مفاتيح التعامل مع القرآن، لا بدّ من الوقوف عليها ومعرفتها، واستخدامها في استخراج كنوز القرآن المذخورة فيه .. لقد حرصنا أن نضع هذه المفاتيح بين يدى أهل القرآن وجنوده وحملته، ليتعرفوا عليها، ويقفوا عليها، ويستخدموها في صلتهم بالقرآن، وتعاملهم معه، وأخذهم عنه، واستخراجهم لكنوزه ..

12 – تحرير النصوص القرآنية من قيود الزمان والمكان

القرآن كتاب الله الخالد، صالح لكل زمان ومكان، ونصوصه تعطي توجيهاتها لكل بني الإنسان، ويتفاعل معها المؤمنون مهما كان مستواهم المادي والثقافي والحضاري، وفي أية بقعة في هذا العالم، وفي أية فترة من فترات التاريخ ..

أقبل الصحابة على نصوصه فعاشوا بها، ولم يقيدوها فيهم أو يقصروها عليهم، وأقبل التابعون عليها فعاشوا بها، وأقبل تابعوهم عليها كذلك فعاشوا بها، وهكذا كل طائفة من العلماء، كانت تجد عند القرآن ما تريد، وتلقى عند نصوصه ما هي بحاجة إليه .. فعلى قارئ القرآن أن ينظر إلى القرآن بهذا المنظار، وأن يتعامل معه على هذا الأساس، لا يجوز أن يقيد نصوصه بحالة من الحالات أو فترة من الزمان- إلّا ما كان مقيدا بذلك- ولا أن يقصرها على شخص ما أو قوم ما- إلّا ما كان مقصورا عليه- إنه لا بدّ أن يحرر هذه النصوص من قيود الزمان والمكان والأشخاص والأقوام، لتعطي دلالاتها لكل الناس، وتطلق إشعاعاتها لكل جيل، وتنشر أضواءها على العالمين ..

حتى لا تكون النصوص سجينة فهم، أو أسيرة وضع، أو رهينة قوم

أما إذا قصر هذه النصوص على حالة أو فترة أو شخص أو بلدة أو قرن، فإنه سيقيدها وسيفرغها من معانيها، ويقزمها عن دلالاتها، ويحرمها من أداء أهدافها، وكأنه يجعلها سجينة فهم، أو أسيرة وضع، أو رهينة قوم، وبهذا تذوى هذه النصوص وتموت .. وتتحول إلى عبارات فارغة، تتحدث عن فترة من التاريخ سابقة لأمة من الناس ماضية ..

نصوص القرآن حديثا لواقع كل جيل وإصلاحا لحياته

لا يجوز لقارئ مسلم أن يميت نصوص القرآن بين يديه، ولكنه يفسح لها الطريق لتعيش حياتها وتؤدي رسالتها، وتؤثر في الإنسانية جمعاء، وتنشر عليهم من فيوضاتها وأنوارها .. كل جيل من أجيال المسلمين كان يجد في نصوص القرآن حديثا لواقعه وإصلاحا لحياته، وكأنها تنزلت اللحظة عليهم، وكل مفسر من المفسرين كان ينطلق من نصوص القرآن لتربية قومه وإصلاح أمورهم .. وكل تفسير من تفاسير القرآن يمكن أن تستخرج منه الحالة الثقافية والمستوى الحضاري، والوضع الأخلاقي والاجتماعي والإيماني والسلوكي للعصر الذي عاش فيه المفسر، وكان هذا التفسير سجلا حضاريا تاريخيا وثائقيا لحالة ذلك العصر .. وما هذا إلّا لأن نصوص القرآن منطبقة على زمان المفسر ومكانه، وموجهة للناس من حوله ..

ولهذا كم كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألمعيا وبصيرا وصادقا، عندما وصف القرآن وصفا تنطبق عليه هذه القاعدة فقال عنه: «إنه لا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه .. ».

أمثلة لنصوص جعلها المفسرون أسيرة فترة ماضية من الزمان

ونحن لا ننكر أن بعض الناظرين في القرآن من السابقين أخطئوا في تعاملهم معه، فقصروا بعض نصوصه على أناس من السابقين، وقيدوا بعضها بحالات ماضية، وقزموا هذه النصوص وفرغوها من كثير من معانيها، وحجبوا عن القراء الكثير من دلالاتها ..

