة وتسخر لها إمكانات هائلة وتنفذها عنوة، ليست مجرد محرمات مفسقة بل وجودها في هذا السياق يشي بمؤامرات ومكايد عظيمة حيكت في جنح الظلام للإجهاز على ما تبقى من دين الأمة وأخلاقها بعد القضاء على كل محاولات الإصلاح السياسي.
عندما تكون ظاھرة الفساد ضمن سیاق المؤامرات التي تستھدف الإسلام في المقاتل
إن هذا السياق ينادي بأن ظاهرة الفساد ليست وقائع فردية عابرة بل هي تحقيق وتنفيذ لمقاصد أعداء الإسلام الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا؛ فبعد هزائمهم المتلاحقة أمام المسلمين قديما، اقتنعوا بأن القضاء على الإسلام عسكريا ضرب من المحال؛ فغيروا الخطة فاعتمدوا الغزو الفكري والاستشراق والتبشير والحداثة والعصرنة ودين المؤسسات الرسمية والفرق الضالة فتحالفوا معها –كما في مؤتمر غروزني – لضرب الحركات السنية ولتشكيك المسلمين في كبرى يقينيات دينهم وسعوا بكل ممكن في تفريقهم وتفتيتهم إلى كيانات وقوميات متناحرة، واستعملوا حكاما موالين لهم يتكلمون بألسنتنا ليرعوا هذه المخططات ويسهروا على تنفيذها ويتابعوا سيرها ولينوبوا عنهم في ضرب الحركات الإسلامية السنية لذلك قال مسؤول صهيوني: (قرار السعودية حظر الإخوان يصب في صالح “إسرائيل”)
إن هذا السياق يدل دلالة قاطعة على ما هو أعظم من مجرد الاستحلال والجحود. إنه يدل على الرد والإباء والإعراض والعناد والاستماتة والكراهية والحنق الشديد وترك القبول والانقياد؛ وإلا فما تفسير ظاهرة معاقبة العلماء الذين ينهون عن الفساد في الأرض بالقتل والتعذيب والسجن لعقود من الزمن. فلا شك أن كل ذلك برهان قاطع على منافاة هذه التصرفات للإيمان منافاة الضد للضد. فوجودها بهذه الصورة يستلزم انتفاء الإيمان من قلوب من يتولون كبرها.
واجب الأمة تجاه ظاھرة الفساد الممنھجة
إن للأمة الإسلامية عند تعرضها لمثل هذه الغارات حق التشهير والتحذير ونشر الوعي، فإنه لا حرمة لمن يحملون لواء الصد عن سبيل الله ويبغونها عوجا بل تنهار شرعية أنظمتهم، كما لا يكون هذا من سوء الظن فإن إساءة الظن بالمفسدين لا محذور فيها، ولا يندرج في عموم قوله تعالى: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12]، لأن الله تعالى لم يجعل الظن بالمفسدين إثما فقال سبحانه قال: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ) [يوسف: 18]، فهم لما فعلوا بيوسف ما فعلوا ظن بهم أبوهم ظنا يليق بهم. بل أباح الإسلام في مثل هذه الحالات الجهر بالسوء من القول فقال سبحانه: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء: 148].
فإذا جاز للعبد إذا ظلم مظلمة في خاصة نفسه أن يجهر بالسوء من القول. فكيف إذا انتهكت الشعائر والحرمات وسلبت المقدسات وجرم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى صارت القضية قضية عقيدة ورسالة بل قضية صراع من أجل البقاء؛ فإما أن نكون بالإسلام قادة للبشرية وإما ألا نكون أصلا بحيث يكون باطن الأرض خيرا لنا من ظاهرها؛ فالجهر بالسوء وقتها متأكد.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه، فأغلظ فهم به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا»، ثم قال: «أعطوه سنا مثل سنه»، قالوا: يا رسول الله، إلا أمثل من سنه، فقال: «أعطوه، فإن من خيركم أحسنكم قضاء».
