هناك صفات لابد من توفرها في من قام بنصرة الدين وعلى رأس هذه الصفات (الفقه في الدين) ولكن يبقى (الفقه في الدين) معنى مجملا لابد من تفكيكه وتفصيله فما هي تفاصيل (الفقه في الدين)؟ وما هي أركان الفقه في الدين التي لابد أن يتحلى بها أفراد الطائفة المنصورة؟..
الطائفة المنصورة ومسئوليتها عن نصرة الدين والحفاظ على هوية الأمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلقد تكفل الله عز وجل بنصرة دينه وأوليائه وعدا لا يتخلف إلا إذا تخلفت أسبابه قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51] وقال سبحانه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173]
وقد جاء في حديث الطائفة المنصورة أوصافا لمن اختارهم الله عز وجل لنصرة دينه وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الطائفة المنصورة الذي بلغ حد التواتر فقد رواه اثنان وعشرون صحابيا، أخبرنا فيه بأنهم ثابتون ولا يخلو منهم زمان إلى قبيل قيام الساعة وأفراد هذه الطائفة هم نخبة الأمة وأفاضلها اصطفاهم الله عز وجل وخصهم بصفات لا بد منها لمن قام بنصرة الدين والحفاظ على هوية الأمة، ومما يلفت الانتباه في بعض روايات حديث الطائفة المنصورة الروايات التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما وفيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم استفتح حديثه فيها بقوله: «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين» كما في الروايات التالية:
بعض مرويات حديث الطائفة المنصورة
- روى البخاري بسنده عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»1(1) أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037)..
- وروى مسلم بسنده عن معاوية رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، ولا تَزالُ عِصابَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يُقاتِلُونَ علَى الحَقِّ ظاهِرِينَ علَى مَن ناوَأَهُمْ، إلى يَومِ القِيامَةِ»2(2) أخرجه مسلم (4956) وروى هذه الرواية الإمام أحمد في مسنده [4/ 83]..
- وفي رواية أخرى في مسند أحمد: عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» ثم قال معاوية رضي الله عنه وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ وَإِنَّمَا يُعْطِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَطَاءً عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَهُوَ أَنْ يُبَارَكَ لِأَحَدِكُمْ، وَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَطَاءً عَنْ شَرَهٍ وَشَرَهِ مَسْأَلَةٍ، فَهُوَ كَالْآكِلِ وَلَا يَشْبَعُ» وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ أُمَّةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ»3(3) رواه أحمد (7194) وصحح الأرناؤوط سنده وقال صحيح على شرط مسلم..
- وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ , وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ , وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ , وَإِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ , وَلَنْ تَزَالَ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ لَا يُبَالُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمُرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُوَنَ» وفي رواية المدخل إلى السنن الكبرى: «وَهُمْ ظَاهِرُونَ»4(4) مسند الشاميين للطبراني والمدخل إلى السنن الكبرى..
الفقه في الدين من أهم صفات الطائفة المنصورة
وإن استفتاح بعض أحاديث الطائفة المنصورة بقوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» لمما يسترعي الانتباه ويستنبط منه أمور مهمة لابد أن يعيها القائمون على نصرة الدين، وأهم هذه الأمور هي:
وجود الارتباط الشديد بين القائمين من أفراد الطائفة المنصورة وبين التفقه في الدين أي أن هناك صفات لابد من توفرها في من قام بنصرة الدين وعلى رأس هذه الصفات (الفقه في الدين) ولكن يبقى (الفقه في الدين) معنى مجملا لابد من تفكيكه وتفصيله فما هي تفاصيل (الفقه في الدين)؟ وما هي أركان الفقه في الدين التي لابد أن يتحلى بها أفراد الطائفة المنصورة؟ حتى يصدق عليهم وصف (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ).
تعريف مصطلح (الفقه)
ولمعرفة هذه الأركان لابد لنا من تعريف مصطلح (الفقه)
الفقه في اللغة: يدور حول الفهم الدقيق المبني على التفكر والتأمل وفهم مراد المتكلم من كلامه.