قوله تعالى– مثلا- عن الحاكمية: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة: 44]، وفي آية أخرى: (هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45]، وفي آية ثالثة: (هُمُ الْفاسِقُونَ) [المائدة: 47]. خاصة عند هؤلاء في بني إسرائيل قبل الإسلام، ولا تنطبق على مسلم رفض حكم الله طائعا مختارا- حاكما أو محكوما- إن هؤلاء قزموا الآية وجعلوها أسيرة فترة ماضية من الزمان .. مع أنها تنطبق على كل إنسان أينما كان ومهما كان، رفض حكم الله طائعا مختارا، وآثر أن يتحاكم إلى الطاغوت، فهو كافر ظالم فاسق بنص القرآن ..

قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50] رفض لحكم الجاهلية والجاهليين. والجاهلية عند هؤلاء هي الحالة التى كان عليها العرب قبل الإسلام، والمستوى المتدني من الجهل والجهالة وعدم العلم والثقافة والحضارة، والجاهليون هم أولئك الناس فقط، إن هذا الفهم يقزم الآية ويفرغها من معانيها، ويميتها في أفواه القارئين لها، لأنها تتحدث عن أموات مضوا في سالف الزمان .. مع أنها صالحة لكل الناس، ومنطبقة على كل زمان، وفاعلة في كل مكان، إنها تضع الجاهلية في مقابلة حكم الله، فالجاهلية هي كل حالة أو وضع أو تشريع أو نظام أو مجتمع أو مناهج أو توجيهات، يرفض أصحابه الاحتكام إلى شرع الله، ويقبلون أن يحكموا بغيره .. فهذه هي الجاهلية في أية فترة من فترات التاريخ، وفي أية بقعة من العالم، وأهلها جاهلون جاهليون مهما بلغ رقيهم المادي ومستواهم العلمي والتكنولوجى والثقافي ..

وقوله تعالى عن عداوة الكافرين للمؤمنين وعن هدفهم من حربهم: (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) [البقرة: 217] ليس خاصا بحرب قريش لرسول الله عليه السلام والمسلمين في المدينة- وإن كانت نزلت بهذه المناسبة- ولكنها تتحدث عن هدف عام للكفار أينما كانوا، في حربهم للمسلمين حيثما وجدوا .. هذه الآية تنطبق على حرب الرومان للمسلمين وحرب الفرس والصينيين والهنود والمغول والصليبيين والأوروبيين في القرون الوسطى، والروس القياصرة والروس البلاشفة لهم، وعلى حرب الإنجليز والمستعمرين المعاصرين، وعلى حرب الأمريكيين والشيوعيين واليهود والنصارى والباطنيين للمسلمين في هذه الأيام، وستبقى تعطي دلالاتها وتنطبق على أية حرب بين المسلمين والكفار حتى قيام الساعة..

لا يجوز أن نقيد النص بسبب نزوله ونقصره عليه

إن سبب نزول الآية يجب النظر فيه وقبوله عندما يصح سنده، وإضافة أبعاد جديدة للنص على أساسه، لكن لا يجوز أن نقيد النص به ونقصره عليه، بل نعممه على كل الحالات المشابهة والنماذج المماثلة المتكررة إلى قيام الساعة، ولهذا قال علماؤنا الأفذاذ مقررين قاعدة أساسية في تحرير النصوص من قيود الزمان والمكان «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب».

13 – ملاحظة البعد الواقعي للنصوص القرآنية

انطلاقا من الأغراض الأساسية للقرآن، وتطبيقا للمهمة العملية الحركية له، فإن القارئ البصير لا بد أن يلاحظ البعد الواقعي لآيات القرآن، وأن يلتفت إلى انطباقها على الواقع المعاصر، وأن يدرك معالجتها له وتقويمها لأموره وإصلاحها لمناهجه ومظاهر الحياة فيه..

سور القرآن سورا حية حكيمة متفاعلة قائدة وموجهة

إن القارئ عندما يحرر الآيات من قيود الزمان والمكان، سيجدها آيات معجزة حية، تصف له حياته، وتتحدث له عن واقعه، وتهتم بالقضايا والمشكلات التى حوله .. إنه عندما يقرأ سور القرآن على هذا الأساس سيجدها سورا حية حكيمة متفاعلة قائدة وموجهة .. وعندما ينظر للقرآن بهذا المنطق سيجده صديقا ودودا مؤنسا أليفا حبيبا يناجيه ويخاطبه ويعيش معه .. ويصحبه فى رحلة شيقة ممتعة، ويقوده فى انطلاقة حكيمة مبصرة لعالمه الواقعي، وحياته المعاشة .. سيجد هذا القارئ القرآن وسوره كما وجد ذلك سيد قطب، عندما أدرك كيف يتعامل مع القرآن، ويلاحظ البعد الواقعي لنصوصه وتوجيهاته، والذي عبر عن ما وجده فيه بقوله: (هكذا عدت أتصور سور القرآن، وهكذا عدت أحسها، وهكذا عدت أتعامل معها. بعد طول الصحبة، وطول الألفة، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته وملامحه وسماته.

