الحمد لله وحده والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

من القصص العظيمة التي ورد ذكرها كثيرا في كتاب الله تعالى قصة موسى وفرعون ﴿نَتۡلُوا۟ عَلَیۡكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرۡعَوۡنَ بِٱلۡحَقِّ لِقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ﴾ [القصص: ٣] وقضايا القصص هي من علوم النبوات ومن قضايا الحق في القرآن الكريم، ومن خلال التتبع لهذه القصص في القرآن الكريم يشكل المسلم صورة متكاملة عما نسميه بالظاهرة الفرعونية في كافة أبعادها السلطوية أو المجتمعية وما هي جذورها ومظاهرها وآثارها.

أولا: اهتمام القرآن بالظاهرة الفرعونية

كلما رأيت ظاهرة تناولها القرآن بكثرة وبطرائق متعددة ومتنوعة فاعلم أنها ظاهرة عميقة في النفس والسلوك البشري ومتكررة مع الدهور والعصور وأنماط الحياة مهما تجددت.

وحقيقة الظاهرة الفرعونية في القرآن الكريم هي محاولة لمنازعة الله في أخص خصائصه المتمثلة في الآتي:

1- الطاعة المطلقة حيث لا تكون إلا لله تعالى ويريدها الفرعون لنفسه من خلال ادعائه الألوهية ﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرِی﴾ [القصص: 38] وحقيقة التأله هو الطاعة المطلقة.

2- الملكية المطلقة (السيادة) والتي لا يملكها على هذا الوجود إلا الرب، والفرعون يريد أن ينازع في ذلك من خلال ادعاء السيادة المطلقة على العباد والبلاد ﴿فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ﴾ [النازعات: 24] وكلمة الرب في العربية تعني السيد.

3- الفردية المطلقة وعدم قبول الشريك في الحكم، وهي صفة للإله الرب الخالق ويريد الفرعون المنازعة في ذلك ليتفرد بالحكم بحيث لا يشاركه أحد في القرار، أي وحدانية التسلط أو الاستبداد قال تعالى: ﴿وَلَا یُشۡرِكُ فِی حُكۡمِهِۦۤ أَحَدࣰا﴾ [الكهف: 26].

4- التصرف المطلق دون أن ترتبط إرادته بإرادة أحد؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَعَّالࣱ لِّمَا یُرِیدُ﴾ [البروج: ١٦] والفرعون لا يريد أن تحول دون تحقيق إرادته أي إرادة أخرى مهما كانت، إمعاناً في المنازعة والتشبه بالإله.

5- علوه عن المحاسبة والمساءلة، قال تعالى: ﴿لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ﴾ [الأنبياء: 23] فالله متعال عن المحاسبة والمساءلة؛ لأنه إنما يتصرف في ملكه وخلقه والخالقية تقتضي ذلك، والفرعون يريد أن يتقمص هذه الصفة فيجعل من نفسه متعالياً عن المحاسبة والمساءلة.

ولو تأملنا كل طاغية عبر التاريخ وإلى يومنا هذا يحرص على هذه الصفات التي فيها تجاوز للحد البشري إلى حدود الربوبية والألوهية؛ فقد وصف الفرعون بالطغيان وسُمي بالطاغية؛ ولذا لما أرسل الله موسى إلى فرعون قال له: ﴿ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ﴾ [طه: 24]؛ فالفرعونية ظاهرة ترتبط بالطغيان المتولد عن الشعور الداخلي الكاذب الذي يتوهم فيه الطاغية أنه صاحب السيادة والملكية والطاعة والتصرف والتفرد المطلق، دون مساءلة أو محاسبة من أحد في كافة شئون البلاد والعباد! وسواء سلك في ذلك الأسلوب المباشر لادعاء الربوبية والألوهية، أو حاول أن يستخف بالرعية فغطى هذا الادعاء ببعض الأوضاع والمراسم التي لا تغير من واقع الأمر شيئاً.

