الفرح والحزن حالتان نفسيتان متقابلتان ؛ يسعى كل إنسان في الحصول على كل ما يفرحه، وينفر من كل ما يحزنه ويغمه، ولكن الناس يتفاوتون في میزان الفرح والحزن؛ فمن الفرح ما هو محمود مطلوب، ومنه ما هو مذموم فمن وزن فرحه بميزان الله في الأشياء التي يفرح بها ففرحه محمود مأجور علی فرحه هذا، ومن أعرض عن هذا الميزان، وأخذ بموازين البشر المادية للفرح ففرحه مذموم غير مأجور.

ميزان الله عز وجل للفرح

الفرح حاجة أساسية لكل نفس سوية، وشريعة الله عز وجل لم تأت لتصادم هذه الحاجة أو تلغيها؛ فهي شريعة أرحم الراحمين، وهي شريعة العليم الحكيم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، ولكنها جاءت لتهذيب هذه الحاجة وترشيدها بما ينفع النفس في دنياها وأخراها ،،، وللفرح بواعث كثيرة منها ما هو محل اتفاق البشر؛ كالفرح بمتع الدنيا المباحة، ومنها ما هو محل اختلاف حسب اختلاف مرجعياتهم وعقائدهم وموازينهم في ذلك.

والفرح من حيث هو: طبع بشري لا يتعلق به مدح ولا ذم ، وإنما يتوجه المدح والذم للمفرحات وبواعث الفرح و طريقة التعبير عن الفرح”1(1) انظر : مقال قراءة في صفحات الفرح، للأستاذ بندر العريدي موقع الإسلام اليوم 9/11/1428 هـ باختصار وبتصرف يسيرين..

فإذا كان الفرح بطاعة الله وهدايته ونصرة دينه ، أو بمباح يقوي على طاعة الله فهو ممدوح ومحبوب له ، وأما إن كان الفرح بمعصية أو بمباح يعين على معصية، فهو مذموم ممقوت عند الله عز وجل ؛ قال الله عز وجل: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ) [التوبة: 41].

من سمات الميزان الإلهي للفرح والسرور

1- عدم الاغترار بمتع الحياة الدنيا وزخرفها الزائل، وبالتالي فإن الفرح بها ينبغي أن يكون بهذه النظرة الحقيقة للدنيا ، قال الله عز وجل: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [الرعد: 26]، وقال عز وجل: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: 76].

والفرح المنهي عنه هو فرح البطر والأشر والفخر المنسي للآخرة. وأما فرح المؤمن المعتاد بطيبات الحياة الدنيا ، الخالي من تلك المحذورات فلا لوم عليه، ولا سيما إذا استعان به على طاعة الله عز وجل.

2- وإذا كان الفرح بمتع الحياة الدنيا المباحة مذموما إذا تجاوز حدود الفرح المشروع، فكيف بالفرح بمعصية الله ، سواء كان بترك واجب أو فعل محرم؟ لقد ذم الله عز وجل المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وذم فرحهم بذلك فقال: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة: 81].

على أي شيء يكون الفرح؟

3- إن الفرح الذي نبهنا الله عز وجل إليه ، بل ندبنا إليه، هو الفرح بكل ما يقرب إلى الله عز وجل، وبكل عمل محبوب له ؛ كأداء أنواع العبادات من فرائض ونوافل، والفرح بالهداية إلى الإسلام والقرآن، والفرح بانتصار دينه وأوليائه على أعدائه، وغيرها مما يحبه الله ويرضاه ؛ قال الله عز وجل: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم : 4- 5]، وقال سبحانه عن أهل الكتاب المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم والفرحین باتباعه: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ۚ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ ۚ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ) [الرعد: 36]، وقال سبحانه عن الفرح بالقرآن والهداية على الإسلام: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 57، 58].

ولما في هذه الآية الكريمة من معان عظيمة ودروس بليغة أنقل ما ذكره بعض المفسرين عندها:

يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (والفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، فيتولد من إدراکه حالة تسمى الفرح والسرور، كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب، فإذا فقد تولد من فقده حالة تسمى الحزن والغم. وذكر سبحانه الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقيب قوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57]، ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته، التي تتضمن الموعظة التي هي الأمر والنهي، المقرون بالترغيب والترهيب، وشفاء الصدور، المتضمن لعافيتها من داء الجهل، والظلمة ، والغي، والسفه ، وهو أشد ألما لها من أدواء البدن، ولكنها لما ألفت هذه الأدواء لم تحس بألمها، وإنما يقوى إحساسها بها عند المقارنة للدنيا ، فهناك يحضرها كل مؤلم محزن. وما آتاها ربها من الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، وحياة الروح به، و”الرحمة” التي تجلب لها كل خير ولذة، وتدفع عنها كل شر ومؤلم فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها ، أي هذا هو الذي ينبغي أن يفرح به، ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح به، لا ما يجمع أهل الدنيا منها، فإنه ليس بموضع للفرح؛ لأنه عرضة للآفات، ووشيك الزوال، ووخيم العاقية . وهو طيف خيال زار الصب في المنام، ثم انقضى المنام، وولى الطيف، وأعقب مزاره الهجران.

