مفاتيح التعامل مع القرآن، لا بدّ من الوقوف عليها ومعرفتها، واستخدامها في استخراج كنوز القرآن المذخورة فيه .. لقد حرصنا أن نضع هذه المفاتيح بين يدى أهل القرآن وجنوده وحملته، ليتعرفوا عليها، ويقفوا عليها، ويستخدموها في صلتهم بالقرآن، وتعاملهم معه، وأخذهم عنه، واستخراجهم لكنوزه ..
في الحلقتين الأولى والثانية [من مفاتيح التعامل مع القرآن (1)] ، [من مفاتيح التعامل مع القرآن (2)] من هذه السلسلة تحدثنا عن بعض المفاتيح التي تساعد على فهم القرآن وتدبره، ونكمل ما بدأناه بمشيئة الله وتوفيقه.
– دخول عالم القرآن دون مقررات سابقة
قد يجمع القارئ مقرراته وثقافاته من مصادر عديدة، وقد تكون هذه المصادر متعارضة أو متداخلة أو متناقضة، فينعكس هذا على مقرراته التي أخذها وثقافته التي حصلها، فيكون مشوشا في فكره، متناقضا في تصوراته، متعارضا في نظراته .. وهذا حال كثير من المثقفين في عصرنا، الذين استقوا علومهم من الينابيع الملوثة، وحصلوا ثقافاتهم من المصادر الغربية الدخيلة ..
والقرآن الكريم وحده هو النبع الصافي الثر الأصيل، الذي يخرج الإنسان المسلم المتوازن، والذي يزوده بالتصورات والحقائق والقيم والثقافات الصحيحة الصادقة اليقينية .. ولكن القرآن لن يفعل هذا إلّا بشرط، وهو أن يدخل القارئ عالم القرآن بدون مقررات سابقة كان قد حصلها من هنا وهناك من نتاج البشر .. هو أن يلقي على عتبة القرآن بكل هذا الركام وأن يدخله مجردا منه، وأن يتعامل معه من البدايات، وأن يتلقى عنه المعاني والإيحاءات والتصورات ..
إن هذا ما فعله الصحابة الكرام في تعاملهم مع القرآن- فكانوا جيلا قرآنيا فريدا- لقد كان الرجل منهم يلقي على عتبة القرآن بكل ماضيه وتصوراته وموروثاته .. ويدخل عالمه الرحيب الطاهر صفر اليدين، ويبني نفسه بناء متوازنا بطيئا، ويحصل منه مقرراته وثقافاته ومناهج حياته، فيتخرج من مدرسته رجلا إيمانيا متوازيا سويا ..
القرآن الكريم يعطي القارئ الكثير من المعاني والحقائق، ويزوده بالكثير من المعارف والثقافات، ويمنحه الكثير من الكنوز والتوجيهات، ويقدم له الكثير من المقررات والتصورات .. ويطلق له من أنواره ما ينير له حياته، وينشر عليه من ظلاله ما يضفي عليه الرحمة والأنس والطمأنينة ..
وهذا كله بشرط أن لا يتعامل معه بمقررات سابقة، غريبة على التوجيه القرآني، ودخيلة على التصور الإسلامي ..
أناس حجبوا عن أنفسهم أنوار القرآن وحقائقه
وقد أخطأ أناس في صلتهم بالقرآن، ولم يحسنوا دخول عالمه الرحيب، فمنهم من أحضر معه ركاما ثقيلا من المعارف والثقافات والأخلاق والعادات والأعراف والسلوكيات- وهي متناقضة مع توجيهات القرآن- فحجبت هذه عنه أنوار القرآن .. ومنهم من دخل عالم القرآن بمقرر فكري مسبق، بقى يخايل له وهو ينظر في القرآن، فحجب عنه الرؤية وأوقعه في الغبش والتخليط، ومنهم من أقبل على القرآن بنية مسبقة، وخلفية سابقة، وهدف يبغي تحقيقه، فصار يعتسف الطريق، ويتكلف الأدلة، ويلوي أعناق النصوص ليا، ويقسرها قسرا، ويستنطقها استنطاقا، لتشهد له ..