الفرعونية: السلطة المطلقة والطغيان والاستبداد

وخلاصة القول فإن الفرعونية تتأسس على السلطة المطلقة الناشئة عن الوهم الكاذب والتصور المغلوط للذات والآخر، وتتولد عن هذه السلطة المطلقة الفساد المطلق ﴿ٱلَّذِینَ طَغَوۡا۟ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ * فَأَكۡثَرُوا۟ فِیهَا ٱلۡفَسَادَ﴾ [الفجر: 11، 12] وبالتالي الفرعونية هي الطغيان والاستبداد ولكن ليس أي طغيان ولا أي استبداد بل هو تمامه وكماله؛ لأنه منازعة لحق الله تعالى ومناقضة للتوحيد، وهو كذلك سلب لحقوق العباد ففيه ضياع لحقوق الله وحقوق العباد، وبالتالي فهو أصل لكل داء وبلوى تصيب العباد وتحل بالبلاد، ولئن كانت العبودية الحقة لله تعالى تقوم على الإيمان والتصديق والطاعة والتسليم.. فإن الفرعونية تقوم على التكذيب والإباء والعصيان، وبالتالي فهي خروج عن الولاية الإيمانية عقيدةً وعبادة وتصورات، والولاية السياسية تشريعاً وتنظيماً ومعاملات إنسانية (كذب وعصى/ كذب وأبى/ إنه طغى) فهو الكفر في كماله والعصيان في منتهاه.

ثانيا: هيكل الظاهرة الفرعونية وروافعها

الظواهر الإنسانية التي تفرض نفسها على المجتمعات والشعوب والأمم، غالباً ما تقوم على مرتكزات أساسية تشكل مصدر قوتها وبقاء سلطانها، ولقد ذكر القرآن الكريم مفردة (الأوتاد) باعتبارها صفة لازمت الفرعونية كما في قوله تعالى: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * ٱلَّذِینَ طَغَوۡا۟ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ * فَأَكۡثَرُوا۟ فِیهَا ٱلۡفَسَادَ﴾ [الفجر: 10-12]؛ فما هي أوتاد وروافع الظاهرة الفرعونية التي تبسط سلطانها على الخلق من خلاله وتتجذر في المجتمعات والأمم مهيمنة على السلطات والموارد كلها؟

1- الفرعون الذي هو رأس السلطة السياسية والمتسلط عليها وصاحب الأمر والنهي فيها بما سبق من حجج زائفة ومفاهيم مغلوطة (تضخم الذات بالوهم الكاذب والجهل الفاضح والاتباع الأعمى من الرعية) هذه أهم رافعة ووتد من الأوتاد.

2- السلطة الثقافية والدينية والتي على رأسها هامان متزعماً السحرة، وهم جهاز التضليل والشرعنة والتزوير وصناعة الوهم والجهل ومحاربة المعرفة والعلم والتنوير (دين / ثقافة / إعلام / فنون / تراث)؛ فنادراً ما تتأسس الظاهرة الفرعونية دون سلطة ثقافية ودينية تعمل على تخدير الشعوب وتضليلها وتكسب الفرعون القدسية والمهابة والتأليه الزائف.

3- المؤسسة المالية والاقتصادية التي تحتمي بالسلطة الفرعونية وتتكسب من ورائها وتعمل على مساندتها والتخادم معها، وهي دوماً انتهازية بلا قيمة أو مبدأ أو انتماء؛ بل هي متنكرة لكل انتماءٍ للشعب والمجتمع، مع أنها حازت على ثرواتها من خلال النهب والفساد والصفقات المشبوهة، ورمزية هذه المجموعة في الظاهرة الفرعونية هو (قارون) الذي تنكر لقومه وانحاز للسلطة الفرعونية قال تعالى: ﴿إنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ﴾ [القصص: ٧٦].

4- المؤسسة العسكرية المطيعة بقيادتها وجنودها التي هي في خدمة الفرعون وحمايته وتثبيت ملكه وسلطانه؛ فهذه هي عقيدتها العسكرية، وهي لا تنتمي للشعب والمجتمع بل هي معزولة عنه في شكل طبقة من طبقات السلطة الحاكمة في منظومة الفرعون ﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا۟ خَـٰطِـِٔینَ﴾ [القصص: 8].

5- الملأ وهم مجموع قيادة المؤسسات الأربع الذين هم قمة الظاهرة الفرعونية ورأس هرمها تحت الفرعون؛ قال تعالى: ﴿قال ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِیمࣱ﴾ [الأعراف: ١٠٩].