فبين النبي أن لصاحب الحق مقالا ونهى أصحابه عن التعرض له. هذا والمطالَبُ بالحق هو الذي لا يعرف الحق إلا من جهته صلى الله عليه وسلم. فلا ينبغي أن يضيع الحق ولو كان صاحبه كافرا والمطالب به نبيا أو صديقا، فكيف إذا كان المطالب غيره وكان الحق عاما للأمة.
مخاطر الدعوات الجاھلیة على وحدة المسلمین العلمیة والعملیة
فواجب المسلم تجاه دعوات الجاهلية قديمها وحديثها، أن يدافع عن دينه وعن مقدساته وشرائعه وعن الحقوق الشرعية بحسب الإمكان. ولا يجادل عن الجاهلية مهما كانت. ولا يبرر لأهلها، ولا يغتر بكثرة أتباعها، فإن المكاثرة إنما تكون بالحجج الشرعية والأدلة الثبوتية من الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، لا بأصول الحيارى المتهوكين، ولا يركن إليهم، ولا يدعو إلى طريقتهم ودعوتهم، بل تكون دعوة المسلم لله ولرسوله ولدينه حصرا فيدعو إلى الكتاب المنزل والنبي المرسل والإجماع الأول.
فلو دعا إلى غير الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة لكان داعيا إلى غير الله تعالى كالدعوة إلى العصبية المذهبية أو المذاهب الكلامية أو الطرق الصوفية أو الأنظمة اللادينية أو أي دعوة تلغي التلقي عن الله ورسوله وتعتاض عنه بالمصادر الشركية والأصول الإلحادية.
حقیقة الدعوات الجاھلیة
فدعوى الجاهلية تشمل كل دعوى إلى غير الله تعالى ورسوله كالتداعي بالمقالات البدعية والشركية التي تفرق الأمة بل التداعي بالأسماء الشرعية إذا فرق الأمة منع منه وكان جاهلية نتنة.
ففي الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية» قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: «دعوها فإنها منتنة».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذان الاسمان: المهاجرون والأنصار، اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل وفي هذا، وانتساب الرجل إلى المهاجرين أو الأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط، كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه أو المحرم، كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى. ثم مع هذا لما دعا كل منهما طائفة منتصرا بها أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسماها دعوى الجاهلية)1(1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 241)..
وقال أيضا: (وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي، أو قرفندي، فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي. والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي؛ بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله)2(2) مجموع الفتاوى (3/ 415)..
وقال أيضا: (بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري. فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان).
الدعوة إلى مناھج الفرق الضالة ھي دعوى إلى الجاھلیة
إن الدعوة إلى مناهج الفرق المخالفة لمنهج السلف هي من دعوى الجاهلية سواء كانت في باب الاعتقاد أو السلوك أو الأحكام أو السياسة أو كانت دعوى إلى جاهلية الدنيا المحضة كجاهلية ذوي الأنساب والأعراق، وإن كانت الدعوة إلى مناهج الفرق الناكبة عن سبيل السنة ومنهاج السلف شرا من الدعوة إلى عصبية ذوي الأنساب وقطاع الطريق، لأن الدعوة إلى المناهج الشركية والبدعية هي دعوة إلى الدين الفاسد، ومع ذلك فتدخل كل هذه الدعوات في عموم حديث: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا).
إن الله تعالى أمرنا عند التنازع والاختلاف والفرقة أن نرد الأمر إليه فهو سبحانه وحده من يملك حق التصحيح والتزييف، وله وحده سبحانه تحديد الحق والواجب مما ليس حقا ولا واجبا فربما توهم العبد أو الجماعة تحت ضغوط الأعراف الاصطناعية أن لهم مطالب ظنوها حقوقا ولا تكون تلك الحقوق المزعومة عند التحقيق سوى دعوى الجاهلية قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
قال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية: (وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله، لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضادَّ أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى حكم غير الله ورسوله، فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله، ولهذا قال الله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) وهذا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حَكّمَ غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجاً من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، وحسبك بهذه الآية العاصمة القاصمة بياناً وشفاء فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين ما أمرت به)3(3) زاد المهاجر إلى ربه (ص: 42)..