والفقه في الاصطلاح: له معنيان:
أ: المعنى العام : وهو فهم الدين كله (أصوله واعتقاده وتشريعاته وآدابه وأخلاقه) ويدخل فيه فقه الحياة كلها.
ب: المعنى الخاص: وهو العلم بالأحكام الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية ويشمل: (فقه العقائد فقه العبادات-فقه المعاملات المالية-فقه الأسرة – فقه الجنايات والعقوبات).
أركان الفقه في الدين
الركن الأول: الفقه والبصيرة في الدين عقيدة وأحكاما
ولا يصدق وصف الفقيه إلا على من أحاط بهذه العلوم وكانت له فيها نية وإخلاص وظهرت في خلقه وعبادته وسكوته ووقاره وخشيته من الله عز وجل ونصرته للدين .
الركن الثاني: فهم وفقه الواقع أو الواقعة التي يريد الفقيه معرفة الحكم فيها
سواء كانت فردية أو نازلة جماعية فلا بد للفقيه بحق أن يحيط بمعرفة واقعها وملابساتها وظروفها وإن كانت تتعلق بالمجرمين من الكفار أو المنافقين فيجب عليه الوعي والفقه بواقع الأعداء وسبيلهم وخططهم ومكرهم وكيدهم امتثالا لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:55] فإن لم يكن الفقيه على دراية بالواقع والواقعة أنزل الأحكام التي فقهها في غير محلها فضل وأضل.
الركن الثالث: فقه التنزيل
وهذا فقه شريف تؤدي الغفلة عنه والجهل به إلى مآلات وعواقب خاطئة . والمراد بفقه التنزيل العلم بالأدوات والقواعد الفقهية والمقاصد الشرعية التي تنزل بواسطتها الأحكام الشرعية على الوقائع . ومن هذه الأدوات والقواعد مفهوم الضرورة وضوابطها وقاعدة سد الذرائع والعادة المحكمة والأمور بمقاصدها والإحاطة بفقه الموازنات والمآلات والأولويات ولاسيما عند التعارض بين المصالح أو بين المفاسد أو بين المصالح والمفاسد حيث أن هناك ضوابط شرعية لهذا العلم الشريف يوفق فيها الفقيه إلى الصواب بإذن الله تعالى في إنزال الأحكام على الوقائع والخروج بالمواقف الشرعية الصحيحة في ذلك فليس الفقيه من يعلم الخير من الشر ولكن الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين عند التعارض فيأخذ خير الخيرين ويترك شر الشرين. ويلحق بذلك الفقه بأحوال الاستضعاف وأنه يسعها ما لا يسع أحوال التمكين.
كما يلحق بهذا الفقه، الفقه بأقوال أئمة الدين التي اشتهرت عنهم، ومعرفة الملابسات والظروف والمناسبات التي كانوا يعيشونها، ونوع الأسئلة، وأحوال السائلين وتوجهاتهم، التي أجابهم العلماء عليها بما يناسب أحوال ذلك العصر وظروفه، وأسوق لبيان ذلك مثالين:
المثال الأول: قول ابن عباس: (كفر دون كفر)
قول عبدالله بن عباس رضي الله عنه عند قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44] أنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة (كفر دون كفر)5(5) رواه الحاكم وصححه الذهبي. فنظرا لعدم فقه بعض المنتسبين للفقه إلى الظرف الذي قال فيه ابن عباس رضي الله عنه هذا القول فإنهم أخذوا هذا الحكم من ابن عباس رضي الله عنه وأنزلوه على واقع طواغيت العصر الذين شرعوا القوانين التي تستحل ما حرم الله وتناقض شرع الله وقالوا إن هذا الصنيع من هؤلاء الحكام المشرعين ما لم يأذن به الله تعالى كفر دون كفر وليس كفرا مخرجا من الملة ولكن لو فقهوا الملابسات ومن كان ابن عباس رضي الله عنه يعني بقوله لما افتروا على ابن عباس وعلى دين الله هذه الفرية وهذه الضلالة.
