مفاتيح التعامل مع القرآن، لا بدّ من الوقوف عليها ومعرفتها، واستخدامها في استخراج كنوز القرآن المذخورة فيه .. لقد حرصنا أن نضع هذه المفاتيح بين يدى أهل القرآن وجنوده وحملته، ليتعرفوا عليها، ويقفوا عليها، ويستخدموها في صلتهم بالقرآن، وتعاملهم معه، وأخذهم عنه، واستخراجهم لكنوزه ..

14 – الوقوف في وجه المادية الجاهلية

مرّ معنا أن من أهداف القرآن الأساسية قيادة الأمة المسلمة في مواجهتها مع الجاهلية من حولها. وذلك لأن الجاهلية لن تدع الأمة المسلمة تعيش حياتها، بل استعلن عليها حربا بدون هوادة .. وهذه بدهية يدركها من له أدنى تدبر للقرآن، وتفحص للتاريخ الإنساني الذي يسجل الحرب بين الحق والباطل .. ونتج عن هذا وغيره إدراك المهمة العملية الحركية للقرآن، هذه المهمة التي تعين القارئ على إدراك البعد الواقعي لنصوص القرآن، وعلى الحركة به في الواقع، والنظر إلى أحداث الحياة من حوله بمنظار القرآن ووزنه بميزانه ..

فإذا ما أدرك القارئ كل هذا، ووقف عليه، فلا بد أن يواجه أعداءه بالقرآن، وأن يعاملهم على أساسه، وأن يجاهدهم به، وأن يقف في وجه مكائدهم ومؤامراتهم، وأن يرد سهامهم وحربهم، وأن يكون زاده فى هذا كله هو القرآن الكريم .. والقرآن قادر بإذن الله على أداء هذا، على أتم صورة، وأدق أداء ..

هذا ما فعله السابقون مع أعداء هذا الدين، وقد وجدوا عند القرآن ما بحثوا عنه، ونجحوا فى مواجهة هؤلاء والوقوف أمامهم والانتصار عليهم، لأنهم سمحوا للقرآن أن يقودهم وأن يوجههم وأن يحركهم في مواقعهم ..

التحرك بالقرآن في مواجهة الحضارة الغربية

وفي عصرنا الحاضر نجد أن المادية الجاهلية- التى يسمونها خطأ «الحضارة الغربية» قد تداعت- بمختلف أنظمتها ودولها ومبادئها ومذاهبها- على الأمة المسلمة، ووجهت لحربها كل وسائلها وأساليبها، واحتلت من الأمة المسلمة مواقع عديدة من حياتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية والتعليمية.

واستيقظ الأحياء المبصرون العقلاء من الأمة- وهم الملتزمون بالإسلام والداعون إليه عقيدة وعبادة ومنهاج حياة- وواجهوا الهجمة المادية الجاهلية، ووقفوا في وجهها وردوا على أسلحتها وأساليبها ..

لا بد للقارئ البصير للقرآن الذي يواجه هذه الهجمة، من أن يقبل على القرآن الكريم ليتحرك به ويجاهد من خلاله، لا بد أن يقف في وجه المادية الجاهلية، وأن يواجهها على أساس هذا القرآن.

سيد قطب واستعانته بالقرآن في مواجهة الجاهلية

وأن تكون نظرته إليها كنظرة سيد قطب الذي استعان بالقرآن في مواجهته لها فنجح .. وفي ذلك يقول: «وعشت- في ظلال القرآن- أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة .. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية لما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال .. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال .. وأعجب .. ما بال هؤلاء الناس؟ ..

وعشت أتملى ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود ..

وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب. وأسأل كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم، وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟ .. »1(1) [الظلال: 1/ 11]..

الجاهلية المعاصرة في المنظار القرآني

وعندما يقف المؤمن بالقرآن في وجه المادية الجاهلية فإنه لن «يضبع» بها، ولن يخاف منها، ولن تسترهبه وتقذف الوهن واليأس والاستسلام في قلبه .. بل سيعرفها على حقيقتها. وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها، وعلى قزامتها .. وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وادعائها .. إن القرآن يضعها أمامه بحجمها الطبيعي، ووزنها الطبيعي، بدون هالة مصطنعة، أو انتفاش خادع.

رجال هذه المادية الجاهلية في المنظار القرآني «عميان» ونتاجهم في بلادهم هو نتاج عميان (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرعد: 19].

واهتماماتهم وأهدافهم ورغباتهم إنما هي لهو ولعب (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) [الطور: 12] (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الأنعام: 70]، وهم في حقيقتهم دواب، في حياتهم وعقولهم (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنفال: 55]، ودواب في أكلهم وشربهم ومعيشهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [محمد: 12] ودواب قادهم الشيطان، واحتنكهم، فأسلموا له قيادهم كما تسلم الدابة قيادها لصاحبها عندما يسحبها من مقودها (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 62]، وهم سذج أطفال في تفكيرهم وفي ممارستهم، تنطلي عليهم الألاعيب، ويخدعون بالزخارف كما تخدع الأطفال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام: 112] وهم قد يتعالمون فيدّعون العلمية والمنهجية والموضوعية ولكنهم لا يتمتعون بشيء من هذا، ولو اتصفوا بجزء منه لقادهم نظرهم في الكون والحياة إلى الخضوع الكامل الشامل لله على منهج هذا الدين ..