وهؤلاء جميعا خرجوا بنتائج خاطئة، ومقررات مرفوضة، نسبوها إلى القرآن الكريم، وما هي إلّا نتاج غبش وتيه، وثمرة حجاب عن أنوار القرآن وحقائقه.
ومن الأمثلة السريعة لهؤلاء الذين دخلوا القرآن بمقررات سابقة فضلّوا، وخرجوا من ذلك بنتائج خاطئة فأضلوا ..
1- ذلك الذي أراد أن يستدل من القرآن على أن الأديان السماوية كلها وحدة واحدة، وأن أتباعها كلهم في الجنة، وأن اليهود والنصارى – بعد نزول القرآن – هم مقبولون عند الله، وتوكأ في كل هذا على قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة: 69].
2- وذلك الذي استدل بقوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38] على أن القرآن حوى جميع العلوم والمعارف.
3- وذلك الذي يركن إلى الحكام الظالمين المحاربين لله ورسوله ولدينه، فيبحث لهم عن آية توجب طاعتهم وتنفيذ أحكامهم، فيعتمد على قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59].
4- وذلك الشيخ الذي باع دينه بدين غيره من الحكام الظالمين، فخسر الأمرين معا، وصار يبرر لهم رذائلهم وضلالهم، ويعطيه بعدا إسلاميا، ويضفي عليه ظلا قرآنيا، ويبحث عن آيات القرآن لتشهد له .. إذا طلبوا فتوى في الفائدة الحرام، والربا المقيت، وجدها في آية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران: 130].
وإذا والوا النصارى وأحبوهم وقربوهم، برر لهم ذلك بآية: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة: 82].
وإذا ذلوا أمام الأعداء وجبنوا عن قتالهم، وفاوضوهم على البلاد، وصالحوهم على الأوطان، وتنازلوا عن البلدان، أجاز لهم ذلك بآية: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال: 61].
وإذا بطش هؤلاء بجنود الله، وحاربوا أولياء الله، وآذوا أحباب الله واتهموهم بكل شناعة، ونسبوا لهم كل عيب، ولفقوا لهم كل تهمة، ومدوا إليهم أيديهم وألسنتهم بكل صنوف الأذى والعدوان والاضطهاد والتعذيب.
اعتبر ذلك التاجر بدينه وقرآنه رجال الله بغاة محاربين، وطبق عليهم حد الحرابة، وذبحهم بالقرآن: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) [المائدة: 33].
– الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له
القرآن كلام الله، ولا بدّ أن ينظر له على أنه كلام الله، ويتم التعامل معه على أنه كلام الله، ويوثق به على أنه كلام الله، ويسلم به ويصدق به على أنه كلام الله، وهو الحق المطلق والصدق المطلق والخير المطلق والهدى المطلق .. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء: 87]، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء: 122].
وموقف القارئ من القرآن هو التسليم التام به، والثقة بنصوصه، والتصديق الجازم بمعانيه وحقائقه ودلالاته .. فما قاله فهو الحق، وما قرره فهو الصدق، وما أشار له ووجه إليه فهو الخير، وما أمر به فهو الهدى والصواب، وما نهى عنه فهو الشر والفساد .. فهذا القرآن من قال به صدق ومن حكم به عدل، ومن التزم به استقام، ومن صدّق به اطمأن، ومن وثق به اهتدى، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
وكيف يجيز مسلم لنفسه أن «يتعالم» على الله في كتابه، وأن يجعل عقله البشري القاصر فوق كلامه أو ندا له، وأن يعمل في نصوص القرآن بالتحريف أو التعطيل أو التأويل، أو التقزيم أو التفريغ أو التلبيس .. وأن يتشكك في معانيها ومقرراتها وحقائقها، أو يتفلسف على دلالاتها وإيحاءاتها، أو «يتخير» ما شاء من أحكامها ومبادئها ..
