أوجب الله تعالى على المسلم اتباع الحق، باتباع الدليل. وقرر أهل العلم ان التقليد كأكل الميتة يضطر اليها إن عجز عن معرفة الدليل.

أما الاكتفاء بأقوال العلماء دون البحث عن الدليل أو الاعتناء به، أو ترك مقتضى الدليل إذا استبان لمخالفته الأقوال المقلَّدة فهذا محل ذم عظيم، وهو موضوع هذه الفتوى.

نص السؤال

بسم الله الرحمن الرحيم..

ما قولكم ـ أدام الله النفع بعلومكم ـ فيمن اعتمد على كتب المتأخرين، من غير التفات إلى ما خالفها من نصوص القرآن والسنة، وكلام السلف، والعلماء المتقدمين، ورأى أن ما حوته هو الذي شرعه الله لرسوله، وأوجب أن يُعبد به.

وإن قيل له في ذلك، قال: قد اختار هذه الكتب من هو أعلم منا، وأبصر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وما يقال في مثل هذا، وما يخاف عليه منه؟ أفيدونا أثابكم الله الجنة بمنِّه وكرمه.

الجواب

أجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين)، رحمه الله تعالى، فقال:

الجواب وبالله التوفيق: لا ريب أن الله، سبحانه، فرض على عباده طاعته، وطاعة رسوله.

قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ (الأعراف: 3)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ (الأنفال: 20)، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ (النور آية: 54).

ولم يوجب الله سبحانه على الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن المقلِد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله.

وقال الشافعي رحمه الله: أجمع المسلمون على أنه مَن استبانت له سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. انتهى

وقال ابن هبيرة في “الإفصاح”: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولَّى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز ذلك.

وقال الشيخ أبو محمد في “المغني”:

يشترط أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية.

وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد، لأن الغرض منه فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد، جاز كما يحكم بقول المقومين.

ولنا قول الله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ (المائدة: 48)، ولم يقل بالتقليد، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (النساء: 59).

وروى بريدة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار».(1)..

قال: والعامي يقضي على جهل؛ ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلِدا، فالحكم أولى.(2)

وقال في “الإنصاف”: «ويشترط في القاضي أن يكون مجتهدا، هذا المذهب».. إلى أن قال: «واختار في “الترغيب”: ومجتهدا في مذهب إمامه للضرورة، واختار في “الإفصاح” و”الرعاية”: ومقلدا. قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا لتعطلت أحكام الناس». انتهى.

أقوال العلماء في التقليد في الفتيا

وذكر ابن القيم في مسألة التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه لا يجوز الفتوى في التقليد، لأنه ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم «عالِم». وهذا قول أكثر الأصحاب وهو قول جمهور الشافعية.

والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه. ولا يجوز أن يقلد العالِم فيما يفتي به لغيره، وهذا قول ابن بطة، وغيره من أصحابنا.

والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة والضرورة، ولكن قد دعت الحاجة والضرورة إليه من زمان طويل لا سيما في هذا الوقت، وحينئذ فيقال:

أنواع التقليد

التقليد ثلاثة أنواع:

أحدها: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، فهذا لا يجوز، كما قال الشافعي رحمه الله:أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.

النوع الثاني: التقليد مع القدرة على الاستدلال، والبحث عن الدليل بأن يكون متأهلا لذلك، فهذا مذموم أيضا؛ لقدرته، وتمكنه من معرفة الدليل.

النوع الثالث: التقليد السائغ، وهو نوعان:

1- أحدهما: مَنْ كان مِن العوام الذين لا معرفة لهم بالحديث والفقه، وليس لهم نظر في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف، فإذا وقعت له حادثة، استفتى مَنْ عَلِمَهُ عالما عدلا، ورآه منتصبا للإفتاء، والتدريس، واشترط الشيخ تقي الدين مع ذلك الاستفاضة بأنه أهل للفتيا.

2- النوع الثاني: مَن كان متأهلا لبعض العلوم، قد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في بعض كتب متأخري الأصحاب كالإقناع، والمنتهى عند الحنابلة، ولكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له التقليد أيضا، إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة، وذلك لقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال»(2).

ولكن هذا لا ينبغي له التسرع إلى إفتاء غيره، فإن دعت الحاجة إلى فتواه، فهو إخبار عن مذهب إمامه الذي ينتسب إليه، لا فتيا. قاله جماعة من الأصحاب، وعليه أن يتقي الله ما استطاع.

فإن كان له فهم قوي وإدراك بحيث إذا نظر المسائل الخلافية ورأى أدلة كل من المختلفين، وكان فيه ذكاء وفطنة يدرك بها الراجح من المرجوح فيما يراه، عمل بما ترجح عنده.