إن قول ابن عباس رضي الله عنه وغيره من السلف كعطاء وطاووس لم يكن موجها لطواغيت زماننا فهم لم يروا هذا الكفر بشرع الله وإقصائه عن الحياة والتشريع بل كانوا يخاطبون به فرقة من فرق الخوارج الذين كانوا يكفرون بالكبيرة ويرون أن حكام بني أمية أو بني العباس بارتكابهم معاص في أنفسهم وقصورهم وظلمهم للناس أن ذلك كفر مخرج من الملة.
المثال الثاني: قول الإمام أحمد: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟)
قول الإمام أحمد عندما سئل عن الطائفة المنصورة من هم فقال رحمه الله تعالى: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟)
فقد فهم بعض الناس أن الطائفة المنصورة هم المشتغلون بالصناعة الحديثية والتخريج والجرح والتعديل وهذا فهم خاطئ وتضييق لموسع. ولكن بمعرفة الظروف والأحوال التي قال فيها الإمام أحمد مقولته هذه يتبين أن المراد بالطائفة المنصورة ليس هم المشتغلين بالحديث وتصحيحه وتخريجه وإنما المراد بأهل الحديث أهل الأثر وتعظيم نصوص الوحيين مقابل علم الكلام ومن يقدمون العقل على النقل ويشتغلون بالمنطق ومناهج الفلاسفة كأمثال المعتزلة والأشاعرة وكانوا كثيرين في عصره ولذا علق الإمام النووي رحمه الله على مقولة الإمام أحمد بقوله: (قال القاضي عياض إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. قلت ويحتمل أن هذه الطائفة متفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد ومنهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض)6(6) شرح النووي لمسلم (13/57)..
الركن الرابع لفقه الدين: فقه النفس
والمراد هنا بفقه النفس النظر في أحوال النفس ومحاسبتها ومدى التزامها بما تعلمته وفقهته من أمور الدين والواقع وظهور ثمار العلم والفقه في عبادة الفقيه وسلوكه وأخلاقه وأعماله الظاهرة والباطنة وقيامه بنصرة الدين وإبلاغه للناس وإلا فما قيمة مجرد الفهم للشريعة عقيدة وأحكاما ثم لا يظهر آثارها في قلب الفقيه وصلته بربه وخشيته له وتوكله عليه ونصرته لدينه، وهذا هو الذي تمت الإشارة إليه في شرح الحديث وسر ارتباط الفقه بالدين بالطائفة المنصورة حيث سبق القول بأن من لطائف الحديث أن من قام بنصرة الدين ينبغي أن يكون على مستوى من الفقه والفهم للدين والواقع وأن تظهر آثار هذا الفقه في أحواله وقيامه بنصرة الدين وإلا فما قيمة فهم وعلم لا يثمر العمل والتعليم والدعوة والجهاد؟ ويكفينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يسألَ عن عمُرِه فيمَ أفناه، وعن علمِه فيمَ فعَل، وعن مالِه من أين اكتسَبه وفيمَ أنفقَه، وعن جسمِه فيمَ أبلاه»7(7) رواه الترمذي وقال حسن صحيح..
عناية السلف بفقه النفس وتفقد أحوالها ومحاسبتها
ولقد كان للسلف أقوال كثيرة في التنبيه على هذا النوع من الفقه أعني فقه النفس ومحاسبتها في العمل بالعلم بل ألفوا في ذلك كتبا من أشهرها (اقتضاء العلم العمل) للخطيب البغدادي ومن هذه الأقوال:
- قول النووي رحمه الله في شرحه لحديث «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين»: (فيه فضيلة العلم والتفقه في الدين والحث عليه وسببه أنه قائد إلى تقوى الله تعالى)8(8) شرح النووي لمسلم (7/ 78)..