وقد جاء “الفرح” في القرآن على نوعين: مطلق ومقيد

المطلق : جاء في الأمر كقوله تعالى: (لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ، وقوله: (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) .

والمقید: نوعان أيضا: مقيد بالدنيا ؛ ينسي صاحبه فضل الله ومنته ؛ فهو مذموم ، كقوله: (حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام: 44].

والثاني: مفيد بفضل الله وبرحمته، وهو نوعان أيضا: فضل ورحمة بالسبب، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]. والثاني : كقوله: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) [آل عمران: 170].

فالفرح بالله، وبرسوله، وبالإيمان، وبالسنة، وبالعلم، وبالقرآن: من أعلى مقامات العارفين ؛ قال الله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة: 124].

وقال : (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) [الرعد: 36].

فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه، ومحبته له، وإيثاره له على غيره؛ فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له، ورغبته فيه. فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله له، ولا يحزنه فواته، فالفرح تابع للمحبة والرغبة.

والفرق بينه وبين الاستبشار: أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله ، والاستبشار يكون به قبل حصوله، إذا كان على ثقة من حصوله. ولهذا قال تعالي: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ) [آل عمران: 170])2(2) مدارج السالكين 3/ 157 و 158..

فضل الله القرآن ورحمته الإسلام

ويقول في موطن آخر : (فأوامره سبحانه، وحقه الذي أوجبه على العباد، وشرائعه التي شرعها لهم، هي قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 57، 58]، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: “فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله” وقال هلال بن يساف: “بالإسلام الذي هداکم إليه، وبالقرآن الذي علمكم إياه، هو خير مما تجمعون من الذهب والفضة” وكذلك قال ابن عباس والحسن وقتادة: “فضله: الإسلام، ورحمته القرآن” ، وقالت طائفة من السلف : “فضله القرآن، ورحمته الإسلام”.

والتحقيق: أن كلا منهما فيه الوصفان: الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتن الله بهما على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) [الشوری: 52]، والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان، ووضع من وضع بعدهما)3(3) إغاثة اللهفان 1/31..

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: (فإن أرفع درجات القلوب: فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتهاجها وسرورها ؛ كما قال تعالي:

(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) [الرعد: 36]، وقال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، ففضل الله ورحمته القرآن والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مفروح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه ووضع الفرح في غير موضعه .

فإذا استقر في القلب وتمكن فيه العلم بكفايته لعبده، ورحمته له، وحلمه عنده، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل محب بكل محبوب سواء)4(4) مجموع الفتاوی 16/49..

متى نفرح بالأرزاق المادية والقيم المادية

ويقول سيد قطب – رحمه الله تعالى -: (فبهذا الفضل الذي آتاء الله عباده، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان، ، فبذلك وحده فليفرحوا، فهذا هو الذي يستحق الفرح، لا المال ولا أعراض هذه الحياة . إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة، ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبدا خاضعا لها. والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها، إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض. الإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف. والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم ۰۰۰

إن الأرزاق المادية، والقيم المادية، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض .. في الحياة الدنيا فضلا عن مكانهم في الحياة الأخرى ، ، إن الأرزاق المادية، والتيسيرات المادية، والقيم المادية، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية – لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة – كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة!

إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية ، وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس، وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان.

إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم. هو الذي يجعلها عناصر سعادة أو عنصر شقاء ، كما يجعلها سببا للرقي الإنساني أو مزلقا للارتكاس!

ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 57 ، 58].

ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا، فيقول عمر رضي الله عنه عن المال والأنعام: “ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ).

لقد كان عمر رضي الله عنه يفقه دینه ؛ كان يعرف أن فضل الله ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله الله لهم: (مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) ، لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق!)5(5) في ظلال القرآن 3/1799،1800..

ومن أمثلة الفرح الممدوح الموزون بميزان الله عز وجل: فرح الصحابة رضي الله عنهم بكل ما يقوي إيمانهم ويقربهم إلى الله عز وجل وجنته من العبادات الباطنة والظاهرة؛ فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يفرح عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للذي سأله عن الساعة: «أنت مع من أحببت».