«المزاجية» والهوى في التعامل مع نصوص القرآن الكريم
على القارئ البصير أن تكون نظرته لنصوص القرآن، وتعامله معها واقتناعه بها وتسليمه لها محكوما بقوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65]. وبقوله تعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً) [الأحزاب: 36] .. فلا يكون «مزاجيا» في تعامله مع القرآن وثقته بنصوصه، فيفعل فعل اليهود في التوراة، ذلك الفعل الذي يقوم على «المزاجية» والهوى، والذي ذمه الله بقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) [البقرة: 85]. وبقوله تعالى: (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة: 87].
إنه هو الصلة المزاجية اليهودية التي «قرطست» التوراة قراطيس، فمزقتها وقزّمتها وطمست نورها كما قال تعالى: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام: 91] ولكننا كم نرى من مسلمي هذا الزمان من هم مزاجيون في نظرتهم إلى نصوص القرآن! وثقتهم بها! وتسليمهم لها! كم نرى من هؤلاء من يحكم في هذه النظرة الهوى والشهوة والمصلحة والرغبة .. كم نرى من هؤلاء من «يقرطس» أحكام القرآن ونظمه وتشريعاته «قرطسة» مرذولة مقيتة، تشابه قرطسة اليهود لتوراتهم، وتكاد تخرجه من دين الله ..
تصديق ما جاء في القرآن من أخبار والتزام ما جاء فيه من تشريعات
إذا أخبرنا عن وجود الملائكة وصفاتهم فهو صدق يجب الإيمان به والثقة فيه. وقل مثل هذا في إخباره عن إبليس والشياطين وعن الجن، وعن الأنبياء ومعجزاتهم، وعن الأعداء وهلاكهم، وعن تسبيح كل من في الكون لله وسجودهم له، وعن الجنة ونعيمها، وعن النار وعذابها .. وغير ذلك ..
وإذا تضمنت نصوص القرآن حكما أو تشريعا، فلا بدّ من التصديق به والتسليم له، فالخمر ولحم الخنزير والربا والنظرة المحرمة والزنا، والكذب والغدر، وموالاة الأعداء ونصرتهم، ومصالحتهم والجبن والذل أمامهم، وإيذاء أولياء الله واضطهادهم. كل هذه محرمات في دين الله، لما فيها من إفساد وتخريب وفوضى ودمار ..
النص القرآني هو الأساس والقاعدة والأصل، والواقع تابع له
وإذا قرر القرآن أمرا، أو تضمن من الله حكما أو وعدا، أو عرض سنّة أو حقيقة، ثم رأى القارئ أن الواقع الذي يعيشه، والأمر الذي يشاهده يتعارض مع ما قرره القرآن، ويتناقض معه، ويتخلف عنه .. فلا تضعف ثقته المطلقة بالنص القرآني، ولا يتزعزع تصديقه به وتسليمه له، ولا يقبل على هذا النص بالتحريف والتعطيل والتأويل، فلا يجعل ما يراه من مخالفة هو الأصل، وما يوحي به القرآن هو التابع له، الذي يجب أن يخضع له، وأن يؤوّل ليوافقه ..
إن النص القرآني هو الأساس والقاعدة والأصل، وإن الواقع هو التابع له، فإذا ما تعارضا في ظاهر الأمر، فلا بدّ أن في الأمر شيئا، ولا بدّ أن الشروط والمواصفات التي قررها القرآن لم تتحقق، والأسباب التي أشار إليها لم توجد .. فلو وجدت الأسباب كاملة وتحققت الشروط وافية، فلا بد أن نرى الواقع متطابقا مع النص .. فلا بدّ إذن من إخضاع الواقع المخالف لتقريرات القرآن وحقائقه.
– قوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء: 141]. هو الأصل والواقع له تبع. وقوله تعالى: (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) [الأنعام: 6]. سنة لا تتخلف والبصير هو الذي يراها قادمة ..