- وقال العيني في شرحه للحديث: (ومن فوائد الحديث فضل الفقه في الدين على سائر العلوم وإنما ثَبت فَضله لِأَنَّهُ يَقُود إِلَى خشيَة الله تَعَالَى والتزام طَاعَته)9(9) عمدة القارئ (2 / 52)..
- وقال مجاهد: (الفقيه من يخاف الله).
- وقال عمر رضي الله عنه لأبي موسى رضي الله عنه: (إن الفقه ليس بكثرة الرد وسعة الهذر وكثرة الرواية وإنما الفقه خشية الله عز وجل)10(10) إبطال الحيل لابن بطة ٢٦..
- عن سهل بن عبدالله قال: (العلم كله دنيا، والآخرة منه العمل به).
- عن حبيب بن عبيد الرحبي: (تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَاعْقِلُوهُ، وَانْتَفِعُوا بِهِ، وَلَا تَعَلَّمُوهُ لِتَجَمَّلُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ إِنْ طَالَ بِكُمُ الْعُمُرُ أَنْ يُتَجَمَّلَ بِالْعِلْمِ كَمَا يَتَجَمَّلُ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ)11(11) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، ص34..
- قال أبو قلابة لأيوب يا أيوب: (إِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكَ عِلْمًا فَأَحْدِثْ لِلَّهِ عِبَادَةً، وَلَا تَكُونَنَّ إِنَّمَا هَمُّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ)12(12) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/283)..
- عن علي رضي الله عنه قال: (يَا حَمَلَةَ العِلْمِ، اعْمَلُوا بِهِ، فَإِنَّمَا العَالِمُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَوَافَقَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ العِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُمْ، وَتُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ، يَجْلِسُونَ حِلَقًا فَيُبَاهِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ تِلْكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى)13(13) «سنن الدارمي (٣٩٤)، والأثرُ وإِنْ كان ضعيفًا إلَّا أنه لصحَّةِ معناه تَناقَله العلماءُ في مؤلَّفاتهم الخاصَّة بآداب طالب العلم وأخلاقه، منهم ابنُ عبد البرِّ في «جامع بيان العلم وفضلِه» (١/ ٦٩٦)، والخطيب البغداديُّ في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (١/ ٨٩). وقال أيضا: (هَتَفَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلَّا ارْتَحَلَ).
- قال الشعبي: (إِنَّا لَسْنَا بِالْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّا سَمِعْنَا الْحَدِيثَ فَرَوَيْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ مَنْ إِذَا عَلِمَ عَمِلَ)14(14) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (4/54).. وقال أيضا: (إنما الفقه الورع عن محارم الله، والعالم من خاف الله عز وجل)
- وقال الحسن عندما قيل له في مسألة ليس هكذا قال الفقهاء: (ويحك وهل رأيت فقيها قط، إنما الفقه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه)15(15) أخرجه نعيم بن حماد في نسخته زائداً على ما رواه المروزي عن ابن المبارك في كتاب الزهد (ج2/ص8)، وأخرجه ابن بطة في إبطال الحيل (ص25)..
- وعن مجاهد: (في قوله تعالى: (كونوا ربانيين) الربانيون فوق الأحبار، لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير العام بأمور الرعية وما يصلحهم في أمور دينهم ودنياهم)16(16) تفسير الطبري سورة آل عمران: ٧٩..
ففي هذا الأثر النادر من هذا العالم الرباني دليل لما سبق ذكره أن من مهمة الفقيه الاهتمام بشؤون الأمة وإصلاحها وسياستها. مما سبق يتبين أن العناية بفقه النفس وتفقد أحوالها ومحاسبتها في العمل بما علمته مما أمر الله عز وجل به ونهى عنه من الأعمال الباطنة والظاهرة، إن هذا من أهم صفات الفقيه، وإن التفريط في هذا النوع من الفقه يقدح في الفقه والعمل بالعلم ولا يصدق عليه اسم الفقيه قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس:9].