ويقول عن نفسه وعن الصحابة رضي الله عنهم: “فما فرحنا بشيء بعد الإسلام فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحبيت»6(6) البخاري (3688)، مسلم (2639) ..

ومثال آخر وغير مباشر لهذا الميزان القسط للفرح الحقيقي: حزن بعض الصحابة الذين لم يجدوا ما يحملون عليه في الجهاد في سبيل الله ، فعز عليهم وحزنوا على فوات هذا العمل الجليل الذي يحبه الله ، وتفرح به القلوب، فحزنوا على فوات هذا الفرح؛ كما في قوله سبحانه عنهم وعن عذرهم في الخروج إلى الجهاد: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ) [التوبة: 92].

نشر الفرح المعتدل والسرور والبشر بين المسلمين

4 – إن الله عز وجل يحب من عباده من يدخل السرور والفرح على عباده المؤمنين، ولذا جاءت الأحاديث الكثيرة في فضل من يسر على معسر عسره، ومن فرج عن مكروب كربه وحزنه؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن يسر على معسر يسر الله عليه يوم القيامة ، ومن فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة»7(7) البخاري (2699). ، وقد أمر صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي أبكى والديه وأذهب عنهم الفرح حينما هم بالخروج إلى الجهاد أن يعود إليهما ويبقى عندهما ليرجع إليهما فرحتهما؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»8(8) النسائي (4093)، وأبو داود (2529)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2206)..

وندب الشرع المطهر إلى أن يكون المسلم طلق الوجه، مشرق النفس ، مبتسما في وجه أهله وإخوانه، مساهما بكل ما ينشر الفرح المعتدل والسرور والبشر بين المسلمين، ولقد كان صلى الله عليه وسلم طلق المحيا، يبتسم في وجوه أصحابه ؛ كما وصف ذلك جرير البجلي رضي الله عنه بقوله: “ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضحك”9(9) مسلم (2475) .. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»10(10) مسلم (2626).. وهذا الفرح المعتدل، ودوام البشر والابتسامة لا يعارض الفرح المذموم ؛ فإن هذا لون وذلك لون آخر.

التعبير عن الفرح والسرور بوسائل مشروعة

5- وكما أن للفرح میزان عدل وقسط لبواعثه فله، أيضا میزان عدل وقسط في التعبير عنه عند أصحاب الميزان الإلهي، ومن ذلك أن يوجه العبد فرحه المحمود بميزان الشريعة ؛ وذلك بأن تكون الوسيلة في التعبير عن هذا الفرح موزونة هي الأخرى بميزان الشرع، فلا يفقد توازنه، وإنما يكون التعبير عن الفرح بما لا يخالف الشرع، أو تجاوز حدود الأدب والمروءة، ولا يكون فيه تعد على حقوق الغير. فالفرح بالعيد . مثلا . يكون التعبير عنه بتعظيم هذا اليوم، وصلة الأرحام، والترويح عن النفس والأهل والأولاد بالمباحات، وتفقد الفقراء وإدخال السرور عليهم بالصدقة والمواساة. أما أن يتحول التعبير عن الفرح بالعيد إلى التفلت من أوامر الشرع ونواهيه، والتهاون في آدابه بالبطر والكبر، فإن هذا من موازين البشر القاصرة، الظالمة الجاهلة في التعبير عن الفرح بالعيد، وهكذا في بقية المناسبات السارة.

6- وأعظم فرح يحبه الله عز وجل، ويحبه المؤمنون، ويجعلون الفرح به هو أعظم الفرح وأدومه هو: الفرح برضا الله عز وجل عنهم، ودخولهم الجنة – بلد الأفراح – يوم القيامة ؛ قال الله عز وجل عن الشهداء في سبيل الله : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران: 169، 170].

موازين البشر المعوجة للفرح والسرور

سبق من خلال الكلام عن الميزان الشرعي للفرح والسرور ذكر شيء مما يضاده: من موازين البشر المعوجة للفرح. أذكر في هذه الفقرة أهمها:

1- اختلال موازينهم في بواعث الفرح

وذلك من خلال تجاوزهم للفرح المعتدل في المناسبات، واللهث الشديد وراء الدنيا الزائلة، وجعلها هي محور فرحهم الذي يدورون حوله، ولا يرون فيما سواها شيء يفرح به، حتى أنساهم ذلك طاعة الله عز وجل التي ينبغي أن يفرح بها، وأنساهم حظهم من الآخرة ونعيمها . وهذا النوع من الفرح هو الذي ذمه الله عز وجل بقوله عن قارون الذي أطغاه ماله: (لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: 76]، وقال عز وجل: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [الرعد: 26]. ولما تمنی بعض قوم قارون أن يكون لهم من الحظ مثل ما أوتي قارون نصحهم المؤمنون العارفون بالله ، والعاملون بميزانه القسط، بأن ثواب الله خير وأبقى، وهو الذي ينبغي أن يفرح به؛ قال الله عز وجل: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص: 79، 80].