– وقوله تعالى مهددا آكلي الربا: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: 279] يعلن الحرب عليهم، والمؤمن هو الذي يراها الآن حربا أعلنها الله على العالم أجمع لأكله الربا، كما قال في الآية الأخرى، (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [البقرة: 276].
– وقوله تعالى عن اليهود: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران: 112] حكم قاطع دائم يتضمن الاستثناء في الحبال الممدودة إليهم في هذه الأيام، حبل الله بالإمهال، وحبال أمريكا بالمساعدات المالية، وحبال روسيا بالسيل البشري، وحبال عملائهم بالتحالف والتعاهد، وحبال الأمة بالجبن والذل وترك الجهاد.
– وقوله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد: 7] تعليل لسر انتصار المسلمين السابقين، وتعليل لسر هزائم المسلمين المعاصرين، وهو يقرر قاعدة عامة وسنة ربانية ثابتة تتضمن شرطا بشرط، وهو المتمثل في فعل الشرط وجوابه ..
– معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه
لنصوص القرآن إيحاءات خاصة، ودلالات صائبة، وظلال لطيفة وارفة، ولطائف غالية نافعة، وتقوم هذه النصوص بإطلاق هذه الإيحاءات وإلقاء هذه الظلال، والدعوة إلى تلك اللطائف، ولكن لا يفهم عليها كل من نظر في القرآن أو قرأ فيه، لأن الجميع لا يملكون المؤهلات لإدراكها، والمفاتيح للتعامل معها. إن هذا يحتاج إلى قارئ حي بصير، يتبوأ الإيمان أولا، ثم يتفاعل مع القرآن بكل كيانه، ثم يفهم عنه ما يوحي به من إيحاءات، ويتفيأ ما يلقيه من ظلال، ويعيش حياة هانئة مباركة في هذه «الظلال» القرآنية الوارفة، حياة ترفع عمره وتباركه وتزكيه.
في معايشة آية من سورة البقرة
– بماذا توحي للقارئ البصير آخر آية نزلت في كتاب الله- كما رجح جمهور العلماء- وهي قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفي كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281]. إنها تشير إلى عدة مجالات، وتوحي بعدة إيحاءات، ويمكن أن تستنبط منها عدة دلالات:
أهمية العقيدة وضرورة ربط كافة المناهج والتشريعات بها لضمان الالتزام بها وأدائها
إن موضوعها عقيدي، حيث تربط المؤمنين بالله وتطالبهم بتقواه، وتوقظ فيهم مراقبته، والنظر في يوم القيامة وخشيته والخوف منه، وتقرر قاعدة الجزاء في ذلك اليوم وكونه على ما كسب الإنسان في الدنيا، وتنفي الظلم عن الله، وهذه كلها من موضوعات العقيدة وقضاياها وجزئياتها ..
ومما يلفت النظر هنا أن تفتتح أول آية في القرآن- حسب النزول- بالعقيدة، وأن تختتم آخر آية منه بالعقيدة، وأن يكون بين الآيتين فترة زمنية مدتها ثلاثة وعشرون عاما، نزلت فيها آيات في موضوعات القرآن وتوجيهاته ومبادئه وتشريعاته .. ولهذا دلالات- تربوية وتصورية- على أهمية العقيدة أولا، وعلى ضرورة الاستمرار في التذكير بها والتركيز عليها، وعلى ربط كافة المناهج والتشريعات بها لضمان الالتزام بها وأدائها، وعلى إقبال المربين والموجهين عليها لتكون مادة التربية وأساس التوجيه، وعلى أهمية التذكير باليوم الآخر، وربط القلوب به لاستقامة الحياة .. وغير ذلك من إيحاءات ودلالات ..
في معايشة آية من سورة الأنعام
– ولو وقف القارئ البصير أمام قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1] وحاول استخراج دلالاته وإيحاءاته فإنه سيقف على رصيد ضخم منها، ومن أهمها:
– أن الحمد والشكر والثناء لا يكون في الحقيقة إلا لله
لأنه هو مصدر الخيرات والنعم، وحمد الناس لكونهم وسائط لها وأسبابا، وهو في الحقيقة حمد لله الذي أوجد في قلوب المحسنين والمنعمين الرأفة والرحمة على بني البشر.