وأنا أجد فى سور القرآن- تبعا لهذا- وفرة بسبب تنوع النماذج، وأنسا بسبب التعامل الشخصي الوثيق، ومتاعا بسبب اختلاف الملامح والطباع، والاتجاهات والمطالع ..

إنها أصدقاء .. كلها صديق .. وكلها أليف .. وكلها حبيب .. وكلها ممتع .. وكلها يجد القلب عنده ألوانا من الاهتمامات طريفة، وألوانا من المتاع جديدة، وألوانا من الإيقاعات، وألوانا من المؤثرات، تجعل لها مذاقا خاصا، وجوا متفردا ..

ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة .. رحلة فى عوالم ومشاهد، ورؤى وحقائق، وتقريرات وموحيات، وغوص فى أعماق النفوس، واستجلاء لمشاهد الوجود .. ولكنها كذلك رحلة متميزة المعالم فى كل سورة ومع كل سورة .. )1(1) [الظلال: 3/ 1243]..

 آيات القرآن كلها لها بعد واقعي

سواء آيات العقيدة أو القصص أو الأخبار أو التوجيه أو الأحكام، أو التي تتحدث عن السنن والمبادئ والقيم والموازين .. أو غير ذلك..

الآيات التي تعرفنا على الله سبحانه، وتعرض لنا مجالات سلطانه ومظاهر قدرته، وتحدثنا عن صفاته سبحانه وأسمائه نجد لها بعدا واقعيا ..

فصفات الله سبحانه فى نصوص القرآن صفات فاعلية إيجابية .. كما فى علم الله الشامل لكل ما في الكون، وفي قوله تعالى: (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4]، فإذا ما استصحب دلالة هذه الآية الواقعية وعاشها بقلبه وكيانه، واستحضر معية الله له وعلمه بأحواله استقام على منهج الله وراقبه واتقاه. وكانت الآية حية واقعية تنير له حياته وتبصره بطريقه ..

للقصص القرآني الذي يعرض أخبار السابقين ومواقفهم بعد واقعي، وكأنما يتحدث عن الناس ويصفهم ويحلل شخصياتهم .. ولابدّ للقارئ أن يلحظ هذا، وأن يستخرج من القصص دروسا في العقيدة والدعوة والحركة والتربية والمواجهة والجهاد، وأن يستخرج منها معالم قرآنية وأنوارا كاشفة وبصائر هادية ..

وندعو القارئ إلى أن يلحظ الأبعاد الواقعية للآيات التالية:

قوله تعالى في قصة إبراهيم: (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ * قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) [الأنبياء: 59 – 61]. وقوله تعالى عن أصحاب الكهف: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) [الكهف: 19 – 20] وقوله تعالى في دعوة زكريا عليه السلام أن يرزقه بغلام: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم: 5 – 6].

وقوله تعالى عن حكم فرعون الذي يعد نموذجا لأي حكم ظالم وحاكم جائر: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 4].

وقوله تعالى عن إيذاء المجرمين الكافرين للدعاة المؤمنين وسخريتهم بهم: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) [المطففين: 29 – 32].

وأن يلحظ القارئ الأبعاد الواقعية الاقتصادية لهذه الآية: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً) [النساء: 5].

والأبعاد الواقعية لهذه السنة الربانية: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].

والأبعاد الواقعية الأسرية لهذه الآية: (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (19) [النساء: 19].

والأبعاد الواقعية لهذه الآية التي تقرر مصير كل حرب ضد هذا الدين، وهزيمة جنودها مهما كانوا: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف: 8 – 9].

الهوامش

(1) [الظلال: 3/ 1243].

المصدر

“مفاتيح للتعامل مع القرآن”، د صلاح عبد الفتاح الخالدي: ص117-124.

اقرأ أيضا

من مفاتيح التعامل مع القرآن (1)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (2)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (3)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (4)

التعليقات غير متاحة