2 – الفرح بما يكرهه الله عز وجل ويبغضه

وتجاوزت هذه الموازين المعوجة الفرح الشديد بالمباحات والركون إلى الدنيا إلى أن أصبحت بواعث الفرح عند بعض الناس في معصية الله عز وجل، وترك طاعته. وقد سبقت الإشارة إلى المنافقين الذين فرحوا بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من غير عذر إلا الميل إلى الدعة والراحة ، والنفور من الحر والمشقة ؛ قال سبحانه: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة: 81، 82].

3- الفرح والغرور بعقولهم وثقافاتهم

ومن موازينهم المعوجة في بواعث الفرح فرح بعض الناس – وخاصة المغرورين – بعقولهم وفلسفاتهم وثقافاتهم؛ حيث زينها لهم الشيطان، وحسنها في عقولهم، وجادلوا بها الحق وأهله فرحا واغتباطا ؛ قال الله عز وجل عن سلف هولاء: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [غافر: 83].

4 – الفرح بمدح الناس وثنائهم

ومن بواعث الفرح عندهم: فرحهم بالرباء، وبما لم يؤتوا بالمدح والثناء على ما لم يفعلوه كما قال الله عنهم: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 188] .

5- الفرح بما يصيب المسلمين

ومن بواعث الفرح الممقوتة الشنيعة عند المنافقين وأشباههم: فرحهم بالمصائب التي تحل بالمسلمين: قال الله عز وجل: (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ) [التوبة: 50].

وقال سبحانه عن هؤلاء المخدوعين: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120]. وواقعنا المعاصر شاهد على أمثال هؤلاء من الرافضة الباطنيين، والعلمانيين الحاقدين الذين يفرحهم ما يصيب دعاة الحق والمجاهدين من المصانب، ويسوؤهم ما يفتحه الله عز وجل من الخير عليهم.

6- الفرح بالتحزب على الباطل؛ كما وصفهم الله عز وجل بقوله: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 32].

7-وقوعهم في المحرمات في أفراحهم

ومن موازين البشر المعوجة في تعبيرهم عن الفرح: ما يقومون به من الأشر والبطر والفخر في مواسم الفرح: كالأعياد والأعراس، وما يكون فيها من المعاصي والمنكرات، وما يكون فيها من الفخر والغضب، ونسیان المنعم المتفضل بها – وهو الله عز وجل- ونسبة النعم والحصول عليها إلى النفس والحنكة والذكاء ؛ كما ذكره الله عز وجل عن قارون بعد أن نصحه قومه ونهوه عن فرح البطر والفخر، فقال: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78]، وقال سبحانه عن أمثاله: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 49].

8- الاعتداء على حقوق الآخرين في تعبيرهم عن الفرح

ومن وسائل أصحاب الموازين المعوجة في تعبيرهم عن الفرح: ما يقومون به من العدوان على الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وبخسهم حقوقهم ؛ كهذا الذي يحصل اليوم في مواسم الرياضة والكرة، والتعصب لهذا الفريق أو ذاك، أو ما يحصل في بعض مناسبات الأفراح.

9- سخريتهم واستهزائهم بأهل الإسلام والإيمان

ومن بواعث الفرح عند أهل هذه الموازين المنحرفة: فرحهم باستهزائهم بالمؤمنين الطائعين لله عز وجل قال سبحانه في وصفهم: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين:29-36].

الهوامش

(1) انظر : مقال قراءة في صفحات الفرح، للأستاذ بندر العريدي موقع الإسلام اليوم 9/11/1428 هـ باختصار وبتصرف يسيرين.

(2) مدارج السالكين 3/ 157 و 158.

(3) إغاثة اللهفان 1/31.

(4) مجموع الفتاوی 16/49.

(5) في ظلال القرآن 3/1799،1800.

(6) البخاري (3688)، مسلم (2639) .

(7) البخاري (2699).

(8) النسائي (4093)، وأبو داود (2529)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2206).

(9) مسلم (2475) .

(10) مسلم (2626).

اقرأ أيضا

خصائص الميزان الإلهي

من ذاق الخير أوْغلَ فيه

أمور يجب على أهل العلم بيانها للناس

 

التعليقات غير متاحة