فإذا كان طالب العلم متمذهبا بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلا مخالفا لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب، ولم يعلم له معارضا، فخالف مذهبه وتبع ذلك الإمام الذي أخذ بالدليل، كان مصيبا؛ بل هذا هو الواجب عليه، ولا يخرج بذلك عن التقليد. فهو مقلد لذلك الإمام، فيجعل إماما بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض.

قال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى:

من كان متبعا لإمام، فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن.

وقال في موضع آخر: بل يجب عليه، وأن أحمد نص على ذلك. انتهى

وعلى كل حال فلا ينبغي التسرع والجسرة بقول: هذا حلال، هذا حرام، هذا واجب، قال الله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ (النحل آية: 116).

فمن عرف أحوال السلف وهيبتهم الإفتاء مع علمهم وفضلهم، أفاده ذلك اتهام فهمه، وعدم التسرع إلى الفتوى؛ لأنه يخبر عن الله، والمقلد إنما يحكي عن غيره.

فالأوْلى إذا دعت الضرورة إلى فتواه أن يقول: ذكر أصحاب المذهب الفلاني، أو ذكر في الكتاب الفلاني كذا وكذا.

نهْي الأئمة عن التقليد

وأما قول القائل: قد اختار هذه الكتب وما حوته مَنْ هو أعلم منا.

فيقال له: هذا حق، هم أعلم منا، لكن لا يلزم من ذلك تقليدهم في كل ما وضعوه.

فإذا قال كل أهل مذهب هذه المقالة في كتب من تقدمهم، فالمصيب عند الله واحد، فمن هو الذي يجب اتباعه؟

فإذا اختلفت المذاهب في حكم مسألة، فالمصيب منهم واحد.

والمجتهد المخطئ إذا كان أهلا فمأجور على اجتهاده، ولا يجوز له تقليده إذا بان له خطؤه مع كونه أعلم ممن بعده، والله سبحانه إنما أمر بالرد عند التنازع إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فمن قال: إن ما أُودع في بعض الكتب المصنفة هو الذي يجب اتباعه، فهو مخطئ يخاف عليه العقوبة في قلبه.

ولازِم هذه المقالة أنه إذا وجد عن المعصوم، صلوات الله وسلامه عليه، ما يخالف بعض ما فيها، أن الذي في هذه الكتب هو الواجب الاتباع دون ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل كثير منهم يصرحون بذلك، ويلتزمونه مع أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو مخالف لقول الأئمة الأربعة الذين صنفت هذه الكتب على مذاهبهم؛ لأنهم نهوا عن تقليدهم.

قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: “لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه”.

وصرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب.

وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط.

وقال الإمام أحمد: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكا، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا، وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا.

وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله سبحانه يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: 63) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.

تناقض صاحب المقولة، ومتى تُرجى له السلامة

ويقال أيضا لمن قال: وضع هذه الكتب مَنْ هو أعلم منا، إذا كان ممن ينتسب إلى الحنابلة فوضع كتب الشافعية والمالكية والحنفية من هو أعلم منك، فما الذي أوجب اتباع بعضها دون بعض؟

فلو قال صاحب هذه المقالة: أنا أعلم أن التقليد ليس بعلم، وأن الواجب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن قصور أفهامنا، وضعف إدراكنا أوجب لنا التقليد، وألجأت الضرورة إليه، فلو تبين لي في بعض ما قلدت فيه أنه مخالف للسنة اتبعت السنة، وهذا هو الواجب عليّ، لكني قليل التمييز لقصور فهمي، وأعتقد أن الواجب اتباع السنة، ولا عذر لأحد في مخالفتها إذا ثبتت عنده؛ وقائل ذلك يرجى له السلامة، وهذا كله في غير أصول الدين.

فأما أصول الدين من التوحيد ومعرفة الرسالة وسائر الأصول، فلا يجوز فيها التقليد عند جميع العلماء.

فنسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أن يهدينا لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

……………………….

هوامش:

  1. أبو داود: الأقضية (3573)، وابن ماجه: الأحكام (2315).
  2. المغني، لابن قدامة، ج10 صـ (37-38).
  3. أبو داود: الطهارة (336).

المصدر:

  • الكتاب: رسائل وفتاوى العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثاني).

اقرأ ايضا:

  1. معنى «لا إله إلا الله» للإمام محمد بن عبد الوهاب
  2. أدواءٌ عرقلت أُمّة .. التبعية والغوغائية
  3. الدِّين الحقُّ

التعليقات غير متاحة