الموقف الشرعي ممن تعزى بعزاء الجاھلیة
فعموم حديث (من تعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا) يتناول كل الجاهليات لأنه لا يوجد في الواقع إلا الإسلام أو الجاهلية. فلا توجد واسطة بينهما كما قال تعالى ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) [الجاثية: 18]، فليس ثمة إلا الشريعة وأهواء الجاهلية.
قال البغوي: (قوله: «من تعزى بعزاء الجاهلية»، أي: انتسب وانتمى، كقولهم: يا لفلان، ويا لبني فلان، يقال: عزوت الرجل وعزيته: إذا نسبته، وكذلك كل شيء تنسبه إلى شيء)4(4) شرح السنة للبغوي (13/ 121)..
فالدعوة إلى المناهج المخالفة للكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة والانتساب والانتماء إليها يشمله عموم هذا الحديث وهو أمر شرع للمصلحة ولا يتعارض مع النصوص التي تأمر بالنهي عن الفحش والتفحش فهو مثل قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء: 148]، ومثل تصريحه لماعز عن حقيقة الزنا؛ لذلك لما علم المخالفون لمنهج السلف ذلك وأيقنوه سلك طائفة منهم مسلكين لرده المسلك الأول تضعيف الحديث. والمسلك الثاني: أنهم تبعا لصفاقة وجوههم صاروا ينتسبون إلى أهل السنة كانتساب زياد إلى آل حرب، فرغم صراحة مذاهبهم وأنها مذاهب إلحادية لادينية تصرح بتقديم معقولات اليونان على قول الله تعالى ورسوله إلا أنهم لا يزالون يحاولون حشر أنفسهم مع أهل السنة. ولكن هيهات فعظيم إلحادهم يحول دون الانتساب إلى الإسلام فضلا عن الانتساب إلى السنة. وإذا أثبتنا الإيمان لمن ترك التزام الكتاب والسنة في تلقي العقائد والتزم بقواعد أفلاطون وأرسطو صرنا إلى مذهب من كفرهم السلف ممن يكون الإيمان عندهم مجرد تصديق القلب.
إسقاط الأخبار كإسقاط الأحكام كلاھما كفر لمنافاته شرط الالتزام
إن إسقاط الأخبار هو كإسقاط الأحكام لا فرق بينهما وهو كفر مجرد ولو لم يقترن به اعتياض عنهما بغيرهما، فكيف لو وقع الاعتاض عنهما بالمصادر الشركية والبدعية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بَعَثَ الله به رُسُلَـه فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى)5(5) (مجموع الفتاوى) 8/ 106..
فإن من آمن بالرسول ولم يلتزم تصديقه ولا أخذ العقائد عنه بل أسقط أخباره فلم يقبل منها إلا ما قبلته معقولات أعداء الرسل فالتزم أصول الصابئة المشركين وأبطل بها النصوص الإلهية المعصومة فردها إلى الطواغيت الفلسفية والأوثان الكلامية بزعم أن ظواهرها –على كثرتها الكاثرة- كفر وإلحاد، لا يمكن عده في جملة المسلمين لأن شرط التزام طاعة الله تعالى بتصديق الأخبار وقبول الأحكام لا بد منه وإلا صار فرعون وأبو طالب واليهود وإبليس كلهم مؤمنين لأنهم يعتقدون صدق الرسل ولكن كفروا بسبب ترك التزام طاعتهم ومتابعتهم. وبسبب ترك هذه الفرق للالتزام بكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة كفرهم أئمة السنة ولعنتهم الأمة على المنابر وحرم الأئمة أكل ذبائحهم وأبطلوا شهادتهم وأوجبوا استتابتهم. بل قتلوا مؤسس مذهبهم الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى قتله عبد الله القسري بعد خطبة العيد وقال للناس: ضحوا تقبل الله ضحاياكم منكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر. فكان الجعد أول من أظهر التعطيل ونفي الصفات حيث نفى صفة الكلام وقال بخلق القرآن ونفى الخلة.