6- عامة الشعب المغلوب على أمره والمشغول بقوت يومه وحياة الشقاء والتعاسة التي يدور في فلكها حد النسيان لمآله الدنيوي والأخروي (الفقر المنسي)، وغالباً ما يعيش تضليلاً ممنهجاً بعيداً عن الواقع البئيس الذي يعيشه، وبسبب الاستخفاف السلطوي الهائل بكافة أدوات القهر النفسي والمادي نجده تحت هذا التأثير يقوم بطاعة الفرعون دون وعي وإدراك، وهو محل التخريب والفساد والضياع والتيه والجهل؛ قال تعالى: ﴿فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ قَوۡمࣰا فَـٰسِقِینَ﴾ [الزخرف: 54].

ثالثاً: مظاهر الفرعونية وآثارها

بعيداً عن الإطالة التي لن يحتملها المقام والمقال نذكر بصفة عامة بعض المظاهر التي تنتج عن حقيقة الفرعونية التي سبق توصيف منازعتها لله تعالى في خصائصه وذلك فيما يلي:

1- الاستعلاء والاستكبار

الاستعلاء والاستكبار الناتج عن الهيمنة على كافة السلطات من أهم مظاهر الفرعونية، وهو شعور كاذب لا يتناسب والحالة البشرية للإنسان الضعيف في خلقته والمحدود في قدراته، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ﴾ [يونس: 83] ويترتب على ذلك الخوف والرعب والذل والعبودية والنفاق وغياب المسؤولية.

2- ممارسة العنف والفساد على المستضعفين

وبناء على العلو والاستكبار المذكور ينتج مظهر آخر وهو ممارسة العنف والفساد والطغيان على المستضعفين، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4].

وينتج عن ذلك تمزيق المجتمع وتوزيعه إلى طبقات؛ واستثمار التناقضات المصطنعة من أجل البقاء في السلطة وسيادة الأحقاد والضغائن والشحناء والحروب والشتات والتهجير عن الديار.

3- الاستحواذ على الثروات

ومن مظاهر الفرعونية كما وردت في القرآن الكريم هو الاستحواذ على الثروات وخيرات الأرض، والتصرف فيها تصرف المالك دون شريك أو ضابط يلتزم به؛ فيسود الإسراف والتبذير من طرف الفرعون وحاشيته ويقابل ذلك الفقر والحاجة في عموم الرعية، قال تعالى على لسان فرعون: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: 51]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس: 83].

ويترتب على الهيمنة على الثروات من قبل السلطات طغيان السلطة وتسلطها على المجتمع قال تعالى: ﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ [العلق: ٦-٧] ويصاحب ذلك ضعف المجتمع وهشاشته وغياب فاعليته؛ لأنه مشغول بقوت يومه؛ فهو خارج الذاكرة المؤثرة و(الغِنى المطغي/ الفقر المنسي) هو الذي تعوذ منه النبي ﷺ.

وغياب التوزيع العادل للثروات تغيب معه مهمة الاستخلاف والتمكين المحقق لصلاح الكائن المستخلف، الذي سخرت له الموارد الطبيعية كلها ليقوم بالقسط ولكنه قد سلب أدوات المكنة والقوة فصار عاجزاً مقهوراً.

4- الاستبداد ومصادرة الحريات

ومن السمات التي تمتاز بها الظاهرة الفرعونية احتكار صواب الرؤية، وأنَّ أيَّ رؤيةٍ تنبثق في المجتمع وتنافي رؤيته فلابدَّ من تصفيتها، يقول القرآن على لسان فرعون: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ [غافر: 29].

ويكون ذلك مصحوباً بالإرهاب الفكري، والتنكيل والتعذيب الجسدي وتشويه الفكر المضاد، فحين خرج موسى عليه السلام بدعوته، أي شيء فعل فرعون؟ وكيف خاطب الذين اتبعوا موسى؟ قال: ﴿آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾ [الأعراف: 123]، وهكذا يمارس فرعون أسلوب الإرهاب الفكري، وأسلوب التشويه للفكر المضاد، ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾. وحيث إنه علم أنهم لن يقتنعوا بذلك مارس معهم الإرهاب والوعيد بالتنكيل والتعذيب فقال: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ [طه:71].

ويترتب على ذلك الفتنة وهي فرض الخيارات الدينية والفكرية بالإكراهات السلطوية، بعيداً عن منطق النقل والعقل والعلم، وجرياً وراء استرضاء نزوات السلطة ورغباتها، مما يعطل الإبداع والتجديد ويسود التبعية والجهل والجمود والتخلف.