العناية بالأعمال القلبية الباطنة
وأول وأهم ما ينبغي العناية به من العمل بالعلم الأعمال القلبية الباطنة فكم انطوت القلوب على أعمال محرمة ومكروهة وصاحبها ينسب نفسه إلى الفقه والدعوة ونصرة الدين.
ومن أخطر هذه الأعمال القلبية المحرمة:
- الرياء وضعف الإخلاص وحب الشهرة والتصدر.
- العجب بالنفس والغرور.
- الأنانية وحب الذات ولو على حساب مصالح الغير.
- العنصرية المقيتة بين بعض الدعاة فيما بينهم وكذلك الحزبية المشينة التي تقع فيها بعض الجماعات الإسلامية مما يذكي التفرق والخلاف.
- الحسد بين بعض طلاب العلم والدعاة. وتمكن صفة الحقد من بعض القلوب.
- امتلاء القلب بحب الدنيا والركون إليها والتفنن في الترف فيها وكونها الأكبر همًا وهذا من الآفات التي تعشعش في قلوبنا وقلوب كثير من الدعاة الذين ينظر أنهم من أنصار هذا الدين، وإذا لم يكن الداعية، والقائم لنصرة الدين زاهدا في الدنيا؛ ممتلئا قلبه بهم الآخرة؛ والتضحية بالمال والنفس في سبيل الله تعالى؛ بعيدا عن السلاطين وأعطياتهم؛ فإنه سرعان ما يتساقط عند أول اختبار، ويتنازل عن مبادئه رغبة ورهبة، قال الله عز وجل: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) [التوبة:44-46] وقال سبحانه في نفس السورة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة:37] وقد قص علينا الرسول صلى الله عليه وسلم قصة نبي من أنبياء بني إسرائيل لما أراد أن يغزوا بهم في سبيل الله، قام فيهم خطيبا وقال: «لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى بيوتا ولما يرفع سقفها، ولا يتبعني رجل له خلفات ينتظر نتاجها»17(17) رواه البخاري ومسلم. وهذه الموانع الثلاثة من ضمن الموانع التي حذرنا الله عز وجل من أن تصدنا عنه قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24] .
- ضعف عقيدة الولاء والبراء والمولاة والمعاداة في الله وتغليب الحمية للقوم أو الوطن والركون للظالمين والغلو في الحب والبغض.
- الضعف في بعض الأعمال القلبية؛ وصرفها لغير الله تعالى؛ كعبادة المحبة والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل، وهذه الأعمال هي أصول الأعمال القلبية، وبضعفها تنشأ آفات قلبية خطيرة لا تليق بمن يدعي أنه من أنصار دين الله تعالى. وتظهر هذه الآفات غالبا عند الشدائد والابتلاءات حيث يعرف العبد نفسه على حقيقتها وأن حبه وتعظيمه وخوفه ورجائه للمخلوق أشد من حبه وتعظيمه وخوفه ورجائه لربه تعالى.
من الأعمال الظاهرة التي فرط فيها الكثير منا
- ضعف الصلة بالله تعالى وذلك بالتفريط في كثير من العبادات، كنوافل الصلاة، والصيام، والذكر، وقراءة القرآن الكريم وتدبره، والتفقه في الدين، والصدقات.
- الوقوع في آفات السمع والبصر واللسان، مما حرمه الله عز وجل من المسموعات والمبصرات والملفوظات، كالغيبة والنميمة والسب والفحش في الأقوال.
- التفريط في حقوق الزوجات والأولاد والأرحام سواء كانت هذه الحقوق تعليمية ودعوية أو مالية.
- التساهل في حقوق الخلق، والاعتداء عليهم، وظلمهم في أموالهم وأعراضهم. وعدم العدل والإنصاف مع الغير.
- التلبس ببعض المعاصي الظاهرة؛ والإصرار عليها؛ وتبريرها بشبه واهية، كحلق اللحية أو تخفيفها، وكالتصوير واقتناء الصور وإبقائها في البيوت والجوالات والمكاتب، وكإسبال الثياب، والتشبه بالكفار في عاداتهم.