– أن الله هو الخالق لكل ما في السماوات والأرض
وهذا رد على الملحدين الذين ينسبون الخلق إلى الطبيعة، وأن الله هو الجاعل للظلمات والنور، وهذا رد على الثنوية والمجوس الذين يجعلون للكون إلهين: إلها للخير وإلها للشر. وأن الله وحده لا شريك له، ولهذا ضل المشركون الذين عدلوا به الأصنام أو ساووا به الأوثان ..
– أن الكفار ليسوا على شيء
إن الآية تقرر حقيقة ما عليه الكفار من عقول وتصورات، ومباحث ومناهج حياة، وهي أنهم ليسوا على شيء، ولا يتصفون بالمنهجية ولا بالعلمية ولا بالتوثيق والاتزان، وذلك لأنهم يستخرجون من المقدمات الصحيحة نتائج خاطئة باطلة، وكان الأولى أن يقطفوا منها ثمارا صحيحة، فالله هو الخالق الباري وحده فكيف يعدل عنه إلى غيره؟ ويساوي به غيره وهو عاجز عن فعل أي شيء؟ ..
– أن الآية تقرر أن العدل عدلان
عدل محمود مطلوب وهو المساواة بين المتساويين المتماثلين، وهو العدل بين الناس والتسوية بينهم، وهو ما طولب به المسلمون أساتذة العالم .. وعدل مذموم مرفوض، وهو في حقيقته ظلم، وهو المساواة بين غير المتساويين، وعدم ملاحظة الفروق بينهما، كالمساواة بين المؤمن والكافر في التكريم، أو المساواة بين المؤمن والعدو في الموالاة والمحبة، أو المساواة بين المؤمنين والمجرمين في الحياة، والمساواة بين الله في عظمته وبين البشر في ضعفهم في العبادة والدينونة والخضوع .. وغير ذلك.
في معايشة آية من سورة الحشر
وما هي إيحاءات وظلال ولطائف قوله تعالى في صفة الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) [الحشر: 9] وعلى الأخص ما هي ظلال ولطائف الصورة المجسمة المؤثرة لتبوء الإيمان- بعد التمتع بتملّي ما فيها من تجسيم فني للإيمان المعنوي، حيث عرض في صورة مادية إذ أصبح كالبيت يدخل فيه الإنسان ويتبوأ له فيه مقعدا، ويلاحظ القارئ البصير بخياله اليقظ حركة هذا الإيمان، وقد تحول إلى بيت صالح للإقامة فيه، وحركة المؤمن وهو يدلف إلى هذا البيت الإيمان ليتبوأ فيه مسكنا- إنه يعرض لطائف ندية، ويلقي ظلالا وارفة .. ويطالب كل مؤمن أن يقيم في بيت من إيمان خالص، وأن ينصب عليه قبة من إيمان، وأن يستظل بمظلة من إيمان، وأن لا تفارقه في لحظة من لحظات حياته، وبهذا يتحول إيمان المؤمن من إيمان سلبي خامد إلى إيمان إسلامي فاعل عامل حي موجه رائد قائد .. إنه سيبقى في حصن إيماني، وفي حرز مكين، طالما بقي متبوءا هذا الإيمان .. فإذا ما خرج من بيت الإيمان، أو أخرج أحد حواسه من نوافذه فإن الشياطين الراصدة له بانتظاره، فستخطفه إلى الظلمات، وتهدم عليه بيته، وتنغص له حياته، وتسمم له عيشه، وتقوده إلى نار جهنم.
المصدر
“مفاتيح للتعامل مع القرآن”، د صلاح عبد الفتاح الخالدي: ص97-108.
اقرأ أيضا
من مفاتيح التعامل مع القرآن (1)
من مفاتيح التعامل مع القرآن (2)
أمور تعين على تدبر القرآن وتفهمه