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخ القربان
ولا يخفى أن ما قتل عليه الجعد بن درهم هو نفس ما تقوله المعتزلة والأشعرية والماتريدية. فكانوا كالشارحين لمقالته المقررين لها بما ظنوه معقولات صريحة.
قال ابن القيم: (الدعاء بدعوى الجاهلية، والتعزي بعزائهم، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب، ومثله التعصب للمذاهب، والطرائق، والمشايخ، وتفضيل بعضها على بعض بالهوى والعصبية، وكونه منتسبا إليه، فيدعو إلى ذلك ويوالي عليه، ويعادي عليه، ويزن الناس به، كل هذا من دعوى الجاهلية)6(6) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 431)..
عود على بدء.
الاستعلان بالمعاصي یزیل حرمة العاصي ویعرضه للعقوبات الشرعیة
إن الاستعلان بالمعاصي يزيل حرمة العبد ويعرضه للعقوبة الشرعية وللهجر والزجر من المجتمع المسلم. حتى قال الإمام أحمد في رواية حنبل عنه: (ليس لمن يسكر ويقارف شيئاً من الفواحش حرمة ولا صلة إذا كان معلنا مكاشفا) فإذا أظهر المنكرات وجب الإنكار عليه علانية، ولم يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام؛ إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة راجحة، فإن أظهر التوبة أظهر له الخير7(7) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 28 / 217، 218..
موقف الأمة الإسلامیة من انحراف المجتمعات الشرقیة والغربیة.
أما إذا انحرفت المجتمعات كما يحدث في مجتمعات الإباحية والتثليث والوثنية فيجب على المسلمين عند توفر القدرة المنع من ذلك لأنهم إنما كانوا خير أمة أخرجت للناس لمناط الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هذه الأمة مسؤولة عن الناس كلهم. وقيام المسلمين بدفع انحراف الأمم الأخرى يدخل في باب الدفاع الشرعي العام لذلك كان من مقاصد الإمامة ما قاله السبكي عند ذكره لوظائف السلطان: (إن اللَّه تعالى لم يولِّه على المسلمين ليكون رئيسًا آكلًا شاربًا مستريحًا. بل لينصر الدين ويُعلِيَ الكلمة. فمن حقِّه ألَّا يدع الكفار يكفرون أنعُم اللَّه ولا يؤمنون باللَّه ولا برسوله)8(8) معيد النعم ومبيد النقم (ص: 21)..
موقف السلطة الشرعیة من انحراف المجتمع المسلم
أما لو انحرف المجتمع المسلم، فللسلطة السياسية منعه من الانحراف حتى قيل بقتل ثلث المفسدين لإصلاح ثلثيهم لأن انحراف المجتمع وتظاهره بالفواحش والمعاصي من غير نكير يعرض المجتمع كله للفتن والفساد والفتنة. قال أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي: (من مراعاة المصلحة العامة أيضا ما نقله العلامة خليل عن مالك من جواز قتل الثلث من المسلمين لإصلاح الثلثين ومحمله عندنا على أن الجميع مفسدون ولا يحصل انزجارهم لا بحبسهم ولا بضربهم إلا بقتل ثلثهم هذا محل الجواز إذ لم يقل أحد بجواز قتل أهل الصلاح لإصلاح أحد من أهل الفساد واتضح أن المراد يجوز قتل ثلث المفسدين لإصلاح ثلثيهم حيث توقف الإصلاح على القتل وإلا ارتكب الأخف)9(9) الفواكه الدواني، أحمد بن سالم بن غنيم النفراوي المالكي، (2/118)..
لذلك أجمع العلماء على أن كل كيان انحرف وأعلن بالمحرمات الظاهرة المتواترة وبالامتناع عن الواجبات الظاهرة المتواترة فإن على السلطة السياسية منعه ولو بالقتال. فإن الفساد إذا أجري مجرى المباحات أثر ذلك على وصف الدار وصيرها دار فسق لأن دار المسلمين لا تجري فيها إلا أحكام الإسلام، لذلك قال مالك: (لا يحل المقام بأرض سب فيها السلف).