- الفظاظة والغلظة وعبوس الوجه وتقطيب الجبين.
- السفر لبلاد الكفر لمجرد السياحة وتشتد هذه الآفة في حال اصطحاب عوائلهم معهم.
- ضياع الأوقات والأعمار فيما لا ينفع فضلا عما يضر.
- الانشغال بعيوب الناس عن عيوب النفس.
- الطيش والعجلة وضعف الحلم والرفق والأناة.
- إهمال تربية الأهل والأولاد والانشغال عنهم مع وجوب ذلك على الداعية بل هم أولى بالدعوة والتوجيه من غيرهم قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
هذه بعض الآفات التي ينبغي أن نتفطن لها في أنفسنا، وهي للمثال لا الحصر، وهذا من فقه النفس ومحاسبتها، والجمع بين الفقه في الدين والعمل به وظهور ثمراته في حياتنا عبادة وسلوكا ودعوة وجهادا.
الفقيه حقا
والحاصل أن الفقيه بحق وصدق، والذي يعد نفسه من أنصار الله عز وجل، وأنصار دينه؛ لابد أن تتمثل فيه الأركان الأربعة للفقه السابق ذكرها وهي:
1- الفقه والبصيرة في الدين عقيدة وأحكاما.
2- الفقه بالواقع سواء في واقعة فردية أو واقعة ونازلة جماعية في الأمة وهو ما يمكن أن يطلق عليه الوعي بسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.
3- فقه التنزيل وهو الفقه بالأدلة التي ينزل بها الأحكام على الوقائع، ومن ذلك فقه مقاصد الشريعة، وفقه الموازنات والأولويات والمآلات.
4- فقه النفس وهو مجاهدة النفس في تحويل ما تعلمه من الدين، وفهمه من الواقع؛ إلى عمل وسلوك وانقياد؛ وتعظيم لله تعالى وخشيته والتوكل عليه؛ ونصرة لهذا الدين ودعوة إليه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن أراد بهم خيرا؛ ففقههم في الدين بهذا الفقه الشامل النافع.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش
(1) أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).
(2) أخرجه مسلم (4956) وروى هذه الرواية الإمام أحمد في مسنده [4/ 83].
(3) رواه أحمد (7194) وصحح الأرناؤوط سنده وقال صحيح على شرط مسلم.
(4) مسند الشاميين للطبراني والمدخل إلى السنن الكبرى.
(5) رواه الحاكم وصححه الذهبي.
(6) شرح النووي لمسلم (13/57).
(7) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
(8) شرح النووي لمسلم (7/ 78).
(9) عمدة القارئ (2 / 52).
(10) إبطال الحيل لابن بطة ٢٦.
(11) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، ص34.
(12) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/283).
(13) «سنن الدارمي (٣٩٤)، والأثرُ وإِنْ كان ضعيفًا إلَّا أنه لصحَّةِ معناه تَناقَله العلماءُ في مؤلَّفاتهم الخاصَّة بآداب طالب العلم وأخلاقه، منهم ابنُ عبد البرِّ في «جامع بيان العلم وفضلِه» (١/ ٦٩٦)، والخطيب البغداديُّ في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (١/ ٨٩).
(14) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (4/54).
(15) أخرجه نعيم بن حماد في نسخته زائداً على ما رواه المروزي عن ابن المبارك في كتاب الزهد (ج2/ص8)، وأخرجه ابن بطة في إبطال الحيل (ص25).
(16) تفسير الطبري سورة آل عمران: ٧٩.
(17) رواه البخاري ومسلم.
اقرأ أيضا
الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (2-8) مرويات الحديث وبيان تواتره
الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (6-8) ارتباطها بالأحداث المعاصرة
أولوا البقية … القابضون على الجمر
فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (2-7) علوم ضرورية، العلم بالسنن الالهية
فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (3-7) علوم ضرورية، فقه الموازنات والأولويات