وللظاهرة الفرعونية تأثير بالغ في كافة مجالات الحياة الدينية والفكرية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والسلوكية وغيرها وقد تناولها عبد الرحمن الكواكبي في كتابه: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ولكن نكتفي بذلك خشية الإطالة وطلباً للاختصار.

الفرعونية العالمية

ولئن كانت هذه مظاهر وآثار الفرعونية في النطاق المحدود مكاناً وزماناً وإنساناً، فكيف عندما تتحول هذه الظاهرة إلى نظام عالمي يغطي كافة الساحات ويفرض رؤاه وأفكاره على الجميع، وبذات الأدوات القهرية حتى ولو تلبست بلبوس الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان ولكنها تمارس الاستكبار والطغيان بنطاق واسع، بما يمكن تسميته بالفرعونية العالمية التي تجتاح جيوشها الشعوب المقهورة وتعمل على سرقة الموارد وتثير الفتن والقلاقل في كافة أرجاء المعمورة، وتمارس الغواية والفحش والرذيلة وتعمل على تقنينها، وتلاحق الأحرار ودعاة الإصلاح بحجة الإرهاب، وتمتلك من الأدوات التي تشرعن بها أفعالها من قوانين ومؤسسات ومجالس أممية، ما يجعل العالم كله يعيش بلطجة مقننة في لبوس النظام العالمي الذي هو في حقيقته (طاغوت العصر) الذي يجب الكفر به ومقاومته بكل السبل؛ لأن ذلك من مقتضيات الإيمان والتمسك بالعروة الوثقى؛ قال تعالى: ﴿فَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ﴾ [البقرة: 256]

رابعاً: معالجة الظاهرة الفرعونية

من خلال ما سبق يتضح لنا بأن الظاهرة الفرعونية ظاهرة معقدة ومركبة وليست ظاهرة بسيطة؛ إذ يتداخل فيها البعد الديني والفكري مع البعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع البعد العسكري، وبالتالي فإن محاربة ومواجهة هذه الظاهرة تتطلب العمل على كافة هذه الجبهات ومحاولة سد جميع الثغرات، خاصة في ظل تشكل الظاهرة الفرعونية في بعدها العالمي وبأدوات متطورة ونظام عالمي محكم، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يكون هذا المقال المحدود مستوعباً ومستوفياً لكافة المعالجات المطلوب في مواجهة الظاهرة الفرعونية وتفكيكها؛ بل هذا يتطلب جهوداً جبارة ومؤسسات بحثية كبيرة لها القدرة على جمع المعلومات وتحليلها وتصنيفها ودراستها وتقديم الحلول اللازمة لها بحسب الإمكان، ولكن نشير في هذه المقالة لأمرين هامين في مقاومة الظاهرة الفرعونية ومعالجتها عامةً دون تفصيل مطول وهما:

– حاكمية الشريعة          – سلطان الأمة

أولا: حاكمية الشريعة

ونعني بحاكمية الشريعة اعتبار الخصوصيات الإلهية في الملك والحكم والتشريع والطاعة، وأن الله هو الملك والرب والإله المعبود الذي خلق الخلق وله الأمر والحكم ولا معقب لحكمه ولا منازع له في ملكه، وأن الناس كلهم مستخلفون في الأرض لتحقيق العبادة والعمران ثم المسؤولية في الآخرة عما كانوا يعملون في دنياهم، ثم الجزاء بالجنة أو النار، هذا التصور العقدي والمعرفي يبطل الفرعونية من جذورها القائمة على التأله وادعاء الربوبية والسيادة ورفض المساءلة واحتكار الحقيقة والسيطرة على الموارد وتملكها؛ فحاكمية الشريعة في التصور الإسلامي أصل أصيل وركن راسخ في مواجهة الظاهرة الفرعونية؛ لأنها لا تعطي الحكم في التشريع الابتدائي لأحد سوى الله.

وبذلك فالصراع حول تقرير الحقوق والحرمات والحريات لا مجال له في المؤسسات العامة، وبالتالي لا مجال للأقليات والأكثريات في فرض خيارات تشريعية تناقض الحكم الشرعي وتجعل من فئة مستعبدة للأخرى ومكرهة على تقبل تشريعاتها لأنها شكلت أكثرية في المؤسسات التشريعية، وربما كانت هذه الأكثرية مصنوعة بالمال والإعلام، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بالأرباب في قوله تعالى: ﴿قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ كَلِمَةࣲ سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَقُولُوا۟ ٱشۡهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٦٤].