إن المقدمات الصحيحة التي تعطي عند العاقل الواعي المتزن نتائج صحيحة، تعطي عند هؤلاء نتائج باطلة خاطئة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1]، وهم سذج يتصفون بالبله و «العبط» في حربهم لهذا الدين ولرجاله، لأنهم في الحقيقة يحاربون الله، ويقفون في وجه نوره .. وهل يفعل هذا عاقل رشيد متزن؟ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [التوبة: 32].

الجاهلية تخوض معركة خاسرة

وإن الله يمكر بهم ويسخر بعقولهم، ويقذف في قلوبهم اليأس من انتصارهم في مواجهتهم لهذا الذين، إنهم يبذلون جهودا هائلة، وينفقون أموالا ضخمة، وهي ضائعة، ويحاربون في معركة معروفة نتيجتها، فيا لطول حسرتهم وحزنهم، وليموتوا بغيظهم .. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [الأنفال: 36 – 37].

15 – توسيع التفسير ليشمل السيرة وحياة الصحابة

قصر بعض الدارسين للقرآن والناظرين فيه التفسير في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام على مجال واحد من مجالاته وهو المجال النظري، فصاروا يبحثون في كتب الحديث وكتب التفسير بالمأثور، عن الروايات والأحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام والمتعلقة ببيان معنى كلمة قرآنية أو توضيح حكم قرآني، واكتفوا بها فقط كنماذج لتفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام .. ثم توجهوا إلى أقوال الصحابة في تفسير القرآن، وقصروها على بيان الصحابي لمعنى كلمة غريبة أو سبب نزول أو توضيح حكم أو تحديد ناسخ ومنسوخ أو غير ذلك .. وإذا نظرنا في الحصيلة التي خرجوا بها من جمعهم لهذه الروايات والآثار فإنها ستكون قليلة وبخاصة إذا اعتمدنا ما صح سنده منها .. وهذه الروايات نجدها في كتب الصحاح والسنن، وفي كتب التفسير بالمأثور وفي مقدمتها جامع البيان للطبري، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ..

الصحابة حولوا التوجيهات النظرية للقرآن إلى حقائق حياتية معاشة

إن التفسير في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والصحابة الكرام ليس مقصورا على الجانب النظري، لأنهم هم لم يقصروه عليه، وكم نخسر لو قصرناه عليه ..

لقد كانوا أبصر بالقرآن منا، وأكثر إدراكا لأغراضه منا، وأشد تعلقا وارتباطا به منا، وأعظم حرصا على أن يعيشوا به منا، ويحولوه من توجيهات نظرية إلى حقائق حياتية معاشة، ويكونوا الصورة العملية الواقعية الحية لنصوصه وآياته ..

إن التفسير زمن الرسول عليه السلام وأصحابه شمل جانبين:

جانب نظري وهو ما أشرنا إليه، وإلى قلته وضآلته بالقياس إلى الجانب الآخر ..

وهو الجانب العملي التطبيقي الواقعي ..

سيرة الرسول وحياته وخلقه وسلوكه تفسير لتوجيهات وآيات القرآن

لقد عاش رسول الله عليه الصلاة والسلام بالقرآن عمليا، وكان يحرص على أن يلتزم توجيهاته وأحكامه، وأن ينفذ أوامره وواجباته، فكان هو بسيرته وحياته أول مفسر للقرآن الكريم .. ولهذا كم كانت السيدة عائشة رضي الله عنها حكيمة وذكية ونافذة البصر والبصيرة، عندما كان جوابها على سؤال وجه إليها عن خلق رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقالت: «كان خلقه القرآن»، وكأنها تعني ما قلناه من أن سيرته وحياته وخلقه وسلوكه تفسير لتوجيهات وآيات القرآن .. وبهذا الفهم للتفسير لابدّ أن ننظر إلى صلة الصحابة بالقرآن وإلى ممارستهم لحياتهم الواقعية اليومية، فقد كانوا جيلا قرآنيا فريدا يعيشون بالقرآن عمليا، وكان القرآن حاضرا متجددا معهم، ويمكن أن تستخرج من نصوصه صورة شبه متكاملة لحياة الصحابة ومستواهم الإيماني، والتزامهم العملي، ووقوعهم أحيانا في تقصيرات وأخطاء يسيرة عالجها القرآن في وقتها ..

كيف تتحقق الفائدة التفسيرية والتربوية والسلوكية والإيمانية والعملية للقرآن الكريم

إن أي ناظر في كتب أسباب النزول وفي سيرة رسول الله عليه السلام، وفي مغازيه وجهاده، وفي الكتب التي تحدثت عن حياة الصحابة وطبقاتهم ومناقبهم .. سيقف على ثروة ضخمة لهؤلاء الكرام، يصدق عليها أنها تفسير عملي للقرآن الكريم .. فلماذا نستبعد كل هذه الثروة الغنية، ونكتفي بألفاظ وكلمات يسيرة منقولة عنهم في تفسير القرآن؟ وكثير منها لم يصح سنده؟

فعلى القارئ المتدبر للقرآن أن يوسع التفسير، وأن يدخل فيه كل سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام ومغازيه، وشمائله وفضائله، وكل ما صح من حياة الصحابة بالقرآن، وجهودهم وجهادهم لأن يبقوا على القمم التى وضعهم عليها القرآن .. وعندها يستفيد هذا القارئ فائدة تفسيرية وتربوية وسلوكية وإيمانية وعملية ..

الهوامش

(1) [الظلال: 1/ 11].

المصدر

“مفاتيح للتعامل مع القرآن”، د صلاح عبد الفتاح الخالدي: ص125-131.

اقرأ أيضا

من مفاتيح التعامل مع القرآن (1)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (2)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (3)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (4)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (5)

التعليقات غير متاحة