إن الصادقين في النية والعزيمة، الذين يصدقون الله فإن الله يصدقهم ويصدّقهم، ويأتي لهم بالنتائج التي يحبها  الله عز وجل.

مقدمة

صدق النية أن تكون خالصة لله عزوجل وابتغاء مرضاته، وأن لا يكون هناك باعث في الحركات والسكنات إلا لله عزوجل، فإن شاب النية شيء من حظوظها لم تكن صادقة، وإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا أيضا دلیل على عدم الصدق في النية. والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله تعالى في وصف المنافقين: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: ۱۱]، وقال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15- 16].

والأحاديث في ذلك كثيرة أشهرها حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة1(1) انظر الحديث بطوله في صحيح مسلم – كتاب الإمارة (1905)/ (3/1513)..

الصدق والعزيمة

ومن الصدق في النية: الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه؛ لأن النية قد تكون صادقة لكن العزيمة على الفعل ضعيفة وصاحبها متردد، وقد تكون العزيمة صادقة لكن إذا جد الجد وعزم الأمر وهاجت الشهوات خارت وضعفت في بدايته ولم يحصل الوفاء بالعزيمة، وقد لا تضعف في البداية لكن إذا باشرت الفعل وذاقت مرارته ضعفت ونکلت، والموفق من وفقه الله تعالى وأمده بعونه ورحمته ولو وكل العبد إلى نفسه ضاع وهلك .. فياحي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا…

صدق العزائم وضعفها

قص الله سبحانه علينا في كتابه الكريم عن الملأ من بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى عليه السلام، وطلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله، وفي هذه القصة من العبر والدروس خير شاهد على ما سبق الحديث عنه من صدق العزائم وضعفها، وأن أصحاب العزائم الصادقة مع الله عزوجل هم الذين يثبتون إذا عزم الأمر وهم الذين ينصر الله بهم دينه ويدفع بهم الفساد عن الأرض ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم.

يقول الله تعالى في معرض قصة هؤلاء الملأ مع قائدهم طالوت وما جرى لهم من الاختبار الذي تنكشف به العزائم:

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة : ۲۶۹].

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال هذه الآيات: (هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل .. إنه مقدم على معركة ؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة. وهو يواجه جيش أمة غالبة فلابد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة. هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة. الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء.

فلابد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه، وصموده وصبره: صموده أولا للرغبات والشهوات، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب.. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات: عطاش؛ ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه، ويؤثر العافية .. وصحت فراسته : ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ﴾ شربوا وارتووا . فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده ، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم. انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم. وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة. والجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .

ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ؛ ولابد من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها. ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى.. بل مضى في طريقه .

وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت – إلى حد- ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ لقد صاروا قلة. وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته: بقيادة جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم. ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته. إنها التجربة الحاسمة. تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور . وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم، فاتصلت بالله قلوبهم؛ وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم!

وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة. والفئة ذات الموازين الربانية : ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ هكذا… ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾.. بهذا التكثير. فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله. القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة. قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين ، وقاهر المتكبرين.

وهم يكلون هذا النصر لله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ .. ويعللونه بعلته الحقيقية: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل ..

وتمضي مع القصة. فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين .. إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة، الثابتة، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته، مع ضعفها وقلتها .. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة. بعد أن تجدد عهدها مع الله، وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده، وهي تواجه الهول الرعيب) 2(2) في ظلال القرآن (1/248-249) ..

ويعلق القرطبي رحمه الله تعالى على هذه القصة بقوله: (قوله تعالی: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ الفئة: الجماعة من الناس والقطعة منهم؛ من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته. وفي قولهم رضي الله عنهم: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ… الآية﴾ ، تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه .

قلت: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفي البخاري: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم».

فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوی زائلة! قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [آل عمران: ۲۰۰] ، وقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا﴾ [المائدة : ۲۳]، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ (النحل : ۱۲۸] ، وقال: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾ [الحج: 40]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45] .

فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم) 3(3) تفسير القرطبي (3/255). .

خاتمة

من خلال القصة السابقة يتبين دور العلماء الربانيين العالمين أن وعد الله حق والعاملين الصابرين الصادقين في نياتهم وعزائمهم، وأنهم هم الذين يثبتون في الشدائد والمحن وهم الذين ينزل عليهم نصر الله وتأييده .

الهوامش

(1) انظر الحديث بطوله في صحيح مسلم – كتاب الإمارة (1905)/ (3/1513).

(2) في ظلال القرآن (1/248-249) .

(3) تفسير القرطبي (3/255).

اقرأ أيضا

النية وحدها لا تكفي

علاج القرآن .. لمرض “افتقاد الصدق”

المخالفات القلبية الباطنة

 

التعليقات غير متاحة