ثانيا: سلطان الأمة

وفي ظل الأصل الأول وهو حاكمية الشريعة، فإن الأمة تمارس حقها في السلطة من خلال اختيار مَن يتولى أمرها، بعيداً عن منطق الإكراه الديني والسياسي، وهذا الحق لا يستطيع انتزاعه أحد بل للأمة الحق في القتال دونه، فلا يُفرض عليها حاكم دون اختيارها ورضاها؛ بل يكتسب الحاكم شرعيته السياسية من خلال الشورى العامة للناس بحكم الشرع الذي جعله كذلك في قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِینَ ٱسۡتَجَابُوا۟ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَیۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ [الشورى: 38] ﴿فَبِمَا رَحۡمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِینَ﴾ [آل عمران: 159].

فهم مستخلفون في الأرض بأمره فلا مجال للتفويض الإلهي الذي عرفته الكنيسة في أوربا وقامت عليه الدول الدينية، كما لا مجال للولاية عبر التوريث والنقاء العرقي والسلالي أو السطوة المالية والعسكرية بل ولاة الأمر هم من الناس.

ومن خلال هذين الأصلين تأسست دولة المدينة بقيادة رسول الله ﷺ والخلافة من بعده، بعيداً عن الإكراه والسيطرة والجبروت؛ فكان ذلك النموذج النبوي والراشدي هو المعبر عن حقيقة الإسلام تأصيلاً وتنزيلاً، الذي يشكل المرجعية العملية للأمة المسلمة في بناء نظامها السياسي وولايتها العامة، والذي من خلاله تتحقق المشاركة السياسية بديلاً عن وحدانية التسلط والاستبداد وبناء الدكتاتوريات المعبرة عن الظاهرة الفرعونية وتجلياتها .

وختاماً لا بد أن نشير إلى أن الأمة تواجه اليوم الظاهرة الفرعونية في سياقها المحلي، المتمثل في الأنظمة المستبدة التي تمثل وكيلاً وظيفياً للمحتل الخارجي بأدواته المختلفة، المعبرة عن الظاهرة الفرعونية في سياقها العالمي الذي لم تعهده البشرية في تاريخها كله؛ حيث هيمنت وتحكمت على البقعة الأرضية وفق منظومة ترصد كل شاردة وورادة، وفق تعاون دولي محكوم بدقة، حتى أنه لم يعد للمستضعفين مكاناً يأوون إليه؛ لأن الجميع يخشى من الفرعون العالمي وأدواته المالية والعسكرية وغيرها، بينما كانت الفرعونية سابقاً تسيطر على نطاق جغرافي وبشري محدود ويمكن الخروج عن نطاق حكمها والعيش بسلام وأمان، كما كان الحال مع موسى عليه السلام عندما غادر مصر وتوجه تلقاء مدين والتي تعتبر نسبيا قريبة من مصر الفرعونية حينها.

وبالتالي فالتعامل اليوم مع الظاهرة الفرعونية أشد تعقيداً في شمولها وعمومها وعمقها، وهذا يتطلب من العاملين لمواجهة الفرعونية قدرات هائلة وخبرات عالية وأمة متماسكة وعقيدة راسخة، واستعداداً منقطع النظير في العطاء المادي والبشري، وقبل ذلك كله ثقة بالله تعالى وتوكلاً عليه واستمساكًا بكتابه الهادي إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، والأمل الفسيح في أن الظهور العالمي الثاني لأمة الإسلام قد اقترب، وأن البشرية كلها على موعد مع هذا الميلاد الإسلامي الجديد، بعد أن بلغت الفرعونية ذروتها وأذاقت البشرية ويلاتها العسكرية والاقتصادية والنفسية، وبدأ العالم يتململ متطلعا لنظام عالمي أكثر عدلاً.

المصدر

“مجلة أنصار النبي” د. حسن سلمان، عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام.

اقرأ أيضا

المسلمون بين استبداديْن

الاستبداد وهجرة الأدمغة والكفاءات المسلمة

قراءة في تخلف العالم العربي في العصر الحديث (1-2) مظاهر التخلف

دور الأمة في التغيير

قيمة الهوية الإسلامية وخسارة غيابها

التعليقات غير متاحة