ويرحم الله إمام دار الهجرة. كيف لو رأى مناهج ومعاهد يرمى فيها السلف بالبدعة والتجسيم والحشو؟
زوال الصبغة الإسلامیة عن المجتمعات الإسلامیة عند التواطؤ على فعل المنكرات
فالصبغة الإسلامية تزول عن المجتمع إذا تواطأ أفراده ومؤسساته على إقرار الشركيات والمبتدعات والمنكرات وإجرائها مجرى المباحات مع تجريم النهي عنها، أو تواطؤوا على النهي عن تحقيق التوحيد والسنة وسائر الواجبات الظاهرات المتواترات وتجريم العمل بها والدعوة إليها، إذ دلالة المنقول الصحيح والمعقول الصريح تحيل صبغ الكيانات اللادينية بالصبغة الدينية.
قال البوطي: (قيام المجتمع الإسلامي، هو أن يكون القضاء العام فيه قائما على أساس حكم الإسلام وشريعته، وأن تكون الصبغة الإسلامية ممتدة على مختلف مرافق المجتمع وأسواقه ومظاهره، فلا يتعامل فيه بالربا ولا تظهر فيه الخمور، ولا يجاهر فيه بشيء من الفواحش، ثم أن تكون شعائره الدينية كاملة منطلقة دون أي قيد.)10(10) كبرى اليقينيات الكونية 309..
وقال الأستاذ الشاذلي: (إن تواضع مجتمع ما بأفراده وهيئاته على إقرار معصية من المعاصي بحيث تصير غير منكرة بينهم بل هي المتعارف عليها المعمول بها المستنكر خلافها فهذا ولا شك يحمل دلالة على رد الشرع وعدم الانقياد له من المجتمع جملة وإن لم يلزم من ذلك اعتبار أفراده خارجين عن الإسلام فردا فردا)11(11) الإيمان بين الجماعات الإسلامية. عبد المجيد الشاذلي (108)..
فالقول بأن المجتمع رد الشرع لا يستلزم الحكم على أفراده فردا فردا لأن ذلك يستلزم تكفير المجتمعات جملة وتفصيلا وإنما الذي يكفر المجتمع فردا فردا هم الخوارج الأزارقة.
قال أبو الحسن الأشعري: ( وزعمت الأزارقة أن من أقام في دار الكفر فهو كافر، لا يسعه إلا الخروج). ومن أقوالهم: (إذا كفر الإمام كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد)12(12) مقالات الإسلاميين 1/88 و 109..
وهذه مصر إبان استيلاء العبيديين (الفاطميين) عليها صارت دار ردة ومع ذلك ظل المسلم فيها مسلما لم يضره ردة بني عبيد القداح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان حتى قالت فيها العلماء إنها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب .. فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة وهم أعظم كفرا وردة من كفر أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء)13(13) الفتاوى الكبرى (3/199)..
والمقصود هنا هو بيان خطورة تواطؤ الناس على الاستعلان بالفواحش والمنكرات حتى تزول بذلك الصبغة الدينية عن المجتمع.
الهوامش
(1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 241).
(2) مجموع الفتاوى (3/ 415).
(3) زاد المهاجر إلى ربه (ص: 42).
(4) شرح السنة للبغوي (13/ 121).
(5) (مجموع الفتاوى) 8/ 106.
(6) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 431).
(7) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 28 / 217، 218.
(8) معيد النعم ومبيد النقم (ص: 21).
(9) الفواكه الدواني، أحمد بن سالم بن غنيم النفراوي المالكي، (2/118).
(10) كبرى اليقينيات الكونية 309.
(11) الإيمان بين الجماعات الإسلامية. عبد المجيد الشاذلي (108).
(12) مقالات الإسلاميين 1/88 و 109.
(13) الفتاوى الكبرى (3/199).
المصدر
دراسة بعنوان: “المعاصي بين الاستعلان والاستحلال”، للدكتور سليم سرار باختصار يسير.
اقرأ أيضا
فتنة شيوع المعاصي وترك إنكارها
الفتن الناجمة عن شيوع المعاصي والفساد
تحذير المسلمين من اللهو والمعاصي